شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفرار من الجحيم
* أحس ((فارس)) أن رأسه يتطوح، ويكاد يسقط من فوق كتفيه.. نظرات والده تخترقه كسهام مسددة إلى مصداقيته، وضميره.. تمنى في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعه.. الحيرة والدهشة يعصفان به.. في شكل أسئلة مدببة:
ـ من أخبر أبي بالحكاية؟!
ـ كيف عرف تفاصيلها.. ومن رآهما، وهو الذي كان حريصاً جداً على كتمانها؟! تصبب العرق من وجهه وجسمه.. وشعر ببرودة تثلج أطرافه. غامت عيناه.. وارتج عليه.
وفي هذه العاصفة التي هبت بكلمة من والده.. جاءه صوته عميقاً:
ـ اسمع يا ((فارس)).. إنني لا أريد أن أحرجك، ولا أن أعاقبك أيضاً، فقد كبرت ونضجت.. فقط أريدك أن تكون صادقاً معي، وتحكي لي كل شيء بالتفصيل، وتثق في نصيحتي.
ـ العفو يا أبي... إنها المرة الأولى، والأخيرة.
ـ ليكن.. أخبرني بكل شيء.
ـ لا بأس يا أبي.. ولكنها حكاية غريبة، صدقني.. لقد اقشعر لها بدني. لم أصدق- أنا الذي كنت بطلها- إن ما حدث يمكن أن يتسلل إلى مجتمع يتصف بالتماسك والنقاء والقيم.. ولكنني أعتبر ذلك من الأجسام الغريبة فعلاً.
ـ أعرف يا ولدي.. لكن لا تنس أن المجتمع قد تعرَّض لاقتحامات ودخول أجناس متعددة، وتأثرات ومغريات، واحتياجات.. ولا تنس أنها مرحلة انتقالية، لا بد أن تحدث فيها هزات تهدد البنية الاجتماعية المترابطة، والبنية الأسرية.. ورغم ذلك، فإن ما تعرضت له بالتجربة، لم يكن مثالاً شائعاً.. بل كان خلخلة لموقف شاذ لا يعبر عن وحدة المجتمع، وأخلاقياته.. والآن... ما هي الحكاية؟!
ـ ولكن يا أبي.... أرحني، وأخبرني كيف علمت... أرجوك؟!
ـ حسناً.. هناك فئة من الناس تفتش عن حكايات الآخرين وأسرارهم وحياتهم الخاصة، وهناك الجانب الآخر في حكايتك، وهو جانب معروف لتعدد ممارساته التي تمت معك أنت.. وأيضاً تمَّت مع غيرك، فهل فهمت؟!
ـ ول!!!... إلى هذه الدرجة؟!
ـ وأكثر... المهم، ما هي الحكاية؟!
* * *
ـ كنت أشعر بالملل، وأخذت أتجول في واحد من الأسواق الحديثة المتناثرة. لم يكن معي في ذلك المساء أي واحد من أصدقائي.. كنت أشعر بالوحدة أيضاً، وبالفراغ.. وأردت أن أروّح عن نفسي، فدخلت ذلك السوق الذي يرتاده الشباب مع مطلع كل مساء.. أتسكَّع مثلهم تحت أضواء الليل والفترينات، وفي زحام البشر.
لم يكن في نيتي أن أشتري شيئاً.. مجرد فرجة وتسلية، وطيش شباب، وملل. أين أذهب، وماذا أفعل.. غير هذا الذي طرأ على بالي، وكنت متعوداً عليه مع أصدقائي بين فترة وأخرى.. حينما نملّ من المذاكرة، والقراءة، ومن كل الذي تعوّدنا عليه!
فجأة... وأنا أخرج من محل لبيع أشرطة الكاسيت، بعد أن ابتعت شريطاً جديداً... لمحتها!!
لم تكن فتاة غضة، ولا صغيرة، ولا مراهقة!
لا... كانت امرأة متكاملة، ممشوقة القوام، مياسة.. تضع اللثام على أنفها وفمها. خلت أن عينيها نجمتان توصوصان، وتحاصران نظراتي وانتباهتي إليها! توقفت.. شبه متجمد، كالمذهول.. كنت فاغر الفاه.. وكانت تملك عينين جذابتين، ساحرتين بحق!
وخطرت من أمامي.. تتأوه، فتابعتها.. دخلت إلى متجر للأقمشة، وانتظرت خروجها أمام باب المتجر!
وفي كل مرة... كانت ترمقني بنظرة، مثل رصاصة اخترقت صدري.
صدقني يا أبي.. إنها منطقة جاذبية كاملة، بكل ذبذباتها القوية.. واستمرت تدخل متجراً، وتخرج منه إلى آخر.. أكثر. من نصف ساعة.. وفي. كل مرة أتلقى رصاصة جديدة من عينيها، كأنها تدعوني للحاق بها.. فأنجذب وراءها!
أخيراً.. اتجهت صوب بوابة الخروج، وأنا أتبعها.. امتطت سيارة تنتظرها بسائقها. وخلت أنها أومأت لي.. ركضت إلى سيارتي بجنون،. وسحر منها.. أتمنى أن لا أضيّع سيارتها.. وعرفت بعد ذلك أنها كانت ترقبني.. عبرت سيارتها من جانب سيارتي.. تمشي الهوينى!
تبعتها بسيارتي: شارع رئيسي عريض، إلى شارع فرعي متوسط، إلى شارع صغير شبه مظلم.. توقفت سيارتها هناك، وبالتالي. أوقفت سيارتي حتى لا أصطدم بسيارتها فوجئت بها تترجل من سيارتها، وتتجه إليَّ!
دخلت بسرعة إلى المقعد بجانبي، وقالت:
ـ بسرعة.. انطلق وراء سيارتي.
ـ قلت، وقد بدأت أرتجف: إلى أين؟!
ـ قالت: ألا تريدنا أن نتكلم، وترى وجهي، ونسهر معاً؟!
ـ قلت مندهشاً: نسهر معاً.. أين؟!
ـ قالت: في بيتي!
لاحظت أن لهجتها تختلف تماماً عن لهجتنا.. فهي ليست من منطقتنا، ولا من بلدنا! يدها.. ناصعة البياض، ودقيقة، ورقيقة!
ـ سألتها: من أين أنت؟!
ـ أجابت: وهل يهمك.. مادمت أعجبتك، وأنت أعجبتني!
ـ قلت لها: ولكن.. أنا لا أعرفك، ولا أدري إلى أين ستأخذينني؟!
ـ قالت: لا عليك.. اطمئن، لقد شعرت بجاذبية إليك، مثلما شعرت أنت أيضاً بجاذبية نحوي. شكلك وسيم، وفيك رجولة مبكرة.
ـ قلت: صحيح.. لقد شعرت بجاذبية نحوك، ولكن....
ـ قاطعتني: وبعدين؟... لا أحب الرجل الذي يخاف .ويتراجع.
واستغرق هذا الحوار طريقنا إلى بيتها.. تقدمتني إلى داخل البيت بخطوات مطمئنة... وفي داخل الصالون الأنيق، الوثير فرشه.. وقفت في مواجهتي، ورفعت لثامها! وندت مني شهقة.. دون أن أقدر على حبسها!
سبحان الخلاق العظيم.. كيف يدنس هذا الجمال؟!
كانت أنثى ذات جمال مثير، وأخاذ!
وفي الوهلة الأولى.. خفضت رأسي، وعيني..
أخذتني من يدي، وأجلستني في صدر الصالون، واستأذنت لحظات.. كنت أعاني من الرجفة والخوف.. أسائل نفسي برهبة:
ـ كيف فعلت ذلك؟!
ـ كيف أدخل بيتاً لا أعرف من تكون صاحبته.. وماذا ينتظرني فيه؟!
ـ كيف فعلت هي ذلك.. تدخل شاباً غريباً، ولا تخاف؟!
عادت بعد دقائق، وقد أبدلت ملابسها بغلالة مثيرة.
جلست بجانبي.. اقتربت أكثر، وسألتني مبتسمة:
ـ هل تشرب.. أم أعلمك؟!
ـ قلت لها: أشرب ماء.. إن حلقي يجف!
قهقهت بدلال.. وقامت تتراقص مثل أفعى، وأحضرت لي الماء.
لطمتني المفاجأة القاصمة.. التي كادت تشلني!
لقد غادرت الصالون، وما لبثت أن عادت ومعها رجل في العقد الرابع من العمر. كان يبدو عليه التهالك.. ربما لأنه مفرط في تناول أشياء لا أعرفها.
ـ قالت لي: أقدم لك... زوجي!!
ألجمتني المفاجأة.. حتى عجزت عن الرد.
ـ استطردت: لا تخف.. إنه حبّوب، سيسهر معنا، ويستمتع بالفرجة!!
ـ سألتها هامساً: هل هو من نفس جنسيتك وبلدك؟!
ـ قالت: هذا لا يعنيك، إنه مسكين.. يعاني من العجز الجنسي!
ـ همست لها أيضاً: ولماذا تبقين معه.. من حقك أن....
ـ قاطعتني: ألم أقل لك أن الأمر لا يعنيك؟.. عندي ظروف، مضطرة لها، أو أنني مضطرة له، وطالما رضي ببقائي معه هكذا.. فليشرب كأسه وحده.
ـ سألتها: وماذا تريدين مني؟!
ـ قالت: تبسطني.. أبسطك، و.... ينبسط هو أيضاً!
ـ صرخت مفجوعاً: ماذا؟!
ـ قالت: اخفض صوتك.. لا تزعجه.
طلبت منها أن ترشدني إلى طريق الحمام.. فلم أعد أتمالك نفسي، وفكرت في مخرج جانبي، بحثت عنه واهتديت إليه.. وأخذت أركض نحو سيارتي، ألهث، ألهث.. حتى تأكدت أنني فررت من هذا الجحيم!
شيء فظيع.. بقيت عدة أيام في كابوسه، أحاول أن لا أصدقه، وأتساءل:
ـ ما الذي حدث.. ما الأسباب: الفلوس، أم السلوك، أم الحاجة، أم سقوط أشياء جوهرية كثيرة؟!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1189  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 121 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.