شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثالث عشر: اللحظة التي تبكينها!
* في طول ذلك الزمان الممل بدونها، في رحلتها الطويلة عن سمعه وعينيه، كان ((فارس)) يعاني من الحصار، و.... يشتهي صوتها، فيجسد التفاتات ((سارة)) في فراغ لياليه منها، فما تلبث الليالي أن تمرع بأصدائها.
كان في حالة رجل مطارد قال: (أشعر أن الصدق تجارة خاسرة).. فركض متموّهاً في سلسلة أكاذيب من العواطف العابرة، ومن اغتصاب اللحظة، ومن تفاهة الوقت.
كأنها أسقطته من حياتها للأبد.. وهي تقسو بالغياب، وهو يحرقه الانتظار المؤمل.
تعب أن يفعل وظيفة ((المرايا)).. تنعكس على صفحته كل الأشياء، لكنه يطمع أن يكون مرآة ((سارة)) وحدها.. لا يستقبل على مرآته سوى وجهها وابتسامتها، وصوتها وهمستها.
وها هو - وحده الآن - يعيش ولا يحيا في هذا العالم الذي يشيخ وهو يمرض بعلله.
فجأة... يعصف به الصمت، يُدخله في أصداء من حواراتهما معاً.
كانت تقتحمه بين فترة وأخرى بسؤالها المعاد:
ـ ((أنت صحيح بتحبّني))؟!
وفي كل مرة تطرح عليه هذا السؤال.. كان يشعر أنه عاجز عن الإجابة، يريد أن (يصدع) بإجابة دقيقة تصدقها للأبد.. فإن قال لها: ((والله أحبك)) فإن هذا التأكيد بالقسم يبدو أقل من قيمتها ومساحتها في نفسه، ومن حبه لها.
وفي كل مرة.. يهم بالإجابة، فيقول لها:
ـ والله.....
ـ تقاطعه قائلة: ((عارفة... بتحبني، بس مين قال لك احلف))؟!
تعب أيضاً من التفكير فيها، وفي كل ما مضى وكان... ومن توقعات القادم الذي يرجوه: أحلى!
هذه المرة.. يشتاق إليها ليس كمثل الأشواق التي سلفت... اشتياقه: قلقاً وخوفاً عليها، فهي تلملم أفكاراً وتوجسات من المجهول القادم.. فلا أحد يعرف في تلاحق الأحداث من حولنا، وفي ألاعيب خلط الأوراق: ماذا يحدث غداً.. من يقفز، ومن يسقط.. من يكسب وما الذي يكسبه، ومن يخسر وما حجم خسارته؟!
العالم من حولنا يخضع للعبة الأمم - كما فسر مؤلف ذلك الكتاب الشهير - لكنَّ اللعبة اليوم لم تعد بين يدي: فرسان وزعماء بمعنى حصافة القيادة للعالم ومصالحه... اللعبة تتفق وقذارة الأطماع الاستعمارية في إطار ما أطلقوا عليه بعد تقويض الاتحاد السوفيتي السابق: النظام العالمي الجديد.
حدّثته ((سارة)) ذات ليلة عن مثل هذه المخاوف التي تنال من مصير أبنائنا والجيل الصاعد... وهما يعيشان في صهد هذه المعاناة داخل كرة أرضية تغلي بالمتغيرات التي تأتي أحياناً، وفي جوانب من العالم على شكل: إنكفاء!
فراغ موحش يلف ((فارس))... لم تستطع حتى الموسيقى أن تخفف من صفيره في النفس، ولا حتى صوت فيروز الذي يبلسم جراح النفس.
أسئلته الممغنطة بالقلق: تترجل هذه اللحظة، وحيرته تتخذ شكل الحياة والأحياء في طبائعهما... وكان يقول لـ ((سارة)) وهي تبدي له قلقها ومخاوفها:
ـ دعي قلقنا يكون هو الشذوذ عن القاعدة التي يقف عليها الناس اليوم.. أقصد قاعدة اللامبالاة، والانشغال بالهموم بالذاتية حتى النخاع!
لقد اختفى ((الفارس))، و ((الجنتلمان))، والقدوة، والمصلح، والقائد الملهم من هذا الزمان... إنه زمن الكلام، أكثر ما يكون حفاوة بقصص و ((حواديت)) الآخرين، وأقل ما يكون: تتبعاً للمسائل المعاشة والمعاشية الملاصقة للحياة اليومية.. بما في ذلك: أسعار الفواكه والخضار، و...... فوط ((أولوز)) التي يُعلن عنها في التلفاز والصحف بلا حياء.. وبما في ذلك أيضاً: ارتفاع قيمة استهلاك الكهرباء والماء والبنزين، وقطع غيار السيارات في جنون حوادثها وموت الشباب بها.
أنت، وهو، وهي، ونحن... في حاجة - جميعاً - إلى شيء مهم جداً في عصر الثرثرة هذا: أن ننصت قليلاً لنسمع الناس.. على الأقل: لنُقنع أنفسنا أن هناك إنساناً واحداً استطاع أن يصمت بعض الوقت، ولم يعانِ من الإرهاق!
كثُر كلام الناس (اللي ما يودّي ولا يجيب)... القائم في الغالب على الشائعات المضخّمة في محاولة للتوصل إلى الحقيقة المحددة.. وعلى التوقُّع، أو ((التصور)). أو الافتراض، ثم.... لا نجد ولا جزءاً من الحقيقة في ذلك التوقع، أو التصور، أو الافتراض!
* إنها أحاديث تتناثر كلما ضم مجلس مجموعة من الأصدقاء، أو الزملاء!
* * *
* ما زال ((فارس)) في الشوق الدافئ لها يبحث عن وجوده في داخلها وهو يرسخه - بحبه لها - وجودها في داخله.
جعلت منه: رجلاً، هَرِماُ، أشيب القلب.. لم يكن يدري أنها جعلت الساعات معه، عداً تنازلياً للشفاء من حبها القديم، لتختار بعد ذلك وجهاً جديداً لقلبها!
هي - وحدها - التي أخبرت الغربة عن جنون بها، حين صار اشتياقها القديم العاشق، في ساعات خاطفة مزاجية، يذيب ثلوج استرخاءتها معه!
هكذا تفاجئه في أيام تواجدها بمدينتهما.. تطلبه عبر الهاتف لتقول له:
ـ أفرغ وقتك من كل التزام، و.... تعال!
تجعل من اللقاء دائماً وفي كل مرة تجدده: فرصة عمره التي تبدو وكأنها لن تتكرر، وعليه أن يركض إليها، ويقتنص هذه الفرصة.. فربما لن تدعه يراها بعد ذلك!
وفي كل مرة يخرج من ليلتها / الفرصة.. يسأل نفسه:
ـ ولماذا ألبي دعوتها وكأنها ((العشاء الأخير))..لماذا لا أعتذر مرة واحدة، أقول لها: لأ... حتى تكتشف هي: أن هناك من هو قادر على مواجهتها بهذه الكلمة: لأ؟!
لكنه لا يقدر... ألم تجعل من كل دعوة تدعوه فيها إلى لقائها: فرصة ذهبية.. بعد أن تُباعد بين زمن اللقاء والذي يليه أو ما قبله؟!
تحرص ((سارة)) أن يكون هذا الـ ((فارس)) في أيامها الجديدة هذه: مجرد صدفة، وليس واقعاً راسخاً في حياتها كما كان في أيام خوالي، لم يكونا يفترقان إلاّ تحت قرص الشمس فقط، وتتلألأ همساتهما تحت ضحكات القمر، وفي ظلال الأمسيات الندية بحوارهما الفياض بالشجون!
هكذا وجد نفسه في حياتها اليوم: لقاء الصُّدْفة، والوقت المستقطع في أيامها الرتيبة التي تحفل بتوجهها الذي نمَّتْه في داخلها منذ أكثر من خمس سنوات لتكون ((امرأة أعمال))، رئيس مجلس إدارة عدة شركات.. تقابل العملاء، والمندوبين، والوكلاء، والمحامين... وقد بدت مهنتها الجديدة كظاهرة قامت قبل عشر سنوات، ولكنها كانت ((ظاهرة)) تنتشر على استحياء، وقيل يومها:
ـ مجتمع مبرقع، أو محجَّب.. وصممت المرأة فيه أن تمارس ((البزنس))، ولم يكن مدهشاً أن ينجح بعضهن في تجارتهن ويقمن شركات ضخمة.. تكون أكثر تنفساً في الاجتماعات والصفقات خارج حدود الوطن.
لقد اقتحمت ((سارة)) هذا المجال منذ كشر حظها كزوجة عن أنيابه لها، وفشلت حياتها الزوجية.. ولم تكن راغبة في تكرار التجربة في عبوديتها كزوجة لرجل يتسلط عليها.
إنها امرأة تتمتع بميزتين غنيتين في صفاتها ولا بد أن تستثمرهما: ميزة الذكاء الفطري، أو ربما كان ذكاء مورّثاً.. وميزة الثقافة التي تعبَّأت بها خلال دراستها خارج وطنها، ومن الكتب الزخم التي عكفت على قراءتها بكل ما يتطامن فيها من عشق للمعرفة.
ولعلها شعرت بشيء من المعاناة في بدء اقتحامها لمجالات ((البزنس)) والعمل التجاري، مما أثَّر على الجانب العاطفي أو الرومانسي في شخصيتها العاشقة للقراءة، وللمعرفة... ولكنَّ قدرتها على ارتداء الصرامة أحياناً، أضافت إلى شخصيتها: ذلك التمكن المذهل فيها من الحسم حتى مع عواطفها!
لذلك... بادرت ((فارس)) في أول اللقاء الذي جَّددته في معرفتها له، فقالت له:
ـ أرجوك... اعتبرني الآن لا أكثر من ذكرى جميلة في حياتك!
* يومها.. سألها: يعني رجاؤك هذا.. أن أنسحب من حياتك للأبد؟!
ـ قالت كأنها تستدرك ولكن بحذر، لا... لم أطالبك بالانسحاب، بل ما رأيك لو نبقى معاً في إطار الصداقة؟!
* سألها: هل تعتقدين ببناء صداقة على أنقاض العشق؟!
ـ أجابته: كانت تجربة بيننا... فلْنخُض هذه التجربة الجديدة.
* قال: أنت تتعاملين مع ((الحب)) في حياتك على أنه مجرد تجربة.. أما في حياتي، فالحب: معاناة، وحياة، وصهر، وقيمة... التجربة في تعاملك معها: لا أكثر من عبور من شاطئ إلى آخر.. أما التجربة في تعاملي معها، فهي: اكتشاف، وحلم، وأشواق، وعطاء.
ذلك هو الفرق بينها وبينه.. منذ تعاملت معه في اطلالتها الجديدة عليه فاعتبرته: مجرد صُدْفة، ووقت مستقطع من وقتها الأصلي والأساسي الذي حظرت عليه دخوله... بينما بقيت قيمتها في نفسه راسخة باقية من ذلك الزمان القديم الأجمل الذي جعل نفسه فيه: صَدَفة لها.. خبّأها في عمقه كالسر، كالأماني الحميمة، كاللؤلؤة... وكلما ضربته أمواج الحياة وهي ثابتة في جوانحه، يجد قلبه بوجودها فيه: قيمة، وضوءاً، وذاكرة للعمر!
معها... كان يشعر بالخوف كله، وبالأمان إلى ما لا نهاية.. وكانت - أحياناً - تصر أن تفهم منه ما لا يقصده، ويعذرها.. لأنه يحبها، ولأن معاناتهما واحدة!
وتدخله أحياناً في حيرة تعصف به.. فلا يكاد يبين الحب فيها من التسلية، أو الوقت المستقطع.
وتعتاده أصداء من حواراتهما معاً... ويتوقف عند سؤال طرحه عليها في مساء وداعي طلبت منه فيه: أن يخرج من حياتها. فلا وقت لديها للعواطف!
كانت متوترة، وتبدو أكثر إحباطاً.. فسألها:
ـ هل تخشين مني إلى هذه الدرجة؟!
* أجابت: إن كنت أخشاك، فلمن أطمئن؟! سنوات طويلة عشت الأمان معك.. ملكتك نفسي لأني أعرف صونك لها، وأرجوك من فضلك، لا تقل: إني أستخدم ذكائي معك.. الإنسان يستخدم ذكاءه مع من يتوقع منه الأذى!
ـ قال لها: ما كنت يوماً معك إلا بصدقي.
* قالت: أنت قلت عني قبل أن ترحل بنا الأيام الأولى في الغياب: أنت واثقة إلى حد التصرف... نعم وثقت فيك وفي نفسي، ولكني الآن تغيَّرت، لست تلك المرأة التي عرفتها في بدء إطلالة كل منا على الآخر... ألا تشعر أحياناً أننا كبرنا، ففيم انتظارك للحب يا صديقي؟!!
قهقه فارس ونظراته تطوف بوجهها.. حتى فاجأته دمعة كانت تترقرق في عينيه، بادر إلى مسحها بسرعة حتى لا تلحظها ((سارة))، وكأنّ الدمعة لم تكن ترغب أن تكف... وفي صمته ردّد عبارة جذبته أثناء قراءته قبل ليلة، فهمس:
ـ ((اللحظة التي نبكي فيها أمام الروعة.. اعتراف بأن كل حياتنا السابقة كانت صحراء.
هكذا يبدأ الجمال بأن يبكينا تأثراً به، وينتهي بأن يبكينا حسرة على راحة بالنا قبل أن نعرفه))!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1027  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 161 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.