الرسالة التاسعة |
ـ ((إن المرأة.. هي التي توحي لنا |
بالأشياء العظيمة التي تمنعنا هي |
نفسها عن تحقيقها))
|
|
ـ سيدتي: |
وأظل أعيش ذكراك بكل أعصابي.. بدمي.. بالمشاعر التي يحياها الإنسان! |
ذكراك الباقية في قلبي، وخاطري.. وتلمع ممتزجة بأدمعي التي باتت تريحني! |
إن غمامة المشاعر التي تلفني.. تجعلني في وضع لا أجد له تفسيراً، سوى أن يكون هو الهاجس الذي يخامرني عن المناخ الذي تعيشين فيه... كيف هو؟! |
وعندما حلّ موعد حددناه معاً، ولم أجدك... كتبت لك في ورقة صغيرة: |
ـ ((سيظل ندائي عليك لا يخبو ولا يملّ))! |
أعرف أن ظروفك صعبة، وأن امرأة جميلة مثلك في الغربة.. لا بدّ أن يتوازعها القلق، والخوف من مواصلة مشوار الحياة وحيدة! |
ألم أقل لك من زمن: مهما شعرت المرأة بقوة ذاتية من داخلها، وبتصميمها. إلا أنها تتلفّت بحثاً عن ((رجل)) يقف بجانبها، ويمنحها الأمان والدفء؟! |
خفت عليك من ((رأي)) قد يظلمك، ولكنك تعانين من أبعاده! |
فقد تصورت أنك تعيشين عقدة نفسية لا تجدين وسيلة، أو شجاعة للإفصاح عنها، أو حتى التألم منها.. ولذلك رأيتك تلجئين إلى التشكيك في سلوك الآخرين معك، أو قيام ظن السوء في نواياهم! |
إن الشك والظن.. طريقان يسلكهما كل إنسان يدب على الأرض. |
حتى ((الحيوان))... يعيش نفس الشك، ونفس الظن... لكن بالغريزة التي نسميّها الحذر، غيره غير الإنسان الذي يعيشهما أيضاً، ولكن بالحدث أو بالأحداث، أو بالنظرات، أو بلمسة اليد، أو بالهمس، أو بالتحرك.. أو أي كلام يقال كتفسير أو تبرير، وإلى آخر ما قد يبعث حقًّا على الشك، وسوء الظن! |
وإذا عاش الإنسان على هذا الحال.. فإنه سيتعرض دائماً لكل العقد: الصحيح منها والزائف أيضاً.. حتى يتحول مثل هذا الحال إلى سلوك مرفوض، كالرفض الذي تعيشين أسبابه الآن.. وبالتالي تصرّين على ممارسته! |
* * * |
إن استمراري في البوح بأصفى المشاعر، وتقديم العون لك... لا يعني خضوعي وقبولي لتصرفك القاسي معي، ولاستعلائك المستهجن من العواطف النقيّة.. لأن مفهوم الكرامة الذاتية، شيء يختلف تماماً عن مفهومي للموقف الإنساني الذي ربما كنت في حاجة ماسة إليه، وقد يجنّبك رواسب أكثر قد تتراكم في نفسك ضد الآخرين! |
* * * |
بعد هذه الوقفة مع نفسك، ونفسي.. دعيني - يا سيدتي - أنتقل إلى حنايا ضلوعك بأسرارها، وبإضاءتها، وبظلالها.. فأسألك: |
ـ ماذا يعني مثل هذا ((العشق)) مني لك، ومثل هذه الارتباطات بعمومها.. يحياها ((العاشق)) لامرأة قد لا يعنيها من أمره إلاّ أن يكون هذا ((العاشق)) تمثالاً تتفرج عليه، وقد تقلبه ذات اليمين وذات الشمال، لتعرف أي الجنبين أكثر امتلاءً؟!! |
لقد كان مفهوم ((العشق)) في الماضي يتحدد في التأثر به.. ربما من العاشق والمعشوق معاً! |
والقصص التي قرأناها في الكتب.. عن الرواة، والمشّائين، والمتفرجين، والمشفقين.. لم يقولوا لنا شيئاً كالذي نقوله الآن، وإذا قالوا.. فلا ندري عنه شيئاً، إلا أن ((العشق)) الذي فهمناه في تلك الأيام، ليس هو عشق هذه الأيام! |
كان الماضي - يا سيدتي - يعتمد على البراءة، وعلى الأنساب، والأرومة، والأصالة.. ولذلك كان لكل تلك القواعد: تأثير كبير قد يسبب الرفض عندما يكون الزواج هو النهاية السعيدة! |
ومن المضحك حقاً... أن نعتبر نهاية ((العشق)) في ما يسمى بـ ((الزواج)) على اعتبار أنه النهاية السعيدة، ونتناسى كل المشكلات التي تنشأ بعد ذلك.. وأبرزها: المعاشرة، وأسلوبها، و((نزَّها))، وَطَنِينُها. |
* * * |
في السنين الغابرة.. كانت خيمة الشّعْر، والجمل، ومراتع الحل والترحال في البوادي، وحيث الزرع والضرع.. حيثما كان منتهى آمال الزواج السعيد! |
ثم تبدأ السعادة في التخفف من الغزل، والآهة، والكثير من الأحلام التي كانت اللذة المنتظرة إحدى مظاهرها! |
ذلك.. لأن المحاولات المستمرة، ذات الأماني القزحية.. لم تعد بالقوة التي ابتدأ العشق والهيام يتخذ مجراه بها لتحقيق النهاية السعيدة! |
ثم - ثانية - إن العشق الشهير لم ينته بالزواج إطلاقاً.. لأنّ الأرومة، والنسب، والأصالة، وإلى آخر الاعتزاز بالأنساب في الجاهلية الأولى... حرمت العاشقين من النهايات السعيدة التي يحرص أحد العاشقين، أو كلاهما على تحقيقها. |
ـ المجنون، وليلاه.. لم يتزوجا! |
ـ عزة، وجميل.. لم يتزوجا! |
ـ الشعراء المولهون، المدنفون، العشاق: عمر بن أبي ربيعة، والأحوص، والعرجي، وكثير عَزّة.. ثبت أنهم لم يتزوجوا - لا محبوباتهم ولا نساء أخريات - وأكثرهم ليس له أولاد، ولم يكلفوا أنفسهم بتكوين بيت.. فيه المرأة والرجل والطفل! |
ونتذكر - هنا - ذلك البيت المشهور من الشعر: |
بربّك.. هل ضممت إليك ليلى |
قبيل الصبح.. هل قبّلت فاها؟! |
|
هنا... يتحسّر الشاعر، ويتّضح أن من ذكرناهم.. أناس غير أسوياء في تركيبهم الفسيولوجي، ويعانون من عجز الرجولة! |
* * * |
ثم تغيرت النظرة إلى مقامات البشر عموماً.. بما فيهم العشاق أيضاً! |
لم تعد للأنساب سيطرة الحرمان إيّأه.. ولو أن الأصل في اختيار ((النطفة)) مطلبٌ أساسي أوصت به السنّـة المحمدية.. لكن كرامة الإنسان قد حددها الخالق عزّ وجل، بقوله الكريم: |
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات:13). صدق الله العظيم. |
غير أن ((الحبّ)) بكل أطواره التاريخية، وبكل سلبياته وإيجابياته.. لم يثبت براءته من المظانّ بعمومياتها! |
فكيف بالتفاصيل التي تحتويها النظرات، والابتسامات.. في غلالة واهية، أو حتى باهتة الألوان؟! |
والمظانّ كالشكوك: انفعالات لا تنفكّ النفس من معاناتها، منذ ولادتها وحتى وفاتها! |
فكيف - إذن - يستقيم معنى المثالية التي أخذ الناس يتحدثون عنها.. حديثهم عن أحدث نكتة تقال عن سياسة البيت البيض الأمريكي، أو ((داوننغ ستريت رقم 10)): مقر رئيسة حكومة بريطانيا، أو رئيسها منذ سنوات؟! |
وبهذه المناسبة - وقد جرّنا الحوار إلى السياسة الأمريكية والإنجليزية، والدول كبراها وصغراها - بأن ((المصالح أهم من الصداقات)).. فترانا نجرد مفهوم الحب عن خصاصته الرئيسية، ليخضع للاستعمال الذاتي... كمساومة بين العاشق، والمعشوقة.. حتى يغدو حبّ ((مصالح))، فيه أخذ وعطاء، قبل أن يكون حبًّا ((للجمال)) وللأخلاق، وللسلوك، ولدواعي الشرف والكرامة التي يتشدق بها المتظاهرون والمتظاهرات بممارستها.. كأسلوب للمساومة نفسها؟! |
كأنما الحبّ قد تحول إلى قرصنة ناعمة... ملؤها الخبث والمكر والخداع!! |
* * * |
وبعد... أيتها السيدة المتوَّجة ((زهرة)) تعبق في أرجاء صدري: |
رغم ذلك كله.. وفي كل الأحوال، والحالات النفسية، وضربات القلب، والذهول، والتأمل، والأصداء! |
أقول لك - غير مختتم لهذا البوح العقلاني - وقع خفقاتي، وندائي عليك: |
ـ لقد جمعت خيوط الفجر في عيني.. حين بقيت أنتظر أَوْبتك، فرأيتك ضياءً يبزغ في كياني! |
بتُّ أرتقب هذا الضياء: ضياؤك الوافد من الغد! |
بِتّ أراه.. أحسّه، يشعّ من داخلي.. منذ ذلك الفجر الأول الذي وحّدنا! |
ما زلت أقف... حدقتاي موصولتان بالأفق، وأدعوك: |
ـ أنتِ زمن السعادة الخرافي... في أحشاء زمن الأحقاد الصناعي!! |
|