شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل السابع: تفجيرات الإرهاب!
* فجأة... دوت أصوات التفجير في شارع العُليا بالرياض.
العالم كله... صار يقرأ عن شارع العليا، ويتعرف عليه، ويتابع خلفيات أخبار هذا الحدث الهام والغريب على هذا البلد وأهله.
هذا وطن.. عاش نعمة الأمن جيلاً بعد جيل، لم يعرف القلاقل، ولا المفاجآت المثيرة، ولا الجرائم المخطط لها بتنفيذ عصابات أو جماعات.. عاش أهله يفخرون بالأمن والأمان.
كان والد ((فارس)) يحكي له عن جيله.. وقد كان صاحب متجر واسع معروف، يبيع كل متطلبات العطارة.. لم يكن يقفل أبواب المتجر إلا في موعد إغلاقه ليلاً بعد صلاة العشاء بساعة، أما في أوقات الصلاة، وفترة القيلولة بعد الغداء.. فأكثر أصحاب تلك المتاجر يسدلون على البوابة الكبيرة، ومنصات عرض البضاعة، قطعة قماش كبيرة بحجم واجهة المتجر، ويذهبون إلى المسجد أو إلى المنزل لتناول الغداء... وكلهم ثقة أن الدار أمان، ولن تمتد يد أو قدم إلى متاجرهم وبضائعهم!
تلك هي قاعدة الأمن العريضة... ولم تكن حشود العمالة الأجنبية قد تدفقت بهذه السيولة اليوم.
إرتجت ((الرياض)) لدويّ التفجيرات، وخرج الموظفون من إداراتهم، وركض الكثير منهم إلى مدارس أولادهم ليحتضنوا فلذات أكبادهم، وينطلقون بهم إلى بيوتهم مع أهلهم.. والبعض دفعهم الفضول لمشاهدة موقع الحدث، وشفاههم ترتج بكلمات استفهامية قلقة؟!
هل أصابت هذا البلد الآمن عدوى الإرهاب المتزايدة في ما حوله/ الجزائر، مصر؟!
للوهلة الأولى... عاد الناس في الرياض بذاكرتهم إلى عام 1990م، يوم كان حاكم العراق/ صدام حسين يرسل صواريخه المدمرة لتضرب أهدافاً مدنية، وتُهدم مدارس وبيوتاً... يومها أصاب الناس الفزع لهول ما يواجهونه لأول مرة، يسمعون عن الصواريخ ولم يرونها من قبل.. يقرأون عن الإرهاب والحروب، لكنهم لم يكتووا بنارها.
التجربة يومها كانت عصيبة... في الليلة الأولى: بكى بعض النساء، وأجهش الأطفال، وهم يتكومون في أحضان بعضهم البعض، وقد أطفأوا الأنوار، وتحلقوا حول التلفاز الذي يوافيهم بالتعليمات التي يواجهون بها هذا الحقد!
تلك تجربة أولى... لكن الناس بعد ليلتين من (معاشرة) صواريخ صدام المرسلة إليهم.. استطاعوا أن يوطنوا أنفسهم، وكان البعض منهم، حتى النساء والأطفال يصعدون إلى أسطح منازلهم لمشاهدة صواريخ صدام حين تصطادها صواريخ الباتريوت المضادة... ويتناثر التصفيق من حفافي تلك الأسطح!
اليوم... اختلف الخوف، تعامُل آخر جديد يقتحم أمن مجتمعهم.. من خلال: الإرهاب... البلاء المستحدث الذي أخذ يشيع في العالم، ويقترب كثيراً.
الجريمة في هذا الوطن: كانت ((ندرة)) وسرعان ما يتم السيطرة عليها، وكشفها، وسحقها بالعقاب المستمد من تشريع الدين.
الناس يتحدثون في متاجرهم، وأماكن أعمالهم، وسهراتهم، ومنتدياتهم.
الكلام يتمدد... تختلط الدهشة فيه بالخوف، باستذكار أسباب كانت كالشقوق تتسرب منها إلى الأمن: الجريمة والإرهاب.
* * *
* في مساء اليوم التالي على التفجيرات.. جاء صوت ((سارة)) عبر الهاتف من بعيد: - ((إنت ما مت))!
* قال: صار الموت نسبياً ياحبيبتي.. متى ستعودين؟!
ـ قالت: الله يحفظ وطننا.. القاعدة راسخة إن شاء الله، ويا جبل ما يهزك ريح، طبيعي أن تتناثر شرارات من النار المشتعلة حولنا.
* قال: في رأيي.. لا ينبغي أن نبسط الحدث، لا بد أن نفكر في خلفياته وأبعاده.
ـ قالت: تخطيطات فاشلة.. إنهم لا يفجرون أحقادهم فقط، بل ويفجرون يأسهم وعجزهم.
* قال: الإرهاب ظاهرة هذا العصر، ما نسميه ثمالة القرن العشرين.
ـ قالت: في هذه الحالة نستدعي عقولنا في الحوار عن المدارك، وكيف ننجو بالشباب الصاعد من التأثير المضاد.. فهذا اختراق لعقيدة الجيل الجديد، لخلخلتها بأفكار تلصق إيديولوجيا بل وعقائدياً بالإسلام.
لم تكن نفسية ((سارة)) تطيق المزيد من الكلام.. فقد أنهت مكالمتها، ووعدته أن تتصل به لاحقاً للإطمئنان عليه.
واستمرت وتيرة الحياة.. لم يتغير شيء في نظام الناس، فالحدث شد الإنتباه في لحظة وقوعه.. وتناهت همهمات خوف من البعض: أن تمتد عمليات الإرهاب الى مدن المملكة الأخرى.. والبعض الآخر: إستبعد وقوع حادث مماثل.
لكنّ توقعات الناس، وتحليلاتهم.. لم تتوقف. بل واصلوا الكلام في أماكن العمل، وفي مجالس سهراتهم ومناسباتهم الإجتماعية.. وتركزت أحاديثهم في: سبل الوقاية من الإرهاب، ومن محاولات التأثير على عقول الشباب، ومناهج التعليم وأساليب التربية، وما حدث داخل الأسرة وروابطها.
وتحدث الإعلام عن قوة الجبهة الداخلية... ليس بهدف التطمين الإعلامي، بل بأسباب بناء الإنسان: قيمة، ووطناً مما يشكل ثروة الأرض الحقيقية.
* * *
* إستغرق ((فارس)) في قراءة الصحف.. شدته هذه الحوارات المنشورة مع آباء وإخوة المتورطين في تنفيذ التفجيرات بحيّ العُليا.. بعد انكشاف أمرهم، وإلقاء القبض عليهم.
* قال الأب المكلوم المفجوع في ابنه - أحد أضلاع المؤامرة - بنبرة حزن قاهر:
ـ لقد هجرنا إبننا - أنا وأمه - ولم نعد نراه بعد أن تزوج، ولا حتى نسمع صوته بالهاتف ولو مرة في الشهر.. ويدَّعي أنه مسلم متشدد، ومن أولويات تهذيب الدين لخلق المسلم: أن وصاه بوالديه إحساناً.. فالدين أو العمل في سبيل الدين حسب ما ادَّعاه: لا يبرر للإبن أن يهجر أباه وأمه بالشهور!
تبكي أمه، وهي تلتقط الحديث من والده.. فتقول:
ـ نعرف أنه سيلاقي جزاءه لقاء جريمته.. لكنه سيترك طفلاً يبلغ من العمر شهرين.. لم يفكر في مستقبله!
أما الأخ الأصغر لهذا الجاني.. فقد أجهش بالبكاء طويلاً، ثم رفع رأسه، وقال: - الوطن فوق الجميع.
طوى ((فارس)) صفحات الجريدة، وتشابكت في ذهنه أسئلة كثيرة، وخواطر استغرق فيها:
الماضي: لم يعد يستكنه الحاضر... وجيل أجداده وأبيه يشجب هذا الحاضر.
والحاضر: يشك كرأس رمح حتى النزف... وقد صار ((العنف)) عاطفة جديدة!
حواره مع نفسه بدأ بالتلفت إلى الخلف، ربما ترحماً على أيام زمان... وفي الزمان/ اليوم: ما يمكن أن يتطور الـ كوارث في صميم صياغة الأجيال الجديدة، بل وصياغة المجتمع الجديد الذي كان من المؤمل أن يأتي مميزاً بتفوق العقول وليس بتشويشها أو انحراف أفكارها، وبسيادة العلم والوعي والنضج.
مؤشرات لها أبعاد المتغيرات في خروج المجتمع إلى حقبة جديدة.. لكن التعامل معها هو المشكلة!
لقد تضاعف الخوف في قلوب الناس، وتقلَّص التقاء أفراد الأسرة بعضهم بالبعض الآخر، وكل فرد يبدو مشغولاً بنفسه.
تذكر ((فارس)) عبارة لرجل أكاديمي عربي سألوه عن الإرهاب اليوم: كيف يعرفه؟!..
فقال: ((الإرهاب.. حوار دموي في الظلام، ومرض نفسي يعطي مبرراً للإرهابي أن يفعل ما يشاء))!!
اكتشف ((فارس)) حفلة إغماء في داخله، بعد هذا التفكير الذي سرقه للحظات.
في لحظة دخول إلى أعماقه.. فوجيء أن عقله مغمى عليه بسبب هذه الممارسات الغريبة على مجتمع الإسلام الآمن، وعلى مجتمعه بالذات.. وفوجيء أن قلبه مغمى عليه، برغم أن الشرايين تضخ الدم.. وفوجىء أن نفسيته مغمى عليها، وأحلامه، وذاكرته، وكل تجاربه وأفكاره: مغمى عليها.. جثث بلا حراك في داخله... فمن يقدر الآن على شحنها باليقظة؟!
ماذا حدث؟!
تذكَّر.... نعم من وقت أخذ يطول، وكل أشيائه العظيمة هذه: قلبه، ونفسيته، وأحلامه، وذاكرته، وتجاربه، وأفكاره....كلها: صارت تتغذى بسندويتشات صغيرة لا تشبع ولا تعين هذه الأشياء على الاستمرار في الحياة!
ما هي هذه السندويتشات؟!
إنها مرتبطة بطبيعة الواقع... بكل ما فيه من سرعة، وسباق مع الزمن، وفقدان تدريجي للأصالة، و..... فراغ في المضمون، وفي الهدف!
تعب من هذه الجرعات التي هي في واقعنا: تجريع.
تعب من هذه الصَّلْب اليومي على تزوير الأصل، ثم تشويهه.
تعب من هذا العطش الروحي، والعطش إلى حريته الخاصة... واقع متضخم - كالتضخم المالي - يكبله ويشده إليه عنوة.
أشياء كثيرة لم يعد لها طعم... فلماذا؟!
قالت له ((سارة)) مرة: أنها قرأت عن مرضى القلب الذين يسقطون أحياناً في الاكتئاب أو الحزن... وما يشعر به ((فارس)) اليوم: ليس هو الاكتئاب، ولا هو من مواليده، فهو يقهقه أحياناً كأنه يشاهد مسرحية كوميدية، وفي أحيان أخرى، يهبط.. يشعر أنه غارق في لج.. أنه وحده، لا يتذوق أية نكهة أخرى حتى الأكل!
أحس أن ما طرأ على نفسيته يشبه القصف المركَّز.. تارة على قلبه، وتارة على عقله، وفي أكثر الأحيان على وجدانه!
فهل هو في حاجة إلى طبيب نفساني؟!
هو يعرف أسباب القصف المركز هذا.. لكنَّ مشكلته تكمن في عجزه عن تغيير ما هو ماثل في حياته أو واقعه، كما يقولون: (Too Late)... انتهى الوقت الذي كان يمكنه فيه أن يغيّر، أو يبدِّل، أو حتى يُحسِّن!
لكنه تحول إلى ((حالم)) في عمقه.. يتخيل بيتاً صغيراً/كوخاً: على ربوة، تغطيه غابة من الأشجار، وموسيقى، وصوت فيروز، وكتباً لم يقرأها بعد، و....... أنثى أحبها فلا يملّ منها، وتحبه بقناعات العقل ودفء القلب... فلا تهجره بعد حين!
عاش العمر ((اللي راح.. راح)) - كما أغنية عبد الحليم - وكان في هذا العمر يواجه معارك، ويسقط في خنادق، ويقفز فوق كمائن... وما شعر بالخوف يوماً، كان التحدي أمامه: دعوة للإنتصار والتفوق.. وكان لا يفكر بالعودة إلى شيء ولا إلى أحد... إلا (إليها هي).
لماذا؟!
لأن هناك أشياء كثيرة لم نعد نصدقها، وكلمات أكثر نقولها ويسمعها الآخرون فيطبعونها بالكذب أو للإستهلاك!
في أكثر مراحل عمره التي عاشها.. وجد الناس يعاقبونه على الحب!
حتى ((سارة)).. كانت أحياناً تعاقبه على شدة حبه لها، فتختفي..... أو يكسو صوتها ثلج حين تخاطبه.
* * *
* أكثر من ستة أيام على محادثة ((سارة)) له، و.... اختفت مرة أخرى!
- ترى... أين هي؟!
لماذا تدعه وحده في هذا العالم ((الطافح)) بالمتناقضات.. الغريب، الموحش في غيابها؟!
يظن ((فارس)) أنه: حطم الرقم القياسي في احتماله لوحشة العالم وملل الوقت طوال غيابها.
يفتش عن حمامة بيضاء... فيقتحم عينيه: رشاش، مدفع، مسدس..
في الأخبار في (نشاطات) العالم، وفي أفلام العنف، والمخدرات، والجنس...
حتى صار هذا المشاهد الموحش على شظايا الإنسان في حركته اليومية!
آهٍ: الشظايا....... والوحشة، والوحدة، والبصمات التي تكاثرت!
مجرد خاطر عبر في باله الآن.. يود لو صارح ((سارة)) به، ولا يريد أن يظلمها:
ربما هي أنثى - لا يقول أنها عجزت عن عشق رجل - بل هربت من عشق رجل لها، فصار الحب عندها: خاطرة، أو... ربما دمعة تفاجئها في منتصف الليل، أو انطلاقة إلى شهوة الرجل... فالحب عندها: لا تسمح له أن يقيم، وترفض أن تمنحه الجنسية، وتهرب من توغله فيها.
تخيل جسراً يجمعهما.. هما فوقه ملتحمان متحدان، وليس جسراً يربط بينهما.
تخيل أنها وهو.. يمشيان امتداد هذا الجسر في لحظة غروب، والبحر أرضية لهما وللجسر، ويعودان فوقه وقد أسدل الليل سُتره، فيضمها إلى صدره!
تلك هي مملكة العشق بكل جنونها الذي حلم أن يحيا معها!
ها هو الآن: معتقل في بقعة صغيرة حبسته هي داخلها بين: الممكن والمستحيل!
إنه الآن يفتقد حميميتها... عندما تكون في نهره.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1064  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 155 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج