الرسالة الثامنة |
ـ ((قد يتغير كل شيء فينا، كما |
يتغير كل شيء حولنا! |
لكن أشواقنا كثيراً ما تعاودنا))!! |
|
ـ سيدتي: |
تتعاطف أبعاد السماء الآن على امتداد بصري. |
تتآلف نتف السحب، وتتحول إلى وشاح رمادي. |
وتظمأ نظراتي.. وهي ترتقب غيثاً تجود به السماء.. يهمي، فيغسل هذا ((الهجوع)) النفسي في داخلي... ينظف حبات الرمل المتناثرة في صدري، ولها صورة: القفر، والضجر، والاجترار الأليم لتحولات.. أرادتها قواهر الظروف، لحياة ((اثنين)) كانا: واحداً... لتبدو اليوم: حياة واحد في اثنين انشطرا، وتناءيا! |
وتحت ظل تعاطف أبعاد السماء... ألتقط ((الجوهر))، رغم النوى، وعلامات الطريق الخطرة، المصلوبة والقائلة: قف... الطريق مقفل! |
يلوح لي أحياناً - يا سيدتي - أن اندفاع أفكاري في الطريق إليك، تحدّه علامة مصلوبة، منبهة.. تلك التي نُنْتضى مفاهيمها من جدليات، وضعنا لها مسميات.. انبعثت من المجتمع، وعوامل القدر، وثقوب النظرة البشرية! |
* * * |
يا سيدتي الأمثل، والأعز: |
بدونك.. كيف تعي ((الجدليات))؟! |
لقد أسقيتني من حروفك، ومن همستك، ومن حوارك... وحتى من ((جدلك)).. فارتويت حقبة زمنية، خلت نفسي فيها أنهل من بئر لا تنضب! |
لم يتبادر إلى شرانق الضياء في نفسي أن في البئر: أحزاناً! |
دائماً.. كنت مقتنعاً أن البئر تعطي السقيا.. تروي النبتة.. فلا يضمر بسببها ((جيد)) فارع، أو غصن مخضرّ! |
إن ما حصدته - بعد زمن - هو: عمق الرؤية. |
أما ما أرغدني - بحق - فقد كان: في الرؤى! |
تلك ((الرؤى)) التي أردت أنت اقتضابها.. فعسفتِ بها يوم نقاشنا - معاً - لثقوب النظرة البشرية! |
والفكر - يا حبيبتي - توأم الروح.. والروح لا تحتمل وقدة الجدل. |
إن الروح والفكر... هما: ((الإيمان)) الذي يجعلنا نشعر بأننا أكبر، وهو الذي يعطينا القدرة على الابتسام للحياة.. رغم الألم العميق الذي قد تعيشه نفوسنا! |
إنها ((حروفك)) هذه التي وصلتني قبل زمن.. فهل تناسيتها وتناءيت عنها بمرور الأيام؟! |
الحروف أصل الكلمة... والكلمة - يا سيدتي - عاطفة، مثلما هي عقل... وتكون في العاطفة: لهباً، وعشقاً، وبوْحاً، وبُركاناً! |
والعاطفة تتفتح بالحب، وفي الجمال. |
والكلمة... تعبير عن الحب، والجمال... أو هي: تعبير التعبير! |
كذلك... فإن ((الإيمان)): شعور.. والشعور هو: ((حلقة الاتصال بين ما قد كان، وما سوف يكون.. أو هو جسر قائم بين الماضي والمستقبل)) كما قال ((برجسون))! |
تذكرين يوم تحدثنا عن ((برجسون)) بالذات.. عن الاتجاهين المتعارضين: الحياة والمادة! |
وكيف قدر إنسان هذا العسر أن يمزج الحياة بالمادة، و أن يحيل أكثر أمور الحياة إلى ((مادة))... بينما خفتت إضاءة الروح! |
لقد أهمل الكثير من الناس: ((الحدس))، وركضوا وراء فقدان الذاكرة.. بينما ((الحدس)) - كما قال برجسون - يحقق إدراك حقيقة الزمن، و ((حقيقة الديمومة تظهر في قوة الذاكرة))!! |
* * * |
وأنا هنا - يا سيدتي - لا أعدو وراء عملية جراحية لشعورك! |
لكني شغوف بالتأمل هذا!! |
هكذا جعلتني - يا حبيبتي - أنساب في طيات الغيمة الرمادية، على سماء رحبة... أتطلع إلى اللاّمدى، وأتساءل: |
ـ هل تمتلئ السماء تعاطفاً؟! |
أقصد: هل تتعاطف نتف السحب بزرقة السماء.. بومض البرق... بزخات المطر.. بظهور ((قوس قزح)) بعد ذلك؟! |
إن كل هؤلاء.. يشكلون المتناقضات، لكنهم - معاً - يعطون الغيث! |
وبين شفتي، وفي قلبي: عاطفة.. حروف تقول: |
((جادك الغيث.. إذا الغيث همى |
يا زمان الوصل... بالأندلس))! |
|
أليس في بعض الملامح: ((أندلسيات))؟! |
حتى في النظرة إلى واقع حال أمتنا العربية اليوم... ونهاية تلك الحقبة الأندلسية! |
أليس ((الأندلس)) موطن: ولاَّدة، وابن زيدون؟! |
لذلك.. تجدينني ما زلت مفتوناً بالروعة في الطبيعة، والإنسان ابن طبيعته.. مهما كان هجوم المتغيرات الأخرى! |
وفي حضن هذا الإحساس الفاتن... أذكر عبارة الشاعر الإنجليزي ((ويليام بليك))... قالها بشعورٍ ظامئٍ إلى الغيث: |
ـ ((إنني أرى العالم كله في حبّة الرمل.. والسماء في الوردة البرّية.. وأمسك باللاّنهائية في قبضة يدي، وبالخلود في ساعتي الزمنية))!! |
وهذا ((الشعور)) الذي له ألوان لوحة باهرة.. قد يتعارض مع لوحة شعرية أخرى، رسمها شاعر بالكلمة، فقال: |
الليل... كالزنجي مسو |
دّ الذوائب والطرر |
لفّ الحياة.. بصمته |
لمّا تثاءب، واعتكر |
والدرب أقفر، والرياح |
تناوحت.. تنعى القمر |
إلاّ خُطى العسس الثِّقال |
المنبئات عن الضجر |
وأنا هنا... أجترّ أحزا |
ني.. فيلفظها القدر! |
|
وهكذا... أحسّ بأنني لا أصطبر على هذا البوح الحقيقي، المؤلم... لكني أستاف العطاء... كل العطاء، حتى من الألم! |
والسماء دائماً: لا نهائية... |
والعاطفة: فكر، وروح... |
وهما - بمعطياتهما - أبعاد، ومعانٍ أبدية! |
* * * |
يا سيدتي: |
هاأنذا.. أجلس - في الصمت - من بعدك.. أحدق في الظلال، وارتقب! |
ها هي ليلة أخرى - من البعيد قادمة - تأخذني من منتصف الفرح، أو إلى منتهى البغتة، ومن ثم الاحتدام، والتفاني حتى الموت! |
الذين يتفانون - وفاء - لا يموتون.. وإن قتلهم ((التناسي)) أحياناً! |
هاأنذا - في غربة نفسك عنك - أتدلّى في فراغ العمر.. وأتبدّد كالصدى! |
إنني أهمس في تجويف الليالي... أنادي عليك - أنتِ توأم الروح - وتبرعم سنوات العمر.. أخاف أن تهرب الأشواق.. أخاف عليها أن يسرقها الخوف مرة، ويسرقها الملل مرة أخرى!! |
|