مرحلة العمر الأخرى |
* وجهه: أملس التعبير والملامح.. ابتسامته: ذات تركيبات عدة.. ولم تجد صفاء فيها.. كلماته: كأنه يضعها في كفتي ميزان.. ويحرص أن لا تميل كفة إلى أعلى أو أسفل. |
بمعنى: أنه يخلو من تلك الحركات العفوية، والتعبيرات الخالية من الخلفيات. |
ولم تستطع ((عهد)) أن تتبيَّن من قسماته ما تبحث عنه من معان ودلالات.. كانت تسترق النظر إلى وجه ((عاطف))... إنه لا يبدو أمامها: حيوياً، أو عفوياً... كأنه قد رسم نفسه بإتقان، ليظهر أمامها مهاباً، وهادئاً، ومسالماً.. ما أمكنه ذلك.. لعلّها فشلت في استخراج محتوى صدَفَته.. ربما لأن صدَفَته قاسية غير هشة، أو لعل فتْحتها مليئة بالرمل، أو ما نسميه: ((العُقَد))! |
لا بد أن يتكلم، فتسمعه... كيف ينطق، كيف يفكر، كيف يحاور؟! |
إنه يتشكل أمامها من مجموعة ألوان متزاحمة.. مثل اللوحة التجريدية، مليئة بالخطوط، ولكن شرحها هو الصعب! |
سألت والدها، بعد أن رأى ((عاطف)) أمامه، وتكلم معه: |
ـ ها... ما هو رأيك يا أبي؟! |
ـ أريد أن أعرف رأيك أنت أولاً! |
ـ قالت أمها: خلِّصونا... هل الولد سيارة أو فيلا؟! |
ـ قالت عهد: كما وصفته لك يا أبي. |
ـ قال خالد: برغم كل ما قلته عن ألوانه كلوحة تجريدية حسب وصفك، لكن ألوانه واضحة، الزحام الذي في داخله، فتحة ((الصَّدَفة)) المليئة بالرمل.. كلها أشياء سيؤثر فيها دخولك إلى حياته، وقدرتك على تنظيف الفتحة من الرمل. |
ـ قالت: لكني أخاف.. مازلت خائفة من بعض غموضه، ومن رماله! |
ـ قالت أمها: وبعدين؟!... لو جاءك كل شبان البلد، فلا بد أن يكون في كل واحد منهم عيب، وأنت أيضاً فيك عيب، وأنا، وأبوك، و كل إنسان. فليس هنالك إنسان كامل. |
ـ قالت عهد: ولكن... هناك إنسان معقول، ومريح. |
ـ وماذا به ((عاطف)) ها...؟ شاب مستحي، وأراه خجولاً أيضاً. |
ـ شرطي الوحيد.. أن أكمل دراستي، وأحصل على شهادة الجامعة. |
ـ وهو موافق على شرطك.. يبدو أن الولد قد انجذب إليك! |
* * * |
ولم تطل فترة الخطوبة.. كان ((عاطف)) متعجلاً جداً لإضفاء الحياة على بيته.. فهو موظف في إحدى المؤسسات، ويسكن وحده في هذه المدينة المزدحمة. أما أمه فتسكن وحدها في بيتها، وأخوته يعيشون حياتهم.. لكل منهم بيته وأسرته.. و((عاطف)) هو أصغر الأبناء والبنات، ويطلقون عليه: ((حبيب أمه))!! |
فكَّرت ((عهد)) في الحلم، مع بدء حياتها الزوجية.. إن ((عاطف)) في تعامله معها يبدو طيباً وودوداً.. وينجذب إليها كثيراً، ولكنه شديد الغموض والتلون! |
عيبه الذي اكتشفته في البدء: أنه عصبي جداً، ومتقلب المزاج، ويفتح أذنيه لكل كلام يقال له! |
ـ قالت لها أمها: هذه طبيعة الإنسان الذي ترينه صامتاً في الجلسة.. فلا تدعيه يغضب أو يثور.. أما فتح أذنيه، فلك أن تراجعيه بهدوء. |
ـ قال عاطف لزوجته: أريد طفلاً سريعاً! |
ـ قالت: مهلاً.. لست معمل تفريخ، دعنا نستمتع بحياتنا الأولى.. دعني أعبر المرحلة الصعبة في الجامعة! |
ـ قال: لا... أنت تؤجلين الإنجاب لتتأكدي من تشبثي بك. |
ـ قالت: وهل تعتقد أنك نحيف إلى هذه الدرجة؟! |
ـ قال: كل أصدقائي يقولون لي.. إن الزوجات يفعلن ذلك، حتى يثقن في تمسك أزواجهن بهن! |
ـ قالت: هذا يعني أن الشباب اليوم لا يؤتمنون.. لأن مزاجهم وتقلبه عامل مهم في استمرار الحياة الزوجية والإنجاب. |
ـ قال: فهل أصبر عدة سنوات لتتخرجي من الجامعة، ولتتأكدي مني؟! |
ـ قالت: بل عليك أن تثبت لي أنك لن تبيعني بخصام، أو بكلمة تسمعها! |
ـ قال: لكن أمي تلح علي في سرعة الإنجاب، لترى حفيدها مني. |
ـ قالت: لديها أحفاد كثر. وأنا أحب الأطفال، وأحب أن يكون لي طفل أو طفلة منك، لأنك أصبحت زوجي ورفيق عمري، ولكن... عليك أن تزرع الأمان. |
عبرت هذه العاصفة الأولى.. لكن ((عهد)) أحست أن زوجها أخذ يتغيَّب إلى منتصف الليل. |
ـ كانت تسأله: لماذا تتركني وحيدة في شقة مملة بدونك؟! |
ـ كان يرد عليها: إنني أذهب إلى أمي.. هل أقطعها؟! |
ـ كانت تحاوره: بالعكس.. أمك صارت أمي، ولكنها لا ترضى أن تبقيني وحدي إلى ما بعد منتصف الليل، لتسهر معها، والا.. ما كنت تزوجت، وكنت بقيت بجانبها. |
ـ قال: أنت تجلسين للمذاكرة، وأنا أسأم. |
ـ قالت: إجلس إنت وأقرأ. شاهد التليفزيون، والمذاكرة لا تستمر طوال الليل. |
ـ قال: أمل من القراءة، والتليفزيون سخيف ولا يجذبني. |
ـ قالت: هذا تكوينك، فما ذنبي، وماذا تريد... أن أذهب معك يومياً إلى أمك؟! |
ـ قال: وماذا فيها؟! |
ـ قالت: فيها... أنني لن أذاكر، وأن أمك بمجرد دخولي عليها تعبس لأنها تحس أنني سرقتك منها، ثم تأمرني بكنس بيتها، وغسيل صحونها، وأنا لست خادمة! |
* * * |
عبرت هذه العاصفة الثانية، التي بدأت تكبر! |
بعد شهور.. عاد ((عاطف)) إلى طلب الإلحاح في الإنجاب. |
ـ قالت له: لقد اتفقنا.. لا بد أن تحترم اتفاقنا وموافقتك! |
ـ قال: لكن أمي تلح علي... بل إنها... |
ـ قالت: إنها ماذا؟!... تكلم. |
ـ قال: تتهمك بالعقم.. أو بالإصرار على تناول حبوب منع الحمل. |
ـ قالت: لا.. لست عقيماً، ولكن تنظيم الحياة ضروري، وربما كان هذا التنظيم غريباً على جيل أمك وأمي.. أما الآن، فهو ضروري لظروف الحياة، وأنت وافقت أن أكمل دراستي، ومرتبك الآن- يا دوب- يصرف على اثنين في بيت واحد، غير ما تقتطعه منه لتعطيه لأمك، ولا أرفض هذا لأنها أمك. |
ـ قال: بالمناسبة... إن أخي يمر بظروف مادية صعبة، ورجاني أن أدبر له أربعين ألف ريال، وأعرف أنك تقتصدين في البنك من فلوس الجامعة، ومما يعطيه لك والدك.. فقط أعطني هذا المبلغ سلفة، وسأعيده إليك. |
ـ قالت: إنني لا أبخل عليك، ولكن هذا المبلغ ليس في حوزتي كله، وأنت تعرف ظروف أبي.. فأرجو أن تقدّر ذلك. |
ـ قال: هكذا إذن؟!... ولا أدري ماذا تريدين بشهادة الجامعة.. هل تعلقينها في المطبخ؟.. حتى الطبخ أنت لا تجيدينه! |
لقد بدأت خطوط اللوحة التجريدية تتضح، وأخذت الألوان تتغمق. |
هذا رجل تسيطر عليه أذنه، وأشياء أخرى. |
إنها لا تكره أمه.. لقد أحبتها بالفعل يوم رأتها لأول مرة، وحين احتضنتها وقالت لها: ستكونين مثل ابنتي هذه.. يهمني أن يكون ابني سعيداً. |
لكنها بادرت إلى أسلوب الدويّ في أذن ابنها المهيأة دائماً. وكان احتضانها لها يومها تطميناً، ودرءاً للغيرة. |
الآن.. يطلب منها أن تترك الجامعة. قال لها وهو يأخذها ذات يوم من باب الجامعة: |
ـ اسمعي... إن هذا العمل مرهق لي.. في الصباح أنقلك إلى الجامعة وأذهب لعملي، وفي الظهر أخرج من عملي وأقطع هذا المشوار، ولا أطيق هذه المشقة.. بالإضافة إلى أنني لا أجد غذاء ساخناً وطازجاً. |
ـ قالت: لكنك كنت تعرف ذلك، ورضيت بشرطي، ودعني أذكرك- لو نسيت- فقد قلت: سأكون سعيداً أن أرى زوجتي وهي تتخرج وتحمل شهادة الجامعة.. فما الذي تغيَّر الآن، أم أنك كنت تكسب الوقت وتراوغ؟! |
* * * |
وثارت العاصفة الهوجاء، الأكبر. |
بعد مرور عام في هذه النزاعات، والتنغيص.. فوجئت ((عهد)) بحماتها تطلبها على الهاتف. |
توقعت الكارثة من لهجتها وطريقة حوارها.. وهي تقول لها: |
ـ إسمعي يا صغيرة.. إذا كنت تعتقدين أنك استحوذت على ابني، فأنت مخطئة. هذا ابني الأصغر.. آخر العنقود، أجد فيه رائحة والده يرحمه الله، وكان مطيعاً لي لا يرد لي طلباً. |
ـ قالت عهد: وماذا فعلت لك ولابنك؟.. إنني أطالبه فقط بحقوقي عليه كزوجة؟! |
ـ قالت: زوجة؟.. حقوق؟.. كلام متعلمات آخر زمن. كلمة أخيرة.. لا بد أن يكون لابني طفل، وهذا إنذار أخير، ولا بد أن أرى ابني كل يوم، فأنا أمه ولا أطيق بعاده عني. |
ـ قالت عهد: إنه يتغيَّب عن البيت ويدَّعي أنه يذهب إليك.. فاسأليه أين هو، أما الطفل.. فقد اتفقنا على موعده. |
ـ قالت: موعد؟.. حتى ((الحَبَل)) له موعد عندكن يا بنات اليوم؟! |
أقفلت سماعة الهاتف في وجه ((عهد)). |
ضربت ((عهد)) رأسها في الجدار.. لم يكن في قدرتها سوى البكاء.. وعندما فتح ((عاطف)) باب الشقة.. أطل عليها بوجهه المكتئب العبوس.. حدست أنه ينوي على شيء.. فلا بد أن يكون بين محادثة أمه وشكله هذا توافق.. حاولت أن تتحاشى الحوار معه.. لكنه بادأها الكلام: |
ـ كلمة أخيرة يا ((عهد)).. إما أن توقفي تناول حبوب منع الحمل، وتتركي الجامعة، أو... |
ـ قالت: أو أعود إلى بيت أبي؟! |
ـ قال: إفهميها!! |
* * * |
|