فجأة وجد نفسه من جديد، |
وفجأة - أيضاً - أضاعها! |
أضاعها في ذلك الشعور المكثف بالتواجد.. |
أضاعها في ذلك الردع الغامر الذي تمليه عليه أشياء |
عمره الحاضر. |
كان يمثل الفرح المتفجر. |
وكان يغرق في الألم النازف.. |
ضدان اجتمعا في لحظة اكتشاف واصطدام.. |
في عودة روح، وفي عجز عن امتلاك الأمل.. |
في مواجهة حقيقة صادقة، وفي شحوب انتباهه! |
كأنه سيد الزمان حينما يشعر بالتواجد.. |
وكأنه ثمالة الكأس حينما تأخذه الحقيقة! |
والذكريات المستقرة في القرار لا تقدر على التلاشي. |
والعمر الجديد يطلع في الوقت، ويهدر في النبض! |
ولكن الحقيقة لا تتغير.. |
* * * |
إنه الغريب الذي أمضى سنوات العمر جوالا. |
يزرع الحياة، ويفتح أبواب الليل بحثاً عن ((جنية)) توأم. |
ترضعه استقرار الشعور.. |
وتهدهده في أرجوحة النشوة، فأضناه تعب البحث. |
وكادت الأيام أن تهرم وتشيخ به.. |
لكنه في اعتراكه بالضنا.. |
عادته الأصداء من البعيد.. |
وكأنما انتصبت في حدقتيه أشجان صوت يشرق بالغربة. |
ينجرح بالأسئلة التائهة.. |
يبحّ بالنداء الذي يبحث عن قرار. |
كان الصوت القديم يتجدد، بينما الزمان يوغل في |
الشيخوخة! |
صوت ينزف الوجه والحزن والآهة.. |
يفتش في نداءاته عن كل ما يفجّر التذكر! |
وكطفل خطفه الزحام.. بكى! |
وكقلب تراكمت عليه تشوهات السنين.. ارتعش! |
وكعين كادت الأضواء الجديدة أن تعشيها.. |
حدّق في الظلال وانكسار الضوء! |
فإذا به - بكل ما فيه - يقترب من الصوت القديم وهو يتجدد يمتزج به.. ينغمر.. |
كأنه هو. كأنها حنجرته. كأنه يردد أمانيه التليدة، |
وأشجانه الغريقة. |
وأفكاره الراحلة، وسخافاته، وكل حزنه! |
* * * |
وجاءت الكلمات تمحو التذكر، وتقتلع غرسة التناسي. |
وإذا الماضي كله كالأرض البكر التي تستقبل أول غرسة فيها. |
لتزرع الغد! |
عاد ((الغريب)) يتمنى، ويحلم. |
ويتصور، ويجسد الخيالات، |
فإذا الجراح خفق، والحزن شجى، والغربة لقاء. |
ولكن.. كم يطول عمر الأماني؟! |
إنه بعمر الكلمة التي تفر من تيه النفس.. |
إلى تمنيّ الأحلام القديمة.. |
إن الأحلام القديمة لا يمكن أن تتجدد.. |
فالزمن الذي انبجست فيه قد ولّى.. |
والزمان الحاضر لا أكثر من صدى حنون.. حنون فقط.. |
فكيف سيكون الغد؟! |
إنه بعمر الخفقة الأولى التي كانت تكبر في الحس. |
حتى تصبح وجوداً لا بديل له. |
لكن الخفقة الأولى تأتي غريبة الآن. |
يتيمة في زحام خفقات الآخرين، الذين استعمروا مكان |
الخفقة الأولى. |
وأقاموا المستوطنات الغريبة عن هذا الوعاء! |
عاد ((الغريب)) يصغي ويتعذب! |
* * * |
كان الأسى يسيل صبراً. |
ويهرق بلادة، ويغور في رمال السنين! |
إنه الدمعة.. في لحظة اصطدام الصدى بالواقع المفروض! |
إنه البسمة.. في لحظة الخروج من الزمن المعاش.. |
إلى عالم رحب من الروح! |
فهل يعود غريباً كما كان؟! |
يبحث عن المستقر لمعانيه.. وهي ما تبقىّ فيه! |
ويبحث عن الهدوء لروحه.. وهي وحدها التي لم تشوّه |
داخله! |
يجعل في صدره وفاء للنفس التي وجدها يوم أضاعها. |
فوجد فيها نفسه وأفكاره ورؤيته، وحسه الحميمي، وفقد |
ذلك كله في لحظة! |
* * * |
دمعة رحيل هو. |
تحتشد اللحظات والمواقف وأصدق الكلمات في حدقتيه. |
ثم يواصل السفر. كأنّ الملامح دوائر صغيرة.. |
على سطح البحيرة.. تتسع وتتسع ثم تتلاشى! |
كأن أصداء ما سكن إصغاؤه يصطدم بالشمس وبالنجوم.. |
وبتعاقب الليل والنهار. |
باليوم، وبالأمس.. وليس في الغد مطمع، |
لكنه مدعوُّ بالضرورة للوقوف وللترقب. |
في انتظار فرصة التعرف على الغد الذي سيرحل فيه بكل غربته. |
الغد.. كل آماله: أن نواصل الوفاء للأنبل وللأعمق! |