رسالة السادسة عشرة |
ـ ((كذبت كف على أطرافها |
رعشة البعد، وإحساس المسافر))!! |
|
ـ سيدتي: |
كان مساء.. خيل إليّ فيه أن عقارب الساعات المملة، قد تحولت إلى أكف غاضبة.. تمتد لتصفع، لكنها تتصلب في منتصف الطريق! |
إنه عقاب الانتظار لك.. إنه غضب ((الخفق)) حينما يجنّ اشتياقاً لك! |
ولكن... حتى عقاب الانتظار، كان جباناً!! |
مرهقة تلك الثواني التي انتظرت فيها دخول صوتك إلى سمعي، وقد كان كل شيء يتوقف.. إلا رهافة الارتقاب للحظة لا نعرف مسافتها كزمن، وترهقنا جداً كإحساس! |
لماذا تبدلت إبتسامتك، فأصبحت ((تحديقاً)) كأنه الذهول؟! |
أين اختفت نظرتك ((الشاعرة)).. كلما كنت تتأملين وجهي؟! |
لم يكن كل واحد منا يمل من النظر إلى وجه الآخر.. حين يخيم صمت حبيب، يمنح للعيون الكلام، وللخفق البوح، ولاحتضان الأصابع وتشابكها: العهد والامتزاج! |
ـ ما بال ((الأنثى)) اليوم.. تضيع في كيان ((المرأة)) التي تفتش عن الانتصار، والمعارك، والمواقف الصلبة، والفعل ورد الفعل؟! |
سؤال.. بات يطرحه كل رجل، يتوق إلى حنان المرأة التي باعت حنانها لأشياء تعتبرها مصيرية.. وهي تطوح بالمصير ذاته! |
أسئلة.. أسئلة!! |
وفي لحظة المداولة مع النفس - يا سيدتي - كانت تتراقص قسماتك الإنسانية في مخيلتي! |
أطلقت ((آهة)) من العمق.. ولم تكن ((آهة)) الضعف، بل هي ((آهة)) جاءت بفعل صدأ ((الأبواب)) الذي يتراكم فوق دروبنا.. بل وفوق ضلوعنا! |
لقد دخلت ذات مساء من بوابة صدرك.. وجدت قلبك لؤلؤة ناصعة، وخفقك أنفاس الحياة الأجمل.. وطابت إقامتي في داخلك، ولم يدر بخلدي لحظة أن يبلغ الصدأ نصاعة اللؤلؤة، ولا أنفاس الحياة الأجمل! |
كثيرون - يا حبيبتي - أولئك الذين دخلوا ولم يخرجوا أبداً.. برغم ما تصاعد حتى كان في إرهاق المحن، فكان ((تاريخ)) بعد دخولهم، وكانت ((حكايات)) ربما تضخم بعضها فاصبح بحجم الأسطورة والملاحم! |
ولكن... لم يكن هنالك ((تاريخ)) بعد خروجهم! |
وتستطرد الأيام، ولعلّ ((التاريخ)) لا يستدير.. لا يلتفت، ولكن ما يبقى ((بالذكرى)) هو الذي يتفوق حتى على التاريخ.. وما يبقى ((بالحنين)) وبالوفاء، يكون أكبر بكثير من الزمن كله! |
لقد كان هنالك دخول رائع، ومثير: |
ـ دخول ((ليلى)) إلى قلب ((قيس)).. وخروج ((قيس)) من الحياة، وبقاؤه في قلب ((ليلى))! |
ـ دخول ((فلورندا)) إلى وجدان ((طارق)).. حين كتابة فصل مثير من التاريخ العربي! |
ـ دخول ((بيا ترتشه)) إلى مشاعر ((دانتي)). |
ـ دخول ((الجيوكندا)) إلى حياة ((دافنشي))! |
(ملحوظة: لقد قمنا - ببراعة فائقة - بتعريب كل تلك المشاعر الأعجمية إلى الوجدان العربي.. عبر التأثير الحضاري، وبرابطة العلاقة الإنسانية)! |
ـ وهناك أيضاً دخول ((عز الدين أيبك)) إلى الحمام الذي أعدته له ((شجرة الدر))!! |
ومن مسرحية الكاتب القديم ((سيدني هيوارد)) التي سماها: ((تريستان وايزولت)) باسم بطلي المسرحية.. نقرأ أن ((تريستان)) مات من الحزن، أما حبيبته ((ايزولت)) فقد ماتت عندما رأت حبيبها يموت!! |
وهذا الدخول - يا سيدتي - أحسبه ((المؤتلف)) في لحظة واحدة، لا تعني الانتصار! |
وتجدينني الآن أدخل هذا المساء الذي أكتب لك فيه - في بعادك - ويأتي دخولي إلى عالم من التأمل والتذكر.. أستعيد عنف الحوار الذي قامت عليه فكرة مسرحية ((سيدني هيوارد))، ولم أكن مبللاً، ولا متخشباً.. بل كانت الرؤى طرية، وكان عقاب الانتظار جباناً!! |
ترى... لماذا بقيت أنتظرك؟! |
ترى... لماذا لم تحاولي أن تعرفي ((استمرارك)) في عواطفي؟! |
إننا نغامر أحياناً.. فندخل إلى صلب أفكار لها سور ((طروادة)) فنستخدم ذلك الحصان!! |
ونخاف - أيضاً - فنقف أمام أشياء ليست محددة، وبلا أبواب! |
لكن الدخول إليها مرهق.. لأنها تيه، والأفكار - وحدها - قادرة على أن تمنحنا التصرف، والسلوك، والانطباع!! |
* * * |
ودعيني - يا سيدتي - أتباطأ معك أمام ((ليوناردو دافنشي)) وحكاية دخوله! |
((فرانسسكو ديل جيوكوندو))، إيطاليا. الفن. الريشة العبقرية المعبرة بإحساس الجمال، المجسدة لتاريخ ولزمن، ولثوان هامة. التأمل. الإعجاب المتأني الذي يكبر حين يصبح حباً. الأمل بالانتظار. الاعتقاد المترنّح من ضربات العاصين لأعماق الإنسان فيهم. |
كل ذلك.. يتشكل في ملامح أسرى، يحبون سجنهم، ويتطلعون إليه بوله، ولعلّهم لا يطمعون إلاّ في البقاء داخله.. فقد كانوا: أسرى ((نصف ابتسامة))!! |
((نصف الابتسامة)) تلك.. رسمتها ((الجيوكندا)) قبل حوالى 470 عاماً على شفتيها، وواجهت الأنظار المصلوبة على جمالها، والمشدوهة بحسنها.. وجلست أمام عبقري الفن الإيطالي - كما سموه -: ليوناردو دافنشي، يرسمها.. يرسِّخها.. يحفر قسماتها تلك على وجه التاريخ، ليكون التاريخ ذاته منذ ذلك الحين: بنصف ابتسامة!! |
ـ (ملحوظة أخرى: أفكر الآن في عمل أقدر أن أخلدك به.. أرسخك.. أحفرك على وجه التاريخ. ولكني لا أجيد فن دافنشي ولا أمتلك عبقريته، بل أريد أن تكوني أكبر من الجيوكندا... فكيف أحبك أكثر)؟!! |
خمس سنوات جلسها ((دافنشي)) أمام ((الجيوكندا)) يجعل من خطوط ريشته إطاراً يحفظ ملامح ذلك الجمال، وذلك الغموض الكامن في ((نصف الابتسامة))، فيحفظها من صدأ الأيام!.. فذلك الغموض الكامن.. هو الوضوح الكامل في وجدان ((دافنشي))!!! |
أما أنا.. فأريد أن أجلس العمر كله أمامك.. أجسد جمالك، وأنقب في خلفية غموض ابتسامتك النصفية... هذه الابتسامة التي حيرتني بحق، وجعلتني أتساءل دوماً: |
ـ هل أنت تبتسمين لتعبري عن حزنك الكامن في أعماقك؟! |
أم تراك تحزنين بكل أعماقك.. فيطفو الحزن على شفتيك في شكل ابتسامة؟! |
حتى حزنك... يتسم بهذه الرقة المتناهية التي تتحاشين بها أن تجرحي مشاعر غيرك، ومن حولك! |
صدقيني.. لن أشعر بالملل حين أبقى العمر كله أمامك.. ولم يكن ((دافنشي)) خلال السنوات الخمس، قد شعر بالملل. بل كان ينقل الأصل بدقة ووضوح إلى لوحة رائعة وكان سعيداً هانئاً.. يود لو يطول زمن إنجاز اللوحة!! |
لقد كان ذلك ((النصف)) من ابتسامة ((الجيوكندا)) هو التجاوب الوحيد والفريد، الذي منحته ((الجيوكندا)) إجابة على تساؤل الفنان الكبير.. وهو يقول لها بخجل شديد، وباضطراب أمام الجمال الأخاذ: |
ـ سيدتي... إنني أحبك. غريق أنا.. فهل من سبيل إلى إنقاذي.. هل أرتقي إلى شعورك، فيبادل شعوري؟!! |
و... ((بنصف)) الابتسامة تلك، تنظر إليه، و... ((لأنها تبتسم نصف ابتسامة، فلا هي قالت: نعم، ولا هي قالت: لا))... لم يكن الفنان لجوجاً، ملحاً، مفرطاً في أمل الراحة النفسية، بل اكتفى بما قالته له بالرمز.. كأنه لم يرد أن يفقد الأمل نهائياً بالتصريح المباشر، وأقتنع أن ((نصف الابتسامة)).. هي إجابة لا تنفّر، ولا تدعو للامتزاج أيضاً!! |
فهل كانت ((الجيوكندا)) بخيلة في الإفصاح عن شعورها، لتغمر فناناً طيلة خمس سنوات، تأسره، وتطبق عليه بالحيرة.. لأنها كانت تحبه، ولم تكن تريد أن تفصح؟! |
أم أنها كانت أنانية.. تريد أن تحصل على أروع لوحة، تعرف أن التاريخ لن يطمسها. ولن ينساها؟! |
أم تراها طبيعة الأنثى.. عندما تتأكد من شعور رجل نحوها، فتتدلل، وتمعن في غموضها وكبريائها؟! |
كانت ((الجيوكندا)) كأية أنثى.. فلقد أعجب ((فرانسوا الأول)) ملك فرنسا باللوحة وبالرسام، ودعاه إلى قصره، وابتاع منه اللوحة.. فهل كانت صاحبة اللوحة تعلم أن السنوات الخمس التي أفنتها أمام رسامها ((بنصف)) ابتسامة، وبانتظار حائر من الرسام للإجابة على سؤاله.. هي سنوات رخيصة تباع بثمن، وتعلق على جدار قصر؟! |
إن ((نصف)) الابتسامة تلك.. لم تكن إجابة تروي غليل الرسام الصابر المنتظر.. كانت كالذي يمتح لك من بئر ليروي ظمأك، حتى إذا بلغ الدلو منتصف البئر، قال لك الساقي: انزل لتأخذه وتروي عطشك! |
* * * |
وهكذا - يا حبيبتي - علَّمنا عصرنا المادي والسريع والآخذ دوماً.. أن ((الدلو)) لا يمكن أن يبقى في المنتصف، فهو إما أن يكون في القاع، أو على السطح! |
لكن ابتسامتك أنت.. كيف أصفها؟! |
إني أحس أمامها بصدق حبك.. ولكني أشعر بالخوف من ((نصفها)) المتواري! |
|