الفصل الخامس: السلام مع النفس |
* بعد أن أنهت كتابتها إلى ((فارس)).. احتوتها لحظات حزن وتأمل. |
أخذها الشرود بعيداً إلى شيء غير محدد... لا تدري، ربما كانت تدري أشياء كثيرة. |
هو ((التبليم)) إذن... لازمها كحالة، أرادت أن تنفكّ منها وعجزت. |
الليلة - في منتصفها - ستبدأ سفراً جديداً، وما زالت حالة ((التبليم)) تلازمها. |
دعتها صديقتها إلى مشاركتها وصديقاتها سهر النصف الأول من الليل في بيتها. |
وفي وسط صديقاتها... لم تشعر بتحسن، بل تضاعفت الحالة لديها حتى الرغبة في البكاء... فآثرت الإنسحاب والعودة إلى بيتها حتى لا يصبح دمها ثقيلاً عليهن.. وتستعد للحظات السفر. في بيتها... بكت، تدفقت دموعها. |
ليس هناك سبب تدريه، هرعت إلى الهاتف، وطلبت ((فارس)): |
* سألها: ماذا حدث لصوتك.. هل تشكين من زكام؟! |
ـ أجابت وهي تحاول الضحك: ربما... هو زكام نفسي، لقد كنت أبكي يا فارس. |
* قال: ولماذا البكاء؟! |
ـ قالت: صدقني لا أدري... البارحة بكيت فجأة بلا داع، والليلة شعرت بالإختناق حتى بكيت. |
* قال: ربما لأنك مسافرة.. ستغيبين فترة أخرى عن أهلك وعائلتك ووطنك.. وربما كان هو الانتقال الجديد في حياتك! |
ـ قالت ضاحكة: باسم الله عليّ.. تقولها كأني سأنتقل إلى الدار الآخرة! |
* قال: لعلّها ((النقلة)) الجديدة بعد كل النقلات التي تشكلت منها حياتك. |
ـ سألته: ((إيش درّاك.. أنت يا أخي ما زلت مشكلة في حياتي.. ليه تقرأ أفكاري وعمري؟! |
إسمع... صحيح أنا أفكر في برمجة حياتي الجديدة، لقد سبق لي أن تزوجت، وصرت أماً وربيت، وأحببت.. والآن: العيال كبرت، رتبت حياة إبني، فماذا تبقَّى؟!.. طبعاًً أنا الذي تبقَّى!!.. أحياناً أسأل نفسي: هل أنا أنانية؟! |
* قال لها: بعد كل هذا لن تكوني أنانية.. بدليل: أنك أجَّلت ترتيب رغباتك الخاصة.. كان زوجك أولاً ولم يعرف كيف يتعامل معك، ثم كان ابنك، والآن.. أنت، و.... أنا!! |
ـ قالت ضاحكة: ((نعم؟!.. وأنت ليه تقحم نفسك في حياتي دايماً، يمكن بأحب رجلاً آخر))؟!. |
* قال مغتاظاً: لا بأس... المهم أن تحبي، أقصد: تحبي أحداً غير نفسك! |
ـ قالت: بتشتمني؟!.. لا بأس، لكن تعرف.. إكتشفت فيك حاجة جديدة لم تكن في طباعك القديمة اللي عرفتها.. إنك أصبحت إنساناً واقعياً/ مثلي... وهذا شيء جميل، على الأقل حتى تستطيع أن تتعايش مع بشر هذا العصر. |
* قال: لا تفرّحي نفسك هكذا... واقعي في هذا الحوار معك، أقصد: أنني آخذك على قد واقعيتك...... |
ـ قاطعته: على قد عقلي يعني... إنت ما زلت دمك ثقيل. |
* قال: ما زلت أمزح معك.. لكنَّ الحياة هي الأخرى متوقفة في جوانب منها. |
ـ قالت: أنا أبحث عن سلام مع نفسي ومشاعري الداخلية.. أشعر الآن أن حياتي بدأت تِصْفى... خلاص انتهت المقابلة الهاتفية، أودِّعك لأني طالعة المطار بعد شوية.. يمكن أستخدم معك التسويف: سوف أكلمك من محل إقامتي، سأسمع صوتك.. ويمكن لن يحدث ذلك، ولا تكون أية ((سوف)) بيننا.... مع السلامة! |
* وضع ((فارس)) سماعة التليفون... كأنَّ الشرود الذي أصاب ((سارة)) قد عداه. |
كأنها ذهبت - كعادتها - ولن تعود.. وإذا أرادت العودة فليس قبل عدة سنوات مماثلة لما سبق، و... ترى: إلى متى يعيش، ويصمد في هذه الحياة أمام تحديات: ارتفاع ضغط الدم، وكوابيس الواقع المادي، والمتغيرات التي أخذت تُحدث الشروخ الخطيرة في بنية المجتمع من الداخل: السلوكيات، والوشائج؟! |
ليل آخر يتمدد الآن بين جوانحه... لم يعد له أنيس يهدهده في وحشة الليالي سوى هذا الانتظار لها، لصوتها، لخطها عبر الفاكس.. ولسريته الشديدة معها دون الآخرين، بل دون كل شيء قد تتشكل منه حياته اليوم. |
أمامه عبارة قالها ((ماياكوفسكي)) يوم قرر أن يختار بنفسه طريقة موته، بعد أن فرغ من أفراح الحياة العابرة، ومن أفراح الكفاح التي جُيِّرت لغيره.. فقال يومها: |
ـ ((الحادث أصبح منتهياً، وزورق الحب تحطم على صخور الحياة اليومية))! |
((فارس))... لا يدري الآن: هل تحطم زورق حبه مرة أخرى؟! |
((سارة)).. هي التي تعرف وحدها، وتقرر له هذا المصير. |
وسرت إليه عدوى حالة ((سارة)) قبل سفرها... عنده رغبة شديدة للبكاء، وهو - أيضاً - لا يدري السبب. |
تذَّكر بيت شعر لنزار قباني، فأخذ يهمس به: |
- أنا شجر الأحزان... أنزف دائماً وفي الثلج والأنواء.. أُعطي وأثمر))! |
|
ربما كان بكاؤه.. لأنه استغرق في بعض الصور الوطنية التي أعاد قراءتها اليوم عن وضع أهله العرب.. عن تمادي إسرائيل في اللعب بمصير العرب، فهي التي توقف مباحثات السلام، وهي التي تدس أنفها، متى أرادت، وبأمر منها... والعرب ينصاعون، ويهرولون... كأنّ الكرامة العربية تحولت إلى مجرد أسطورة... |
((كأن المروءات أطرقت.. وموطن آبائي: زجاج مكسَّر))! |
ما زال يستذكر ذلك الشعر الذي حفظه يوماً، والذاكرة لم تفقد تفاؤلها بالغد: |
((هُزمنا.. وما زلنا شتات قبائل |
تعيش على الحقد الدفين، وتثأر))! |
|
الصورة مجسدة في وقائع، وأحداث.. بل وفجائع: العراق والكويت، البحرين وقطر، السودان ومصر... أمثلة، أمثلة، أو كما قال ((عبد الصبور)) قبل أن يموت قهراً بالأزمة القلبية: |
- ((حزن تمدد في المدينة |
كاللص في جوف السكينة |
كالأفعوان بلا فحيح))
|
|
تدفق الشعر على ذاكرة ((فارس)) بكل ما فاض من آلام النفس وأحزان المعاناة الأكبر: |
- ((يا صاحبي.. |
زوّق حديثك.. كل شيء قد خلا من كل ذوق |
أما أنا.. فلقد عرفت نهاية الحذر العميق |
الحزن يفترش الطريق))! |
|
يخبط ((فارس)) رأسه حتى يفيق من هذا الاستذكار الموجع الذي يصور واقع الحال. |
إنه مدعو إلى حفلة الضحك التافه غالباً، المنتشر المشروع! |
من الأشياء التي يظن أنه يختلف فيها مع هذا الجيل الجديد - وقد دعس الأربعين- هو: الذوق وحسن الاختيار.. بدءاً من الذوق في الموسيقى أو الأغاني، ورأيه: أنه لم تعد توجد في هذا العصر: موسيقى، بل أجهزة وآلات. |
تأثر نفسياً من شباب هذا الجيل الجديد.. يكاد الأب لا يرى أحداً من أبنائه يتغذى معه وأمه أو يتعشى، ويجد ابنه الآخر نائماً طوال ساعات النهار وحتى ساعات الليل الأول.. يستيقظ بعدها وينفك يهرول إلى عربته وأصدقائه حتى بعد منتصف الليل.. ويجد ابن صديقه في شكوى أبيه من إدمان الإبن على الهاتف لا يبرح يده ساعات طويلة! |
فهل هو جيل: تافه، أم معطل، أم عاطل، أم يفتقد التوجيه، ولم يجد القدوة؟! |
ماذا يفعل هذا الجيل.. هل هو باق: يحدق في سقف الغرفة؟! |
هل يقضي ساعات الليل سهراً.. يمزق ساعاته الأولى في الشوارع والأسواق التجارية، وأماكن النزهة (البريئة) بنظرات جائعة.. ثم يمزق منتصف الليل في لعب الورق أو المغازلة بالهاتف؟!! |
هكذا صارت العلاقات الأسرية الإنسانية في أكثر البيوت... كأنّ هذا الجيل الجديد تحكمه أشياء تمتُّ إلى الرغبة أكثر، وإلى ((الأنا))... أشياء مؤقتة لا ثبات فيها ولا ثبات لها، حتى الحب أو العاطفة الجميلة تحولت إلى مجرد: تفريغ شحنة لا أكثر! |
* تذكَّر ((فارس)) يوم دعاه صديق يصفه باللهجة الشعبية أنه (مفلغم).. أي ثري موسر. وكانت السهرة خاصة ما أن دخلها حتى شعر بالقرف في تلك المفاجأة بعد بقائه ساعة.. وقد مال عليه جاره يهمس: |
ـ((لا تفتح فمك كالأبله.. كل سهراتنا كده، وفي بيوت كثيرة.. إيه يهمك أنت، إنبسط، وفرِّغ، وروح بيتك نام))! |
شعر بدوار يعصف به في تلك.. قرف من نفسه، ومن واقعية الواقع أو العصر، ومن هذه (المباشرة) المسددة كرمح إلى الأشياء التي يرغبها الإنسان، مع الإشياء التي يحرص أن يحافظ عليها... كلاهما: مقتولة وقاتلة في عمق نفس الإنسان شعر - أيضاً - أنه يحاول ملء ثقوب الذاكرة في قمة وهج الجراح، أو كما سمته كاتبة عربية: (وجع الشهوة)... فحتى الشهوة صارت تتوجع، لأنها بعدت عن ذلك الإحساس بالتعبير عن الحب في مباشرتها، ومعنى اللذة في التعبير التلقائي الذي يتفوق على تزوير اللحظة أو سرقتها! |
الجانب الآخر في واقعية المادية، أو مادية الواقعية: أن الشيء الوحيد الذي حرص البشر عن إبعاده على التزوير، هي الكراهية. وذلك يتطابق مع عبارة ((مونتيرلان)): |
ـ (إذا كنت عاجزاً عن قتل من تدّعي كراهيته، فلا تقل أنك تكرهه.. أنت تعهِّر هذه الكلمة)! |
في الكراهية إما أن تبرز قوة الكاره، وإما أن يُسقطه عجزه! |
وهكذا - أيضاً - يفتش البعض عن (الشيء المضبوط) في حياتنا.. فهل تبقَّى شيء مضبوط؟! |
يشرد الفكر بـ((فارس)).. ويقول في هذا التيه الذي يتمدد به: |
ـ ربما أن الذي خسرناه هو الأكثر... لا يوجد أكثر من العمر الذي تمهره بصمة! |
ربما أن الذي خسرناه هو: الحب، وهو الأمان في ظل تغيير المجتمع والنفوس. |
فهل يفجعنا الآن لو اكتشفنا - في الأشياء اللا مضبوطة واللا منضبطة - أن الأبوة صارت مزيفة، والبنوّة مزوّرة؟! |
زفر((فارس)) من صدره آهة، وصمت... كأنه خرس!! |
* * * |
|