الرسالة السادسة |
ـ ((أول آهة في الحب.. هي آخر نطاق |
في الحكمة))!! |
|
ـ سيدتي: |
عندما أوغلْتِ بزماننا في الرحيل.. جعَلْتني خلفك: حبة رمل في بيداء.. وقد احتجب عنها القمر! |
كان الظمأ.. يُشعل ذلك النوى الغائر بين ضلوعي! |
كان بحر مدينتنا زئبقيَّ الموج.. والعمر يتخبط بين موجة وأخرى. |
وكنت أفتش عن عينيك: الليل... بعد أن صادرتا في عمقهما أجمل التذكارات، وأحلى اللحظات! |
وما زلتِ - أيتها المثمرة - تقفين ((نخلة)) يتساقط نضجها فوق أرضي! |
ولكن الحب... آه، الحب!! |
لقد سرقته أخلاق ((الإسمنت)) وبعثرته المسافات الطويلة بين حيّ وآخر، واختصرته - في دقائق - المواصلات الحديثة! |
أصبحنا نمارس الحب بالهاتف، وبالتلكس، وبالفاكس! |
ما كان زمان - يا سيدتي - ذلك الذي سرقه الوقت منا.. |
لم تكن أيام.. تلك التي حاولنا ونحن ((نعيشها)): أن ((نحياها))! |
الحياة التي نحب.. لا تخضع لتاريخ الأيام وتعاقبها.. ولا تخضع لورقة التقويم! |
والأيام التي نحب.. لا تعترف بالوقت المتلاحق الذي يبدأ بطلوع الشمس، ويبدأ - ثانية - بسطوع القمر! |
لكنها هي الحياة الحقة التي تبدأ مع خفقة القلب، ومع صفاء النفس، ومع الأمل دائماً. |
فمن يمنح ((الأمل)) لأيام العمر.. إلا الحب؟! |
* * * |
وحين تلفتُّ حولي في غيابك... كانت ((النخلة)) تتساقط.. ورأيت ضلوعي مثلها تتساقط، ويبقى قلبي في العراء! |
كنتِ أنت - بذلك الرحيل - قد حاولتِ اجتثاث نفسك من بين ضلوعي مثل ((النخلة)) تماماً. |
وتحولتُ أنا.. مثل المدن الحديثة التي ارتفعت فوق أرضها العمارات الشاهقة، أو هذه الكتل الإسمنتية! |
كأنّ أعماقي أصبحت مثل المدن الكبيرة، الصاخبة.. اقتلعت ((نخلاتها)) وتزاحمت في داخلها النوافذ المغلقة، أو المخبأة خلف الستائر! |
صارت أعماقي تضج ((بالمدنية))!.. لكنها فقدت بكارتها، وعفوّيتها، ونخلتها، وعشبها! |
ركضتُ في كل اتجاه... |
ركضَتْ في داخلي: الألوان، والأضواء، والظلال، و((النيون))! |
صرتُ هذا ((السفر)) الواقف على مشارف المدن.. |
أناديك.. وأرتقبُ أن تُطلِعي نفسك - مجدداً - من حنايا أضلعي.. أرتقبُ أن تُطلِعي نفسك - مجدداً - من حنايا أضلعي.. من أعماق تربة نفسي. |
طوّفت ندائي على حدودك، ومناخك، وسمعك.. |
أخبروني: أنك ((مدنية)) تركض بمن يعشقها، وترميه - بعد ذلك - في ضياع الوقت، وضياع الأصداء! |
نفيتُ عنك الخبر.. جادلت. |
لا... بل أخبرتهم عن قراءتي لنفسيتك.. قلت لهم: |
ـ أنت لم تكوني يوماً: قشوراً.. و((المدنية)) قشور!! |
ـ قلت لهم عنك: إنها ((حضارة))... حافلة بالقيم، وبالجمال النفسي، وبملاحة الطلعة، وبالمضمون الإنساني، وبـ ((نوارة)) عقل! |
* * * |
فكرت في ذلك طويلاً... طويلاً! |
هل كان ما قلته: صوت عاطفتي؟! |
أم كان: واقع تجربتي مع أفكارك.. وسلوكك، وحضارتك؟! |
ما زلتِ - أنت -: حضارة عشقي.. حضارة نبضي.. حضار إنسانيتي! |
ضحكوا... حين قال واحد منهم: |
ـ المجانين ثلاثة: مجنون ليلى، ومجنون ((إلزا))، ومجنون ثالث.. هو أنت! |
هل رأيتِ.. كيف استخلصوا رأيهم عني؟! |
إنني مجنون بكِ أنتِ! |
لكنك ((النخلة)) التي نفت نفسها عن ((أرضها)). |
أنتِ ((نخلتي)) التي اشتاقت إليها أرضي. |
وانطلق المجنون في داخلي يزرع المدن المتمدينة، ويذرعها... |
أعدو خلف تلك الألوان، والأضواء، والضحكات المؤقتة.. بحثاً عن بديل مفقود! |
علّمتني قراءتي لنفسية المدن.. أن المفقود لا بديل له حتى يرجع. |
المدن التي تزركش شكلها بالأصباغ، وبالمدنية الزائفة.. تبدو مثل أنثى، لا يظهر لها جمال إلا بالأصباغ! |
احتميتُ داخل نفسي.. لأجدك باقية، رغم السفر، والتجوال، والتشرد الوجداني. |
الحضارة لا تحتاج إلى ((ديكور))، ولا إلى أصباغ. |
إنها تستمد قيمتها من العهد القديم: البناء الراسخ المتين. |
* * * |
بقيتِ في نفسي تلك الحضارة.. |
عميقة كالجذور.. ثمينة كالقيم.. جميلة بكل أبعادك، وبعدك. |
اشتقت إلى ((قرية)) صغيرة.. تطلعين فيها: تلك ((النخلة)) الموغلة بجذورها في الأرض. |
حلمت أن آخذك إلى ((القرية))... يعطّرك عبق العشب، ويدفئك طين الأرض، وتحميك طيبة العهد القديم! |
سئمت من ضجيج المدن.. من ألوانها، و((نيونها)) وصخبها، وزحامها. |
الزحام... هنا في قلبي لك! |
الزحام... هنا - بخفقاتي ونبضي - ينشدان اسمك. |
أنت... هذه النسمة الحنون التي تطوف بصدري،فتنعشه، وترقرق حدة الترقب فيه... لك! |
أنتِ.. عاصمة مدني. عاصمة ((عالمي)). |
هذه المدن التي تلاحقت عليها موجات الزحام.. فكنت أصرخ بحثاً عن أحضانك.. بحثاً عن حنانك.. بحثاً عن أمومة الأرض فيك! |
كنت أناديك.. لأختبئ في صدرك، هارباً من الألوان والأصباغ والطلاء والأضواء.. من الكتل الإسمنتية.. ومن ركض أقدام البشر نحو مصلحة الذات! |
* * * |
ها أنتِ - يا نخلتي الأبقى - قادمة! |
ـ صرتُ أردد: العودة... العودة! |
ها أنت.. فجر يطل بعد كثافة الظلال، واصطكاك الرعود، وسقوط الشهب، واضطراب الأنواء. |
ـ صرت أردد: المحبة.. المحبة. ليت الناس يتشبثون بها! |
ها أنت.. وكفى!! |
وتفرّ دموعي من حدقتيّ.. |
ترى.. هل أنا ((أحلم)).. بعد أن شرد بي التأمل وراء الأصداء؟! |
ـ صرت أردد: الوفاء.. الوفاء. ليت الناس لا يسقطونه! |
أهو الفرح؟! |
أهو الخوف من وهم.. حسبته: أمل الانتظار؟! |
هاأنت.. أجمل من الفرح. أعمق من الخفقة. أكبر من الخوف والوهم! |
هاأنت تبدعين الضوء بطلوعك.. تنسكبين كالغيث.. تتفتحين كزهرة! |
هاأنذا.. قادر - الآن - أن أبذرك من جديد في أرضي! |
فتطلعين: سامقة.. شامخة. نخلة الزمان، وحضارة روحي!! |
و... ((تنصت الأشجار)).. للفرح!! |
|