شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقط...عيناها
هذا المساء يلمع بالطل..
المطر يغسل طرقات المدينة وأرصفتها وجدران بيوتها.. وبين الجوانح شجن، كأن غيومها تلفع الأضلع.
شعرتُ بالوحدة.. وأيضاً: رغبتُ أن أكون وحدي، أدخل إلى غرفة نومي منذ ساعات الليل الأولى، ولا أعرف ما الذي. سأفعله.
كل ما فعلته أنني سارعت وأطفأت جهاز التلفاز. وتركت الضوء الوحيد في غرفتي هو هذا الذي يشع من ((الأباجورة)) التي وضعت بالقرب من رأسي. أما الضوء الذي أحسه من أعماقي فقد افتقدته هذه الليلة.
صدقني.. لا أعرف سبب هذه الرغبة في العزلة. كنت أحس بالضيق.. حتى منك أنت.
لم أرغب فيك هذه الليلة، ولكني تمنيت أن تكلمني وأحادثك.. أي كلام أقوله لك وأسمعه منك. أحبك أن تتكلم وتحكي، فكلامك يريحني كثيراً).
وأخذت كل هذه الأحاسيس معي إلى غرفتي الخاصة كأنها أسراري. أنت اليوم أهم أسراري التي تسعدني، وأحياناً تسبب لي الاضطراب.
وأقفلت باب غرفتي علي من الداخل. تهيأت أن أقرأ. أمسكت بمجلة، ثم ما لبثت في يدي أكثر من دقيقة حتى قذفت بها. فتحت صفحات ديوان شعر. تعرفني أحب الشعر، وهذا الديوان هدية أعرته لي وأنت تردد ضاحكاً: هذا الديوان للإعارة والقراءة وليس للأخذ.. أنا حرامي كتب، فلا تكوني مثلي!
سقط الكتاب على صدري، وشرد فكري، كأنني أناديك.. كأن خواطري تطاردك هذه الليلة لتعتقلك وتحملك إلي. اشتقت إليك.. ولكني أريد أن أبقى هذه الليلة وحدي.
سألْتني هذا اليوم: ما بك... أحس أنك متضايقة.. من هو ((ابن الكلب)) الذي يجرؤ على مضايقتك، أو يهون عليه ذلك؟!
أحياناً أنت تستخدم الشتائم حتى ضد نفسك!
وابتسم.. فلم تكن أنت الذي ضايقني.. بالعكس.. وجودك معي يريحني ويخلصني من هواجسي وتناقضاتي.
شدني القلق إليك من جديد. نحيت الكتاب جانباً، ونحيتك أنت أيضاً. مشيت إلى النافذة. أزحت ستارتها.. فرأيت الشارع المزدحم بالسيارات وبالأضواء. كان المطر قد توقف.. ولكن الطرقات والأرصفة والسيارات تلمع بعد المطر.
أريد مطراً يغسل نفسيتي، ولكن... يبدو أن أعماقي تشبه مدينة ((جدة)): لا يأتيها المطر إلا نادراً وغريباً!
أرجوك... لا تعاقبني على كلامي هذا، فأنا أحبك، وأنت مطر نفسي أو نفسي تعشب حينما تمطر أنت على حياتي. ولكني الآن متضايقة.. أفكار كثيرة في رأسي، أنا بالفعل ((محتاسة)). عندي هموم صغيرة، وهموم أخرى أخافها.
تعرف؟ عندما أراك، وعندما تكتب لي.. فإنني أمتلك نفسي، وأنت تعيدني إلى جوهري، وإلى الشخصية الأصلية لي. معك أجد نفسي.. وفي كلماتك أرتاح، كأنك تفتح أمامي عدة نوافذ، وتنسج لي الأحلام الزاهية. صرت أنت وحدك ((دنيتي)) المجردة من الزيف، والتمثيل، واعتساف الفرح أو الراحة.
عندما تحتوي يدك يدي لا تمتلك أنت كل الدنيا، كما تقول لي دائماً، بل أنا أيضاً أشعر معك أنك تأخذني من يدي، وتنطبق بي من بوابة واسعة، وتعيدني إلى عالمي الحقيقي، وتتجول بين أرجاء الرؤية للحياة.
آه... يا أنا، أحبك حيل!
ولكن... كيف يمكنني أن أواصل الاحتفاظ بك، أو تواصل أنت الاحتفاظ بي؟!
سيان... المهم أن يحتفظ كل واحد منا بالآخر.. في قلبه، وفي حياته.
هل تذكر الأيام القريبة؟!
ـ كنت تقول لي: أنا أخاف عليك من الناس.. أخاف عليك حتى من الذين اعتقدت أنك أحببتهم يوماً ما، وأخاف عليك من الذين أحبوك. أحياناً.. الحب في قمة أنانيته يدفع المحب لأن يحطم كل ما أمامه، حتى لو كان حبيبه.
ـ أجبتك يومها: بل أنت تخاف مني أن أتركك مرة أخرى، وتخاف من نفسك تبعاً لذلك أن تكرهني!
ـ قلت لي: يوم أكرهك يكون شعوري قد مات. ولكن... كيف تميتين مشاعري وأنت التي أحييتها من جديد؟ لا أستطيع أن أكرهك ولا حتى بعد موتي.
فعلاً... أريدك أن تحبني في كل يوم جديد أضعاف اليوم الذي مضى. احتملني بكل تناقضاتي وشكوكي أو ظنوني!
أنت كنت ((تظن فيني)).. آلمتني وعذبتني بشكوك في حبي لك. أنت تعلم أن المرأة إذا أحبت رجلاً فمن الصعب أن تستبدله برجل آخر. هذه طبيعتها التي قيل عنها إنها من نار ونور..
ولكنك حبيبي... ولو لم تكن بهذه المساحة في نفسي وقلبي لما منحتك خصوصياتي كلها.
صحيح... أنا التي أخذت أشك فيك، بعد أن هدأت ظنونك أنت. صرت أخاف أن تفجعني يوماً بالفقد، أو بخيانتي، أو اكتشف أنك طفل، وأنني لعبتك الجميلة اليوم، ولعبتك التي تحطمها غداً.
أريدك أن تبقى كبيراً في نظري وفكرتي، وأن تبقى طفلاً فقط معي ونحن نمزج الابتسامة على شفتينا ونقطرها بين ضلوعنا.
* * *
أعدت الستارة إلى موضعها لتغطي النافذة وتحجب الشارع والأضواء.
ـ ترى.. أين أنت الآن... لماذا لم تتصل بي؟!
سأم. قلق. أكاد أختنق!
رن الهاتف فجأة. ركضت نحو أريد أن احتضنه. أنت.. هذا أنت أخيراً!
هذا المساء جاءني صوتكْ شَجِناً.. يلبس الشوق، وتحتكَ نبراته كالرعد. سألتك:
ـ إيش فيك.. هارب مني؟!
هذا المساء أجبتني:
ـ إنني أفتقدك.. كأنك أخرجتني قسراً من دنياك، وحكمت علي بالنفي.
ـ قلت لك: أخبرتك أنني متعبة.. أريد أن أخلو إلى نفسي معك. أفكر فيك بحياد.. أقرأ رسائلك إليّ للمرة المائة. أريد أن اكتشف شيئاً أفتش عنه.
ـ لكني أشتاق إليك.. امنحيني دقيقة واحدة، واحدة فقط.. أنظر فيها إلى عينيك وأرحل، لن أبقى.. أعدك.
ـ أمرك عجيب الليلة.. إيش فيك؟!
ـ فقط عيناك.. لا أريد سواهما. نظرة واحدة إليهما تروي عطشي إليك. لست طماعاً.
ـ يا أهبل.. تراك جنّيت!
ـ فليكن.. ((مملوكك.. لكني سلطان العشاق))!
ـ أنت درويش متجول؟!.
ـ عيونك جعلتني هذا الدرويش الشاعر، الممزق بعيداً عنهما.
ـ سألتك ضاحكة: كيف أصبح شكلك الآن؟!
تخيلت الدهشة على وجهك من سؤالي، وخيّل إلي أن إجابتك ضاعت في هذا السؤال المفاجئ والمشاكس. قلت لي:
ـ تغيرين الموضوع؟!
ـ قلت: أبداً.. صدقني إنني أسألك عن شكلك. يتهيأ لي أنني ما رأيتك من زمن طويل. خيّل إلي أن وجهك قد زحفت إليه التجاعيد، وشعر رأسك قد ابيضّ كله.
ـ أجبتني ضاحكاً: كل هذا في ساعات، أو في ليلة ويوم؟!
ـ قلت لك: وليه لأ.. ألا تحبني، وشوقك إلي يتضاعف؟!
ـ وهل نسيت وجهي بهذه السرعة؟!
ـ وكيف أنساه؟ ولكني أعرف أن وجهك يتموج بالحالة النفسية.. حينما تكون فرحاً يضيء ويشرق، وحينما تكون حزيناً يشع الانكسار في أرجائه.
ـ عندما أراك، أجد: ((عيناك على قلبي مشرعتان)).. يشع وجهي بالبهاء النافذ من عينيك إلى عيني. عيناك ابتسامتي.. فيهما نداءات تدفعني لأن أنضو الحزن وأنطلق كما طفل!
أرتجي أن أراك.. لكني أخلدت للصمت برهة، وخلتك تقف متوتراً ترتقب إجابتي.
ـ سألتني بعد ذلك الصمت: ها... هل أطير إليك؟!
ـ قلت: شرط أن تأتي الآن.. الآن فعلاً، ولمدة دقيقة واحدة!
ـ أجبتني: إذن... افتحي الباب، لا تغلقيه. بيدك أنت افتحي لي الباب!
ـ تعرف أني لم أعد أقدر أن أغلق أبواب نفسي وقلبي في وجهك.. فكيف باب البيت؟!
أنت دخلت وسكنت وتربعت.. صرت غذائي، ودمعي، ومائي، وهوائي!
ـ إذن... دعيني أراك دقيقة واحدة!
ـ ولكن... عيناي لا تتفتحان عليك هذا المساء.. دعني وحدي.
ـ وهل تدعيني بدون عينيك؟! سأكون عندك بعد دقائق.
ـ أنت ملقوف... مجنون يا ولدي!
فتحت لك بوابة البيت، وبحركة لا إرادية حاولت أن أسدل جفني، ربما خجلاً، وربما مناكفة لك لأصدك عن رؤية عيني.
ـ سألتك ضاحكة مندهشة: ماذا أصابك الليلة.. هل جننت بالفعل؟!
ـ صافحتني ونظراتك زائغة، أو مضطربة. لم تجب عن سؤالي، وإنما اتجهت فوراً إلى الركن المفضل لديك.. حيث تجلس في كل مرة هناك أمامي، تتأمل عيني ووجهي.
ـ قلت لك مبتسمة: الدقيقة انتهت من فضلك.. عليك أن ترحل.
ـ أجبت: الدقيقة تبدأ حين تتوجه عيناك إلى عيني.. لحظتها يكون من الصعب أن نحدد موعد انتهاء ((دقيقة)) مميزة تختلف عن حجم الزمان كله.
ـ لم يفعل مثلك قيس!
ـ لأن عينيك أجمل من عيني ليلى!
ـ يا منافق... يا حبيبي!
ـ وتحرمينني منك أحياناً.. فأشعر أنك تعاقبينني، بل تعاقبين نفسك.
ـ صدقني أنني أتمناك. الليلة أحسست أنك وحشتني، وحشتني جداً.
ـ انتهت الدقيقة التي منحتها لي.. لا بد أن أمشي.
* * *
كأنك أردت في هذه اللحظة أن تنتزع نفسك من قلبي. خفت أن يطول غيابك.
ـ أتمنى أن أراك في كل لحظة. لأ.. ربما تمل مني بعد ذلك. أراك دائماً.. يا ليت!
تنازعني الخوف والحب لك. ليتك تبقى معي، وليتك تذهب.
هذه الليلة كنت أعاني من اضطراب أفكاري، لكن مشاعري نحوك لم تضطرب.. وحين ودعتك، وقفت خلف بوابة البيت كأنني أريد أن أبكي.. ليتني أستطيع أن أبكي الآن لأرتاح!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1522  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 130 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج