الرسالة الحادية عشرة |
ـ ((ليت الذين أحبهم علموا |
وهموا هناك. ما لقيت هنا))!! |
|
ـ سيدتي: |
لحظات ((التوقف)) أيتها الغالية... لا تعني ذلك الانبهات.. لا تعطي تشخيصاً لمرض اسمه: ((الشلل))، أو - على الأقل - البرود في العطاء والتلقي.. داخل عاطفة إثنين اندفع كل منهما نحو الآخر، وركضا معاً على دروب شاسعة وطويلة! |
((التوقف)).. قد يُفرض اضطراراً، ولا بد أنه يُحدث اضطراباً في العلاقة بين المتحابيْن! |
((التوقف)).. قد يلزمه التفكير والتأمل. |
وأحياناً.. نحن نتوقف لحظات، لأننا ننصت.. نستجلي ما حولنا من إطارات بشرية، وألوان إنسانية، و((التزامات)) زمنية تأخذ منا ولا تعطينا... أو لعلّها تعطينا غبار الأيام والأقدام! |
أردنا أن نتوقف يوماً: أن لا أراك، ولا ترينني... أن لا أحادثك، ولا تحادثينني.. أن يفرد الصمت جناحيه بلون الليل! |
ذلك ((قرار)) لم نحبه، ولم يكن يريحنا... ولكن ((الممارسات)) فرضته. |
لكي نتوقف.. ينبغي أن لا نتلفّت حولنا، ولا خلفنا! |
وكان ذلك ((قتلاً)) لروحينا.. خنقاً لكل لحظة ذكرى وحلم! |
والإنسان يتوق دائماً إلى ((أنانيته))... وأجملها، وأروعها: أنانية الحب... أما الألوان الأخرى من الأنانية، فكنا نستهجنها، ونسقطها قبل أن تسقطنا.. لأن الأنانية ترمي صاحبها - في النهاية - وحده.. حتى بلا أصداء! |
* * * |
كنت أشاكسك أحياناً... فتطلبين مني أن ((لا أمارس)) فلسفتي عليك.. ما بيننا حب كبير، صادق لا خداع فيه، وأصيل لا تزييف فيه! |
كنت أقول لك: أنت ((قمر)) مغرور! |
وكنت تردين عليّ، فتقولين: وأنت سمائي ومساحاتي التي ألقي عليها ضيائي! |
أصدقك القول: إنني اشتقت كثيراً إلى التلفت خلفي... لأسترجع بعضاً من لحظات الانطلاق معاً، والجنون معاً، و((الحلم)) الذي ضمّنا ونسجناه من أمانينا وخيالاتنا ورؤيتنا للمستقبل! |
ولعلّني أسأل نفسي غاضباً: |
ـ ولماذا لا نتطلع إلى الأمام.. إلى الغد؟! |
لا تخافي.. إنني لم أفقد تفاؤلي بعد.. لم تفسد أحلامي، ولكنني متعب.. متعب جداً. |
سمعتك تشهقين حين بدأنا الحديث، وسألتني جزعةً: |
ـ ما هذا.. ماذا بك.. لماذا هذا الحشد من الحزن في نبرات صوتك؟! |
ضحكت بتكاسل. قلت لك: |
ـ لو كان الحزن وحده، لما تألمت، ولما جزعت أنت... فالحزن صاحبي، ومصاحبي منذ الطفولة.. لكنه التعب - أيتها الغالية - هو الذي يسحقني، ويلوكني. |
ـ قلت لي: وهل تعبت من الركض، ومن الأمل؟! |
ـ قلت: تعبت من التفاؤل! |
أفكر أحياناً في هذا الإنسان الذي كان يعتز بانسلاخه من ((حيوانيته)) الأصل، عندما يرفض ما لا يفهمه، وعندما يحتقر الذين يهينون نظافة الحياة، وشرف الأحياء.. وعندما يُسقط ما لا يختاره ويقتنع به، وعندما يطأ علق الأرض... فينسى تارة، ويتناسى تارة أخرى... وتعلكه نفسه، ويضرمه وجده، ويحترق - إن لم يكن بفكره - فكل إرهاصات الطموح! |
في لحظة البحث عن إنسانيتنا.. نتلمّظ على ((نظرة خلفية)) نشاهد بها أخطاءنا، وأحلامنا، وأيامنا التي قيل إنها لن تعود.. بينما هي لم ترحل حقاً، لأنها مغروسة في أعماقنا! |
كل متأمل لارتعاشة خطوته عند التوقف.. ((يعقل)) ضرورة امتهان النظرة الخلفية.. فالزمن مسيرة، والناس يمتلئون أحياناً بالهواء، كما دولاب العربة... بهذا التشبيه الدقيق! |
بعد ذلك.. بعد التوقف، قد نسير.. نواصل الخطوات، ونخسر ذلك الامتلاء بالهواء بسبب الوقوع في حفرة.. بسبب مسمار انغرس في ((امتلائنا)) ذاك |
* * * |
أحياناً - يا سيدتي - أقشعر!! |
أفكر أن خطواتنا مرهونة بمسمار ينغرس بكل غفلة، أو لحظة ارتياد درب وعر غير ممهد، أو أثناء السرعة.. فيتساوى الإنسان ودولاب العربة.. تتساوى خطواتنا ودورة دولاب العربة... تتساوى ((أرضية)) زمننا، بأرضية أي شارع منهوك بسيل متدفق! |
قد تتداعى كل أحجار الصلف والأنانية.. أيتها العزيزة. |
قد ينقشع ضباب الحيرة من أفكاري.. كآدمي: أعدو أحياناً بطريقة ((مكانك سر))! |
لكن هذه الجغرافية/ التاريخية لإنسانيتي.. لا تتمكن من ((لحظة)) توقف واحدة.. أصغي فيها إلى نبرة واحدة تترادف كزخات الغيث.. تجعلني أرفع ستائر ضلوعي ونفسي، وأطل من وراء زجاج النافذة.. ولا أقدر أن أخطو إلى الشارع! |
إن المعاني... هي شحنة قوية دافعة.. تخلصنا من ((التوقف))! |
* * * |
وهكذا - أيتها الغالية - سيشدك العجب، حين أقول لك الآن: |
ـ وددت لو أنني صهرت، وتحولت إلى ((لحظة)) مرنة، مطواعة! |
لست ملولاً دائماً.. لأنني أتعلم الصبر، لأتخطى هذا الفراغ الدائري بسلبية الذين يصنعون ((الأزمنة الحديثة))... بإغفاءة الهمسات... بتبلد الأحلام! |
رغبة - يا سيدتي - استطعت أن أصيغها، فيما يبدو، في عبارة مفهومة إلى حدٍّ ما!! |
لكنها رغبة لا يتعاطف معها هذا الذي يجيش في النفس، ويصارع الملل والفراغ المكاني والزماني. |
هذا الذي هو حشدُ تَوْق، ونداء ينساق وراء صوت ((فيروز)) عندما كانت تشدو بكل الحزن النبيل: |
ـ ((أنا في ضيعتي الينبوع جاري... رفيقي الحزن والبستان جاري))! |
إن الحزن لا داعي له في الضياع، لأن الحزن ((حس))، والضياع بدد.. فهل احترق البستان يا سيدتي؟! |
سأقول لك: إن كلام الوجد... يطارد التقصي في النفس! |
سأقول لك أيضاً: إن العجب سيشدك، لأنني لا أعرف كلمة: لماذا؟! |
باتت الأسئلة سخيفة. |
كان الإنسان أنيقاً في سلوكه، وحتى في أغراضه.. كان يحفل بالحياة وبأحزانها أيضاً، ومع هذا الاحتفال.. كان يتقصّى إحساسه الحي وهو يجري خلف شيء، ومعه هذا الإحساس: يتقصّى الأسئلة! |
جواب واحد فقط: نحن في حاجة إلى من يعرف أكثر.. إلى من يريد أن يعرف فقط! |
أحياناً أخاطب هذا السيل البشري.. بكل تعبي، وأتساءل: |
ـ أيها البشر.. ممن ما زال يصارع الأناقة، وما زال بوهيمياً ومتألماً: من انتزع فواصل العبارات من سطور قالها مفكر عظيم، ومن سطور أطلقها مجنون، ومن همسة نشرها عاشق... فقرأنا ذلك كله في لحظة واحدة، وبنفسيات مختلفة، وبمفاهيم متفاوتة؟ |
* * * |
سأقول لك - أيتها الغالية - مُتعب أنا.. وتحت عبارتي ((خط الاستواء))، وصدى موال يردد: ((الليل أهو طال، وعِرْف الجرح ميعاده))! |
بحثت عنها عبارات الغزل.. وكان كلب يعوي بعد منتصف الليل بدون ملل! |
في صدري بوم، وعلى شفتي همسة، لا أحب لها أن تتلوّن بالغزل ((المعاصر))، بعد أن رخص هذا الذي أسمه: ((الغزل)) إلى درجة بعيدة عن تأثر الوجدان! |
ربما طردت الأسئلة، واستخدمت الأجوبة.. كجسد بلا رأس! |
وتلتحم بهذا الملل، والتعب المضني، والنداء: كلمات من الذكرى.. احتفظت بها من أصداء ما كان يتألق به ((بلند الحيدري)) في الزمن القديم.. قبل أن يعوي الكلب في صمت الليل... لتكون الكلمات هنا الآن شيئاً كالدوافع، يجعلني أمتشق بعض المعاني، وأوجهها إلى جغرافية الإنسان في فواصل العبارات المتدافعة على شفاهنا ونحو أسماعنا.. فإذا هو يقول من الزمن القديم: |
((آه لو تدري.. ما أطول رحلاتي في صدري! |
رحلات تمتد طوال اليوم... في اليقظة.. في النوم. |
لا الضحكة تغفو في صدري... |
لا الرغبة مدت رجليها.. واستلقت سراً في سري))! |
|
|