عنوان الزمن |
* أصرَّت ((إلهام)) أن تبحث لابنها ((فارس)) عن فتاة من أسرة طيبة.. حتى يهدأ بعد الزواج ويستقر، ولا يعرض نفسه لمخاطر مثل تلك التي رواها لأبيه في حكايته الغريبة! |
وطال الجدل بين الأب والأم.. لم يكن من رأي ((خالد)) أن يزوج ابنه في هذه السن.. على الأقل يتركه حتى يتخرج من الجامعة، ويعتمد على نفسه، ويقدر على فتح بيت، ومسؤولية أسرة وأطفال! |
أما ((إلهام)).. فقد كانت متشدِّدة في إلحاحها بضرورة تزويج ((الولد)). قالت لزوجها وهي فزعة: |
ـ يعني ننتظر حتى نرى ((الولد)) في السجن؟! |
ـ لقد كانت تجربة مريرة بالنسبة لابننا، وصدِّقيني أنه استفاد منها. |
ـ أصدقك.. كيف؟.. هذه المرة ذهب مع امرأة جميلة أغوته وأغرته.. المرة الأخرى سيذهب مع مروجي المخدرات. ألا تعرف ماذا يجري في البلد؟! |
ـ أسألك الآن وأجيبيني بصراحة: ألم تحسني تربية ابنك؟! |
ـ أعتقد ذلك.. ولدي لا يمكن أن يدمِّر نفسه. |
ـ لقد تحدثت معه طويلاً، وبعد أن روى لي حكايته بصدق.. حتى أخطار الانزلاق وراء الشِّلل، خوفاً من سقوطه في فخ المخدرات قد حذرته منها.. وجدته يعي كل ذلك بقناعة وحرص.. فلا تخافي. |
ـ حدثني ((فارس)) مرة عن زميل له في المدرسة، كان يبدو عليه الشرود والإعياء، حتى جاء يوم أخذه فيه رجال الأمن بتهمة تعاطي المخدرات.. ألا يشكل مثل هؤلاء خطراً على أبناء الناس في المدارس والجامعات؟! |
ـ بلى... وبعض هؤلاء أيضاً من أبناء الناس الذين غُرِّر بهم، لكن أهلهم لم يحسنوا مراقبتهم وتربيتهم.. فالأب مشغول، والأم منشغلة.. وهذه نتائج فترة مضت، كان الكثير من الناس يجرون فيها وراء الفلوس، والجاه، والمراكز، والنزوات أيضاً.. مما أدَّى إلى إهمالهم لبيوتهم وأسرهم.. |
ـ لذلك... لا بد أن نزوج ((فارس))! |
ابتسم ((خالد))، وربت على كتف زوجته المفزوعة، وقال: |
ـ اهدئي.. واتركيني أعالج الأمور بحكمة. |
ـ وهل أنا مجنونة؟.. إنني مثلك متعلمة، وجامعية، وقارئة جيدة! |
ـ لأول مرة منذ تزوجنا يا ((إلهام)) وطوال هذا العمر.. أسمعك تفاخرين بمثل هذا الكلام. |
ـ أعمل إيه.. لقد غظتني! |
ـ أنت قدت معي سفينة هذه الأسرة في بحار كانت أمواجها عاصفة، وكنت أراك صامدة وعظيمة.. ولا أشك في رجاحة تفكيرك أبداً، لكنك في هذا الوقت يسيطر الانفعال عليك، وتدفعك العاطفة.. خوفاً على ابنك وعلى مستقبله، بينما يحتاج الموقف إلى تروي وهدوء أعصاب! |
لقد كبرت البنت، وكبر الولد.. ولا نريد أن نعاقب الولد على خطأ ارتكبه، بل نناقشه ونحاوره ونقنعه، ونراقبه. |
ـ قالت غاضبة: نعم؟!.. وهل إذا زوجناه، يعني ذلك أننا نعاقبه؟! |
ـ لم أقصد أن الزواج عقاب، ولكن ((فارس)) سيشعر بذلك، فيكره الزواج، ولقد فعل بعض الآباء ذلك.. فكانت النتيجة سلباً في معالجة مشكلة كهذه! |
ـ يا ربي.. إنني لم أبرأ بعد من الجرح العميق الذي سببه لنا ذلك ((المدعوق)) عاطف ال......! بعد أن كسر نفس ابنتنا، ولا أحتمل مطرقة أخرى بعد تلك المطرقة! |
ـ ذلك كله مكتوب لنا ولأسرتنا، ولا بد أن يكون إيمانك بالله قوياً. |
* * * |
لكن أصداء هذا البيت قد خيَّم عليها حزن ككل.. يحاول كل فرد في الأسرة أن يداريه لئلا يؤثر على مشاعر بقية الأسرة.. كل فرد يعاني من صراخ في داخله، ومن ألم يعصف بأحلامه، ومن طموحات تطرد وراء أبعاد نظرته.. يحدث أن ينام ((فارس))، وتنام ((عهد)).. ويبقى الأب والأم في غرفتهما، يلفهما في البدء صمت الهموم.. كل منهما يعرف ما يعتمل في نفسية الآخر.. ثم يعلو صوتاهما تدريجياً.. ويكتشف ((خالد)) أن زوجته يمضّها القلق المضاعف، فهي لم تعد قادرة على التفكير، ولا على الصبر، ولا على إعادة كثير من الأمور إلى نصابها! |
ـ تقول لزوجها: ماذا حدث.. كل شيء تغيَّر. تصرفات الناس، سلوكياتهم.. حتى أسلوب عواطفهم وحبهم؟! |
هل يبدو ما نحسه على شكل إنذار باقتحام الشيخوخة.. فلم نعد نطيق شيئاً، ولا نتقبل أي تصرف من الجيل الآتي؟! |
صرت لا أدري.. لا أدري! |
أما ((خالد السعيد))- زوجها- فإن أكثر ما يقلقه، كان ينصبّ على مستقبل عائلته. كانت لهم أملاك.. بيوت وأراض، وأموال في البنك.. وبعد أن فقدوا ذلك كله، وعصفت بهم المشكلات والأحزان، وبعد السجن والإعسار.. صار ((خالد)) يعرف أنه لا بد له من بداية أخرى، ولكن... كيف؟! |
عندما بدأ الحياة في مطلع شبابه.. كان قادراً وطموحاً، ومتفائلاً، ومحارباً، ومتسابقاً.. يمتلك كل مقومات وصفات الانطلاق.. أما الآن.. فإنه يشعر بالتعب المرهق، وينتابه ذلك الخوف الغامض على عائلته. كان يلمح في بعض الأوقات لابنه وابنته، فيقول لهما: |
ـ أريد منكما أن تتسلحا بالعلم. الشهادة في يد كل منكما سلاحه، ومفاتيحه التي تشرع له أبواب المستقبل والفرص والتقدم.. كلما عظمت شهادة أحدكما، ارتقى وارتفع، ووجد المجال الأوسع. |
كل منهما.. يطمئن هذا الأب الذي هدته المحن والمواقف التي ضعضعت الكثير من قدراته. |
ـ قالت عهد: لا تخف يا أبي.. سنكون فخراً لك! |
ـ قال: ليس في الحياة وقت لي لأفخر فيه يا ابنتي.. بل أريدكما أنت وأخاك أن تفاخرا بعلمكما. |
* * * |
وهذا المساء- في منتصف الليل- فرت دمعة دافئة، جارحة من بين جفني ((خالد السعيد)).. وهو يشرئب بنظراته إلى بعيد، داعياً، ومناجياً، ومتسائلاً: |
ـ ترى... ما الذي سيحمله الغد لهذا الجيل الذي يتبلور الآن من خلال همومنا ومتاعبنا، وكفاحنا، وتحديات عمرنا؟! |
الدلائل تشير إلى توقعات كثيرة.. عصر المركبات الفضائية، والأقمار الصناعية، والترانزستور، والأزرار الأتوماتيك، والأمراض الخبيثة، وسهول القتل وإهراق الدماء بلا ثمن، وازدياد الجامعات! |
الآن... ما هو الفرق بين الموت والحياة؟! |
الآن... ما هو ثمن الدمعة، وثمن الابتسامة؟! |
الآن... إن ((خالد السعيد)) لم يعد يقدر. على التفكير! |
إنه عمر خلط الأوراق في كل شيء.. بشكل وقح. |
جيل قادم من التصعيد لكل شيء!؟. |
ولقد عاش ((خالد السعيد)) زمنه هذا الذي يصفه، فيقول: |
ـ إنه زمن يليق بنا.. بكل ما مارسناه، وبكل أخطائنا، وبكل محاولاتنا ومشاوير التغير والتبديل، وبكل عشقنا ومادياتنا، وبكل كراهيتنا وعواطفنا! |
زمن يليق بنا.. لأننا الذين صنعناه بنفسياتنا، وبنزعاتنا، وبظروف العيش والحياة. |
هكذا عاش ((خالد السعيد)).. زمنه الذي يليق به وبجيله.. بابتساماته، وبدموعه. وترك اسم ابنه، واسم ابنته.. ذلك الرمز الكبير لمعنى الزمن! |
إن الرمز إلى: فروسية المواقف، في اسم ابنه ((فارس))! |
والرمز إلى: الالتزام بالعهد، والوفاء، في اسم ابنته ((عهد))
|
أو هكذا تمنى ((خالد السعيد)) أن يعنْون حياته الحافلة بالتجارب المريرة، والشهية معاً! |
وأغمض ((خالد السعيد)) عينيه، وأراح رأسه على حافة السرير. |
في تلك اللحظة.. أحس أنه يدخل في إغماءة طويلة.... طويلة!! |
انتهت
|
* * * |
|