شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الخامس عشر: أجراس في حياتها!
* البارحة... افتتحت ((سارة))/ مرحلة أخرى أعمق في حبه لها.
ربما تشابهت ساعات البارحة، قعدتها، وقتها... كتلك الليالي الخاصة جداً والمميزة التي يسميها ((فارس)): الليالي ((الأصنص)) وهو في دفء حفاوتها به منذ بدأ سلامها الجديد معه!
البارحة... افتتحها بمزحة أراد أن يضحكها بها وهو يقول:
ـ يا خوفي أن يكون سلامك الجديد هذا مشابهاً لسلام الشرق الأوسط، أو لهذا السلام الذي تريد أميركا فرضه على العرب لعزة إسرائيل!
حدقت في وجهه، ولم ترد على تشبيهه.
ـ سألها: هل أغضبتك؟!.. لا أقصد بالطبع أنني أمثل أهلي العرب، وأنت......
* قاطعته بغيط: طبعاً... ولا أنا إسرائيل يا فصيح.
ـ قال: نحن نمزح... ما الذي أغضبك؟!
* قالت في شبه شرود: لم أغضب منك.. لكنَّ تشبيهك مؤلم، على الأقل أعادني إلى هذا القولون العصبي اليومي الذي ((يمغص)) معدة العرب وأمنهم والمسمى ((إسرائيل))... أتساءل: إلى متى ندور في ساقية هذه المقولة: ((يبقى الحال على ما هو عليه))؟!.. وإلى متى نبقى ندور نحن العرب حول أنفسنا، ضعفاء، متخاذلين.. كلمة أميركية تودينا، وكلمة تجيبنا؟!
ـ قال: ظهر عليك الانفعال.. هل لاحظت نفسك أنت تخطبين؟!
ابتسامة باهتة رسمتها على شفتيها، وقالت بصوت واهن:
* يا فارس... تعبنا، وهناك من له مصلحة في هذا التعب، وبالذات من ربعنا العرب.
ـ قال: شيء طبيعي أن يفعل التشرذم بنا أكثر مما نعاني منه... فهل نحن جيل متشرذم؟!
* قالت: المشكلة لم تعد تنحصر في جيل واحد.. منذ الخمسينات، وربما قبلها، والحال يتطور إلى الأسوأ.. فالتشرذم فينا ((عصر))، وليس ((جيل)).
تسللت يداه إلى كفها... اختلس كفَّها من انشغالها بالحوار، واحتوته يداه.
ركَّزت نظرتها في عينيه.. كأنها تسأله: ماذا تفعل؟!
اتحدت ابتسامة طيفية على شفتيهما معاً في لحظة من هذا التوحد الوجداني.
الآن... يسترجع أدق ثواني البارحة، وهو يشعر أن افتتاحها له ربما يحوّله إلى رجل نرجسي، يحب نفسه لأنه بعطائها المحدود هذا قد بلورته هي في معنى جميل تعاملت به معه.
هكذا يكتشف ((فارس)): أن العلاقة الخاصة الحميمة ين امرأة ورجل، لا يُشترط عمقها دائماً بالتواصل الجنسي، وإن رغب فيه طرف عن طرف... بل الأعمق: أن تكون بين الاثنين لغة موَّحدة، وانتماء إلى فكرة أو قضية حتى لو كانت مجرد (نشوة).. أو أن هذا الانتماء يخلق النشوة في الذاتين.
حتى وهو يتأمل وجه ((سارة)) البارحة... كان يحدق أحياناً ويتشهى أن يمدّ كفّيه ويؤطر وجهها بهما ويقربه إلى وجهه أكثر، ليصبح الوجهان واحداً... وكان - حينذاك - يفعل ذلك بواسطة إغفاءة كفَّها بين كفّيه.... فقط!
همس لنفسه في هذا الـ ((فلاش باك)) للبارحة:
ـ نستطيع أن نسمو إذن... بالتخيل إذا أردنا، وبالممارسة إذا اشتهينا برغبة الحب.
((آهٍ... ما أطيبه بددا))، كما شَعر سعيد عقل، وأطربت فيروز... كرر لها هذه اللوحة الشعرية البارحة وهي في حياته لم تكن أبداً الـ ((بدد)) منذ عرفها، لكنها هي المطر الذي يسقي جفاف نفسه حتى الارتواء... بل وحتى تساقط الثمر!
كثيراً ما قدّم لها هذا الصدق منه: ابتسامته ودمعته.. آهته وشهقته للفرح بها.. حزنه وشجنه.
لكنها الآن - في إسقاطات حواراتها معه - كثيراً ما تشعره بأن الحب لديها مفقود، أو مرصود... أو لعلها حوّلت الحب في حياتها إلى ابن ضال، وأن حياتها صارت تخضع لجرسين: جرس الباب، وجرس الساعة... أما جرس الهاتف فإنها تتعامل معه بكثير من الإخماد له، والقليل من منحه حرية النداء... وفي حياة الأجراس هذه التي حبست ((سارة)) نفسها داخلها، قد يصرخ أو ينفجر فجأة فيها: جرس الحب.. أو لعله: جرس (الإنسان) فيها... وقد نبهها ((فارس)) إلى هذه الأجراس في داخلها خلال حواراتهما، وقال لها:
ـ لا تدعي ما في داخلك من مشاعر يوجه لك تهمة اضطهاده على الأقل.. فلا تدرين كيف تكفّرين عن ذنبك نحو الحب، ونحو نفسك وعاطفتك يا..... مريم العذراء!!
* * *
* ضحك (فارس) لخاطرة.. حين كان يقرأ في منتصف الليلة التالية لـ.... (البارحة) عبارة لكاتب.. تمنى لو حملها الآن ورشق ((سارة)) بها كوردة، ويصفها هكذا: (أنتِ نسمة معارة إلى الحقيقة الأبدية).. قالها ((عقل العويط))، والتقطها.... ومشى بها محاذياً للؤلؤة/ سارة التي ما زالت تمشي في وريده مختلطة بدمائه (كما يمشي القدر)!
الله عز وجل.. خلق هذه الـ ((سارَّة)) لحياته مرة واحدة ذهبية، وارتفع بها فلم يشأ - سبحانه - أن يستنسخ منها امرأة تضاهيها، وقد لا تجيد مواكبة بياض الروح والنفس كإجادة ((سارة))، والاّ..... أين تختبئ مثيلتها، ولو وجدت... لماذا اختبأت؟!
لأن المثيلة أو الشبيهة، أو النسخة الأخرى - لو وجدت - فلن تكون: طبق الأصل، ولا طبق الروح والنفس، ولا طبق هذا العقل المثقل بذكائه حقاً!
لقد أحب ((فارس)) هذه المرأة المميزة في حياته، وقاتل من أجلها.. حتى خيَّل إليها أنه المقتول بها أحياناً، القاتل لها..... الشهيدان معاً - هي وهو - الممتزج بها وهي تحاول أن تخلق اليقين بالعجز، والخلاص بالتوحد الإنساني.
صارت هذه المرأة في حياة ((فارس)) هي: نظافته ونصاعته، وضوءه ورحمته، وذنبه المغفور، ودعاءه المستجاب، وخفقته لامتداد حياته، وشهقته الأخيرة عند الموت.
أما ((سارة)) في الجانب الآخر المقابل لعاشقها هذا/ فارس... فهي تتقصَّد في تعاملها معه: إحباطه أو كبحه عنها، وامتصاص لحظة فرحه بها كاسفنجة.. وأحياناً يشعر أنها ترمي إلى تضئيله!
وتزحمه أصداء حوار ((مستقطع)) بينهما، تماماً كالوقت المستقطع الذي تمنحه له ليراها:
* قال لها: أنت الختام/ ألمِسْك لعشقي.
ـ قالت: هل هذه قناعة عقلك بي.. أم جنون قلبك؟!
* قال: أنت المرأة التي وحَّدت اشتغال عقلي وقلبي بك.
ـ قالت: ولكنك أنت ((فضيحة))... ما يلبث الناس أن يعرفوا قصتنا بصراخك كمجنون ليلى.
* قال: تتهميني دائماً أنني أسرّ بنجواي عنك للقمر... والقمر هو ((إعلامي)) المباشر للناس!
ـ قالت: هذا شعر... لكنك تبقى ((فضيحتي))، وصدقني... عجزت أن أخلص حياتي منك.
* قال: في إمكانك أن تعلنيها صريحة لي.. فتقولين: أخرج من حياتي، ولن أزعجك بعدها.
ـ قالت: حاولت... طلبت منك أن نكون أصدقاء، والأصدقاء اليوم لا يلتقون كثيراً ولا دائماً.
* قال: إنَّ ما يغرس في أعماقي لا يمكن أن يُقتلع.. وأنت تُشكّلين في قرارة عشقي وختامه المسك: جذور شجرة عمري الوارفة بالحب.
ـ قالت: أنت تريد مني ((الأنثى)).. ومعناه: أنك تحبني بعيونك لجمالي، وسأكبر في العمر وينتهي هذا الحب!
* قال: عفوك... هذه نظرة محدودة ضيقة لمشاعر إنسان لازمك وطاردك أحياناً أطول من عمر الشباب... فلا تظلمين نفسك عندي!
صمت قليلاً... ثم استطرد يقول لها:
ـ وأين جسدك مني حتى تربطينني باقتناص الأنوثة فيك.. ولماذا تقهقريني إلى هذه الدرجة؟!
* قالت: هذه طبيعة النفس البشرية.. وزادت عليها طبيعة عصرنا السريع، والمادي، القائم على الرغبة السريعة.
ـ قال: حتى إن تحدثت عن جسدك من خلال تركيزي على أنوثتك، فيحكمني التبتُّل أمام هذا الجسد وليست الشهوة المجردة من إحساسي بك... فهل أسألك: ما هو الجسد؟!
لا تردين.. بل دعيني أجيبك: الجسد.. حب في اللحظة التي تتحد بين (إنسانين).. الجسد: جنون، تطابق، قانون، اقتحام، توحش، توتر، استثناء، أمطار، قراءة.. الجسد: نص إنساني، لحظة ضوئية، استرخاء.
الجسد - يا سيدتي - وجع إنساني يتفرغ، وذاكرة، وتشكيل جمالي، وإحساس قبل أن يكون شهوة... أي إنسان يرغب أن يشفى من ذاكرته أو من جسده بكل الإحساس، وليس بكامل الممارسة.
هناك فرق... فالتجانس بين إنسانين متحدين: قانون، وتوحّد روحي في البدء حتى الانتهاء.
كان من الممكن - بعد استطراده هذا - أن يخفض رأسه، ويبتلع محاولتها نزع قشرة جرحه القديم معها لتدميه من جديد، ولا يحاورها في ما جعلته هي: احتجاجاً وغضباً.. لكنه لم يرد أن يجمع لها الأوراق المبعثرة في كل مرة، بل أصر هذه المرة أن يرفض محاولتها لتحويل كل ورقة إلى مطفأة لذاكرتها، كمطفأة السجائر!
أراد - أيضاً - بتفجير هذا الحوار معها، أن يتمرد على بقايا الخيبة التي حاولت أن ترميه في قاعها... رغم أنه لم يطالبها بشيء من ممتلكات جسدها، ولا حتى قبلة، ملتزماً باحترام الحدود الجديدة التي أقامتها حولها كلما وقفت أمامه!
الرغبة بين امرأة ورجل: ليست انتهاكاً إلاّ إذا كانت: اغتصاباً، أو... شهوة مجردة.
وهكذا صار ((فارس)) منقوعاً في هذا الوقت ((المستقطع)) الذي فرضته عليه ((سارة))، فلا يراها إلاّ عندما ترغب، أو تسمح له، أو... حتى تحنّ عليه.
ولا يتوقف جنونه بها.. ولم يعد لليل منتصفاً ولا آخراً، لليل: أول فقط، وذلك عندما تقول له عبر الهاتف: تعال.... ويتحوّل الليل الأسود، الغامض، الساكن، الموحش.. إلى: قوس قزح وأنهار من لبن وعسل مصفّى.. واللحظة في لقائه بها: تكبر لتصير رقصة.. والكلمة في الحوار المتبادل بينهما: تشمل الزمان والمكان، لتكون قراءة مرتّلة لقرآن قلبه/ هي!
* * *
* في الليلة الثالثة... عاده صوت ((سارة)) مفاجئاً لخلوته مع نفسه وتخمُّر صمته.
ـ بدأته الكلام قائلة: ((أراهن)) أنك جالس تفكر... صح؟!
اسمع مني يا فضيحتي التاريخية أنت.. لا تفكر، أوكي؟.. أرجوك، أطلب منك أن ترتاح، وأن تسخر.... هذا علاج مجرّب وعلى الرغم من كل شيء - وحتى مني - فإن الدنيا حلوة، والناس طيبين، واحنا لازم نصلح أنفسنا علشان نرضى!
استرجعت حوارنا قبل ليلتين، وحسيت إني أعرفك أكثر، إنت وحياتك.. أرجوك تحدث معي، قل لي أكثر، أو.... اكتب لي.
واصلت بدء كلامها ضاحكة تقول له: أرجوك.. لا تقاطعني، خليني أحكي، وانت يبدو ما عندك وقت، أو تريد أن تأخذ وقتاً خاصاً لنفسك، وعلى فكرة.... لا تتردد (خذه) هذا الوقت، ترى الدنيا مثل ما قلت لك بل الآن: تركض!
البارحة - في خلوتي مع نفسي والقراءة التي تعرف أني أحبها حين - قرأت.... ها؟! اسمع:
- ((إني أحبك حباً.. ليس يبلغه
فهم... ولا ينتهي وصف إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه... معرفتي
بالعجز منّيَ عن إدراك معرفته))!!
خلاص يا أخ... انتهى ((كل)) كلامي.. هل لديك أقوال أخرى.... لي!!
* قال بعد كل هذا الإصغاء: وحشتيني حتى العظم.
ـ قالت ضاحكة: أعرف... لازم أوحشك، والآن.. مضطرة أقفل، أكلمك في وقت آخر!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1006  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 163 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.