شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل السادس: لؤلؤة القلب!
* في قطيعتها الأخيرة... إكتنفه زحام عجيب، يندهش الآن أنه لم يحاول الإنسلاخ من: زحام النفس، مع ضربات القلب في هموم الحياة.
وكان هناك زحام آخر.. يتدافع فيه أمامه: بعض العاجزين والفاشلين الذين لا تقدر تربة نفوسهم أن تُطلع زرعاً بل حنظلاً مريراً!
هذا الزحام.. كان ((فارس)) يظن أنه استسلم له - على غير عادته - لكنه ما لبث أن تمرد عليه وكسر طوقه، وهو يحلم بزحام آخر تمثل في اكتشاف درب يسلمه إلى دفء كلمة حب في عصر أولغ في الماديات، ويسلمه إلى حنان أنثى حبيبة، وإلى أمان صديق وفي لا يخونه، ولا يطعن في الظهر، ولا يتنكر!
عبرت أصداء صوت ((سارة)) أذنيه - في إطلالتها عليه كأنها تشاركه هذا الهمس مع نفسه ثم تشاكسه بطريقتها وتقول له:
_ ((طيب وأنا مالي يا أخ... أنا تجاوزت غمك الأزلي هذا من اللي تسميها قطيعتي لك.. الآن صرت أكثر مرحاً وإنطلاقاً، وأكثر كسراً منك لأي زحام يحاول أن يحوطني أو يأسرني))!
إرتسمت إبتسامة على شفتيه، وهو يتخيلها في هذا الحوار.
الله يا الدنيا... كانت هي ذلك ((الحلم)) الذي هرب إليه من طوق الزحام، وغابت.... حتى انبعث صوتها من جديد: واقعاً!
يوم أن عاد إليه صوتها مجدداً... كان يصدّ اشتياقاً لها في صدره، أحاطته أسئلة قلقة عنها: ما هي أخبارها.. كيف صارت.. سعيدة أم ما زالت في دوامة معاناتها؟!
دفعه الشوق يومها إلى المرور ببيتها... وعبر متباطئاً أمام البوابة، كأنه ينادي تلك الشجرة التي ترحب بالقادمين من الباب الداخلي، والتي تستيقظ غالباً بعبقها في الفجر.. وكانت تراهما وتسمعهما!
تساءل في نفسه: ترى.. هل أحدثت ((سارة)) تغييراً في نظام البيت من الداخل، ربما جاء مشابهاً للتغيير الذي حدث في داخلها هي/ صاحبة البيت!!
إذا كانت هي قد تغيرت، والدنيا تغيرت، والمجتمع كله لم يعد ذلك القديم بقيمه، وعاداته، والتزاماته.. أفلا تتغير الجدران، والأسقف، والنوافذ، و... الأبواب؟!
تذكر أغنية ((فيروز)).. وأدار محرك عربته، وهو يدندن: آه... ((لبْواب))!
هل ما زالت ((سارة)) تتذكر أغاني فيروز: سيمفونياتهما، أو سيمفونيات حبهما؟!
تُذكِّره ((فيروز)) دائماً وأبداً بهذه الحبيبة ((سارة)) وهي ملتحمة بداخله:
ـ (إلى متى تبقى سارة في هذا القلب.. ممتزجة بخفقه ونبضه)؟!
يُذكره صوت ((فيروز)) بحوارات ومواقف بينهما... تلك الأيام الخوالي.
صدفة.. كان يفرز ذات يوم ما تقادم لديه من أشرطة الفيديو في بيته، بعد انتهاء صلاحية عصر الفيديو، ودخوله عصر الستلايت والغم الفضائي... وعثر على مسرحية لصباح اسمها: ((دواليب الهوا))... وأخذه الشرود إلى الأجمل من العمر والأحلام... كأن صوت صباح يتردد في سمعه الآن، تغني تلك الأغنية من ألحان الرحباني، التي كانت ((سارة)) تغنيها له كلما أعلن لها عن موعد سفر له: (سفّرني معك... على ها الطرقات)!
ياه... الذكريات، الأيام، الأبواب!
كم يتمنى الآن: أن يترنم في سمعها بموال من الشجن... بكل حزنه النبيل هذا في داخله!
لم تكن ((سارة)): مرحلة في عمره، بل: زمناً، وحياة، وعصراً كاملاً!
الآن... ظهرت من جديد.. فجأة منحته دفء صوتها، فهل ستعاود الإختفاء من جديد؟!
فكَّر - بمجرد احتواء سمعه لصوتها - أن يعود إلى تعوده معها، وطبيعته (القديمة): أن يكتب إليها... وكان يروق لها آنذاك أن تطلب منه الكتابة، بل ((تتوسل)) اليه أحياناً ليكتب لها.. كأنها - في ذلك الزمان - قصدت إشباع غرورها من خلال متعتها بالحياة الأجمل في كلماته التي تجسد الغرور فيها، وتحلق بها إلى الحلم.
لكنه اليوم... كأنه هو الذي يرغب أن يتوسل إليها، لترضى أن يكتب لها، وأن تقرأ ما يكتب.... فلماذا؟!
هل هو: متعب؟
ربما... وهي حضن الراحة الذي يُشكل انتماء روحه.
هل هو: شَجِِن؟!
ربما.. وهي على امتداد كل تلك السنوات: توأم لشجنه هذا.
هل هو: عاشق؟! ربما... والحياة لم تُبقِ له إلا الأصداء، ولا يقول: النهايات!
كم كتب لها هذا ((الإنسان)) القابع في أعماقه وهو يغوص في فراغ ((الوداع))، لكل ما يركض إليه بفرحه، وبخفقة قلبه، مثل ركضه إليها... فيرتد إليه الفرح حسيراً، وترتد خفقة القلب: مثلوجة!
وهي - سارة - لعلها تركت من ذلك الزمان: بسمة ((تاريخية)) على شفتيّ فارس.. كالورود المجففة... وها هو الآن: وحده بدونها.. بلا أنفاس عطرها، يتقطر خيالاً وتخيلاً لها، وتصوراً، وحساً.. كأنه في لحظته هذه التي يستغرق فيها أبعاد الأيام الخوالي وأصداء صوت ((ساره)) يستقبل أنفاسها!
كان الأعجب أن يتحول التشخيص هنا إلى: شخص!
والأعذب في واقعه هذا: أن عذابه يبلغها، وتقابله بعذاب آخر.
* * *
أيقظه رنين هاتف بيته... جرّده من التخيل، والذكريات، ورماه من جديد في الواقع.
قام بتثاقل ليجيب فجاءه صديقه ((أحمد)) ماتبقى له من زحمة الأصدقاء في زحمة عصر الجحود، وفقدان ذاكرة الوفاء... صديق أوحد يفضفض له عن همسات نفسه، وأسئلتها.. ويتعاطف معه وهو يقرأ ((ملامح)) صوت فارس في إصغائه له.
ـ سأله: ماذا تفعل الآن؟!
* أجابه فارس: أُحدق في الجدار!
ـ قال أحمد: هل أمرُّ بك.. نخرج لنتنفس أمام البحر قليلاً؟!
فرح بدعوة صديقه.. لعله يهرِّبه من هذا الـ ((فلاش باك)).
وهناك أمام البحر.. سمع ((أحمد)) تفاصيل العودة الجديدة لسارة من فارس.
ـ قال له أحمد: (تعرف أن ما ربط بيني وبينك هو وعد مشترك من الضياع والألفة والغربة، والشوق إلى التجوال.. أتحسس مشاعرك وكلماتك كرذاذ الجليد على سطح القلب، وأتخيلك هناك...... تقف بملابس الصيف: متجمداً مرتعشاً، لا تقوى حتى على نزع الألم من صدرك، ولا حتى من محبرتك.
أسألك الآن: كيف انشقت الأرض عنك هناك... عندها، وفاض الألم، وأصبح الجميع - فيها هي - يبحث عنك حيث يحبون أن يلقوك؟!
هل هي التعاسة في دروب المدينة كلها... أن هو الحزن في دهاليز العبرة؟!
هكذا جعل منه صديقه أحمد: بطلاً لرواية غابرييل ماركيز: الحب في زمن الكوليرا!
وعندما أعاده صديقه إلى البيت في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.. كانت شجونه تفيض منه، واشتياقه مندلع يتصبب لسماع صوتها.
ها هو الحلم يزهر.. حروفاً وكلمات منه.
زهر كلماته: يناديه، يناجيها.
كلماته إليها.. تجسد له وجهها، وصوتها، وتنشر ضوءها في ظلمة من حوله...
لحظتها تتشكل رسالته إليها: حقولاً تموج سنابلها بحبه لها.
جمع الأوراق البيضاء تحت يده.. وأخذ في دفع قصائده: موجات في بحر جنونها... يناديها:
* (يا من سميتك/ لؤلؤة القلب:
الوقت الذي يفيض بنا: حنيناً.. نغرقه في الإنتظار، ربما.... حتى الموت!
دعيني - الآن - أقترب منك في مسافات سفرك البعيدة.
دعيني (أتخيلك): كيف صرت... هل تحولت حنطة جسدك إلى لون الشوكولاتة؟!
لكنك في أسفارك كنت - وما زلت - تهربين من الشمس والصحراء إلى الأنهار، والحدائق، والعشب/ الطريق... ليبقى جسدك - كما هو - حنطة التمييز في سفرك!
أي جنون تبقَّى في عمق عينيك الواسعتين من عهد الهوى والعاشق الصبّ لك؟!
اشتقت إليهما/ عيناك... تلك التي رأيت وجهي - ذات ليلة يختلط مع سوادهما العربي، ودمعة الوحدة.
أوه.... جحيم - يا لؤلؤتي - هذه السنوات التي عشتها دون أن يختلط وجهي بسواد عينيك!
كيف صارت ملامحك الآن؟!
ستضحكين... ستجيبين: ((صرتُ أحلى.. صرتُ أجمل.. فأنا أنثى في مدخل الأربعين/ يحلب ثمري: عسلاً))!!
كان ((صدرك)) الشامخ: عنواناً لرمز السيف... يستوقف رقبتي ليقطعها وأنا أوسدها هذا الصدر!
كيف حال ((السيف))/ صدرك؟!
لم أشعر بثورة الحياة ورقبتي تُقطع إلا بسيف صدرك.
ماذا فعلتِ بشعرك؟!
المرة الأخيرة التي منحتني فيها ((صبابة)) من روائك لعطشي - قبل سنوات - رأيت شعرك: قصيراً.. أقصر من كتفيك... كان غيظي شديداً، كتمته في صدري دون أن ألومك على قص شعرك حتى ينتشي غرورك بعمل شيء يغيظني، أو يكسر رغبتي، أو يحطم ذوقي في شعرك.
رأيت شعرك كسنابل القمح البكر... أذكر أن لونه الأصلي كان مغرقاً في السواد، لكنّ نسمة السفر في أوروبا: غيّرت لونه بلون الناس هناك!
وتلك التسريحة التي رأيتها تاجاً على رأسك أول مرة... فأحببتك: هل تغيرت؟!
عفواً... لا ينبغي أن أسأل، فلماذا تبقى التسريحة - وحدها - بعيداً عبث التغيير؟!
كنت حين أجلس أمامك.. أتأمل خصلة من شعرك تغطي نصف جبينك، ويضيء النصف الآخر في مزج بين الفجر والليل!
فهل بهتُت حنطة جسدك، أو ازدادت إلتماعاً وارتواءاً؟!
هل تظلل عيناك: رموش تمارس الحب بالأهداب المتكسرة؟!
هل أبقيت على ذلك الليل المخمَّر بأنفاسك الدافئة.. المعتَّق في اشتهاءات اللحظة التي تلد طفل الفرح من رحم النرجس؟!
أين صرتِ؟!!!
حدثيني عن: مقدار تحطيمك لمل ترفضينه الآن؟!
دعيني أحدثك عن نفسي - قليلاً - فليس غيرك من يستحق أن أدعه يغوص في هذه النفس!
أعترف لك: صرت في خصام مع نفسي/ بعد قلبي... والكثير في هذا الزمان: صار يزيف الصدق، ويشرخ التوحد.
صرتُ أردد في وحدتي وتوحُّدي مع الحزن النبيل بعدك: أسى عظيم حين يشعر الإنسان أنه وحده.. قلبه يتيم، وأيامه بارده.
ها أنا ذا أحيا بجانب الصخر.. وأرحل فوق الموج/ حلماً، لأغرق.
في السنين التي غيّبت صوتك ووجهك: ركضت أبحث عن المطر/ أنت، و... ضعت وأنا أفتش عن ((صدفَتك)).
هاتف نسمة ربيعية من خارج الطقس، فعبرت بي.. حتى أسلمتني للأصداء!
رأيت قلوباً مسجونة في الغربة، وعقولاً ترشح تفاهة، ونفوساً غطاها الصدى.
لذلك.. إندهشت في مرورك الخاطف على سمعي أنك سألتني بعد كل هذا العمر، وكل تلك المعاناة: ((إنت بتحبني بجد))؟!
ياه.. كدت أسألك: هل فقدت ذاكرتك؟!
لو سألتك.. أتوقع أن يكون ردك: ((أيوه.. فقدت ذاكرتي))!
عندما طلبت منك أن ((أراك)) بعد تلك السنوات المدرجة في الغياب.. كنت أطمع في: ذاكرة قلبك... كنت لحظتها: أحبك أكثر من تشبُّثي بالحياة.
فأنت الحياة... في زمن الوفاء الصعب.
أنت لم تعودي ((حبيبتي))... بل أنت: حب الماضي، وأنت: خفقة القلب في هذا الحاضر.. تشتعل الخفقة بنداء صوتك، وتضيء بلمسة يدك ليدي!!
* * *
وحده صار في هذا الميناء.. ينادي عليها بصوت الحنين، و...... ما زال الحنين: لظى!
يتَّقد حنينه في حرقة أشواقه إليها.. يتوجّع خفقه في معاناته مع غيابها.
ينسكب أمله: صبراً، وترقباً لعودتها من رحلة الصيف الآخر التي طالت منذ بدأتها من سنوات ذلك الصيف الأول!
* قالت له في تلك السنوات: سأعود... فلا تدعني أجدك، لأنني لن أعود أنا.... فـ ((أنا)) كطبيعة الأيام والسنين!
ـ أجابها يومها: سأنتظرك.. وأراهن على اقتناص أول نظرة لك بعد العودة!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1131  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 154 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج