الرسالة الرابعة عشرة |
ـ ((أبحث عن من يعطي للحجر شفاه |
الأطفال... |
والتاريخ: قوس قزح.. |
والأغاني: حناجر الشجر))!! |
|
ـ سيدتي: |
على وقع خطوات الزمن الموغل فينا، والموحش لنا.. شردت رؤاي.. غذت المسير: تأملاتي. |
ركضت في أعماقي التصورات. انطلقت كوامن النفس، وقلق الفكر خلف ((أقدام)) الزمن الذي يرحل في كل يوم جديد! |
ترى.. كم ((نقلة)) قدم يحتاج إليها الراحلون.. ليستقروا في فجوة من فجوات الماضي؟! |
لا تخافي - يا سيدتي - حين أتحدث عن الماضي!! |
إنني لا أقف أمامك ممتهناً لوجودك الحقيقي في حياتي اليوم.. فأذكر لك ذلك الماضي. |
أنت لديك ((ماضٍ)) من الذكريات الحافلة، والركض، والتجارب، ولعلّ بعض الأصداء ما زالت ترنّ في يومك حينما تكونين وحدك، أو عندما تضعين رأسك على الوسادة! |
أذكر أننا عندما التقينا أول مرة.. سألتك: |
ـ هل تبقّى شيء كالرواسب من الماضي في حاضرك؟! |
لاحت ابتسامة على شفتيك المتفائلتين دوماً، وقلت: |
ـ الآن... أحبك أنت، فلا تسأل عن الماضي. |
ـ قلت لك: يعني أنك ما زلت تحتفظين بالذكرى؟! |
ـ أجبت: وهل تنازلت أنت عن ذكرياتك ونسيتها معي؟! |
ـ قلت: أنت انطلاقة ما تبقَّى من العمر إلى نهاية العمر، وليس من طبعي أن أتلفت إلى الخلف. |
اكتشفت فيك كثافة من العاطفة.. إلى درجة ((وفائك)) للذكرى. |
ـ قلت ضاحكاً يومها: سأجعلك لا تتذكرين يوم أمس.. بل ستكون ذاكرتك مشدودة إلى اليوم، والغد، ونحن معاً! |
ـ قلت لي: أنت مغرور.. ولن تستطيع ذلك، فهنالك صور حفرها الزمان في قلبي! |
ومضى عام كامل. قلت لي في مسائه الأخير، ونحن نحتفل بدخول عام جديد: |
ـ لقد هزمت ذكرياتي. ألغيت كل الصور التي حفرها الزمان القديم، وبقيت وحدك تتربع في أرجاء نفسي.. فلا تذلني باستحواذك حتى على عقلي! |
ولم يكن ((الحب)) دافع إذلال.. لكنه ((تحديد)) محبب للطرفين. |
وعندما أحدثك - هنا - عن الماضي.. فذلك يعني: رواية شريط عمري كاملاً، وقد أصبحتِ أجمل صورة فيه، وأكبر مساحة، وأنبل علاقة! |
* * * |
ولكن... لماذا قلت لك في بدء هذه الرسالة: لقد شردت رؤاي؟! |
نعم.. شردت تفتش - يا حبيبتي - عن الحياة الحقّة.. عن اقتناع محسوس، يؤكد أن السنين ترحل، بعد أن تخلّف وراءها بقايا المعاناة، وثمالة التجارب، وأصداء الخطوات، وتحفر الأجمل، والأبهى، والأكثر حزناً! |
والأعوام.. هي تاريخ الحياة، وهي عمر الإنسان.. والمخلوقات الناطقة لا ترتضي واقعاً متقلباً.. كثير الترحال في صوره، وأزمانه، ومفاهيمه! |
لقد قيل: ((إن الحياة منحة.. وأثمن منحة تُعطى مخلوقاً، هي الحياة))! |
والإنسان يرضى من الحياة أن تعطيه: بسمة صادقة، وفرحة عفوية، وتغييراً لا يرهق الألفة والحنين!. ومن عجيب السنين أنها تبني الجديد، ولا تستطيع أن تهدم القديم. |
لكن الإنسان - أيضاً - يرفض الدعة والاستقرار.. إنه يبحث عن التجديد، وينزع إلى تغيير ((قشري)).. ثم يسخِّر وجدانه آنذاك لإقناع معاشه وأيامه.. بقشور ذلك التغيير! |
* * * |
وغذت المسير تأملاتي - يا سيدتي - فاحتملي صراخي هذا.. كأنني أخاف عليك أنت أيضاً من هذه الحياة.. أخاف على حبنا من التغيير، ومن القشور.. أخاف على أثمن منحة، هذه التي اسمها الحياة، ولن تكون حياة حقة بدون الحب أبداً! |
وفي داخلي يصرخ الآن سؤال مرهق: |
ـ ما الفائدة من وراء ذلك التعاقب الملحّ الذي ((تتصرف)) به مشاعرنا نحو من منحناهم حياتنا؟! |
والمنح لا يكون بدافع التضحية، كما قد يقال في التعبير العفوي، والملزم أحياناً. |
والبعض يرفس ((التعاقب)) بتبرير واحد.. ينحصر في معنى ((المصير)) الذاتي. |
إن ((المصير الذاتي)) إذا تحكَّم.. فإنه يسلخ أمانينا من وجداننا، ومن أفكارنا، ويجلد تفاؤلنا على سطح ساخن، اسمه: ((النظرة المحصورة))، ويفتت القيم والروابط عندما نربطهما بالخوف من كل شيء. حتى من شجاعة نفوسنا! |
والتصورات - يا سيدتي - تركض في الأعماق أحياناً بغير إرادة منا.. كما يركض الطفل الصغير على درجات بيته، وهو يرى والده يحمل له هدية بين يديه! |
تصوراتنا.. هي أطفال وجداننا، لكننا - غالباً - ما نتناسى توصية التربية بعدم ضرب الأطفال على كل شيء! |
لقد صورت لك مرة كيف أن السنوات تتعاقب، ولذلك التعاقب فلسفة.. قلت لك فيها: إن الإنسان ينتقيها، ليجعلها هي التعبير الملاصق الذي لا يمكن أن يحل مكانه بديل! |
ويبدو أنك رميتني بهذه النتيجة التي استنبطها - تلباثباً - منك، حتى قلت لي: |
ـ كثيراً ما تكون الذكريات غذاء الروح! |
أنا معك في عطفي على الذكريات.. في اهتمال رواسبها أيضاً.. في تقديري لماضيها يوم كانت حياة ذات وجه نيّر.. يقترب من فكرة المصير في حينها وزمانها. |
لكني - منطقياً - لست معك اليوم، عندما تشعرينني - تلباثياً أيضاً - أن العظماء الذين فقدوا أمجادهم.. بقيت لهم أحلامهم، وذكرياتهم، وقطعة هامة في نفوسهم.. أَوْدعوها متحف الزمن، وخزانة النفس - الأسرار! |
إن ((جبران)) قال من زمن طويل: |
ـ ((الذكرى.. ورقة خريف، لا ترتعش في الهواء لحظة، حتى تكفن في التراب إلى الأبد))!! |
وأتصورك، وأنت تصغين إلى هذه العبارة.. ترتعشين.. تفتحين عينيك، كما ينفتح قلبي لك بدون حدود.. ثم تقولين بذهول: |
ـ إن النظرة شاملة.. ولكن الشعور صادق ومتدفق! |
إن العَدْوَ وراء خطوات الزمان.. كان محاولة بحث جادة، لعلّني أعثر على ورقة خريف! |
لقد اقلعت - يا سيدتي - عن التلفت إلى الخلف من وقت طويل.. ربما لأن ((النداء)) من الخلف.. من الذكريات.. من الذين أحببناهم بصدق، لم يعد يمتلك صوتاً صادقاً، ولا راغباً في النداء! |
وأيضاً.. لأن ما أحياه حاضراً، يمثل شجرة ربيع مورقة.. تعبق من رائحتك أنت، وتطرح من ثمارك أنت وحدك! |
والأكثر قسوة. أن نحيل مشاعرنا إلى ماضٍ، يخاف حتى الذكريات. |
ولست أخاف من الماضي.. فالذي كان ثابتاً فيه، ومحفوراً، وصادقاً، لا يمكن أن تقتلعه رياح الزمان، ويبقى في جوانحنا زاداً، وتذكاراً، ووفاءً! |
ولست أحاسبك على الماضي أبداً.. لكني أخاف من هياج الذكرى في نفسك.. هذا الهياج الذي قد يتحول بين ضلوعك إلى إعصار ينسف حاضرك! |
ولا بد أنك تتساءلين بمكر: |
ـ ألا تثق في نفسك، وقدرتك على بقائك في أعماقي للأبد؟! |
ـ والجواب: إنني أثق جداً.. وأعرف أن ((الرجل)): فعل، وأن ((المرأة)) هي ردود الفعل!! |
و((فعلي)) معك.. هو صدق هذه الخفقة التي يزداد تأججها في كل يوم جديد! |
وتعرفين - أيتها الحبيبة - أن الحب لا يُهزم.. ولكن القسوة عليه: أن يصاب بالفجيعة.. ولحظتها ينتحر!! |
|