المملك.. في السماء |
* تشهد غرفة ((عهد)) بريق تلك الدمعة التي طفرت من عينيها.. كبرت الدمعة.. حتى أصبحت بحجم الغرفة.. تناثرت الدمعة.. جزء منها على مرآتها، وجزء على أدوات زينتها، وجزء على النافذة، وجزء حبيس تحت الهدب.. يجول قلقاً، ويجسِّد خوف هذا الشباب المتفتح، الماثل كياناً يُسمى: فتاة في مهب الريح! |
أصبح الزواج عاصفة، وهبوب ريح؟! |
ـ سألت نفسها: لماذا الخوف؟! |
إنها تسمع حكايات عديدة في الجامعة عن مفاهيم الشباب، وطريقة تعاملهم مع الزوجة... خاصة إذا كانت جامعية، أو دارسة، أو من أسرة موسرة! |
نصف طالبات الجامعة، من زميلاتها، أو ممن هن في المراحل النهائية، أو المتوسطة... عُدن إلى بيوت أهلهن: مطلقات |
واحدة: عاشت عاماً واحداً، وأنجبت طفلاً، وقد رحلت مع زوجها العريس الذي يدرس في الخارج.. فأهانها في ((الغربة)) وأعادها بطفل مشرد وورقة طلاق! |
خامسة: لم تعش في بيت الزوج أكثر من ثلاثة شهور.. وعادت بورقة طلاق! |
عاصفة مجنونة تهب.. فلا يفيد التعليم، ولا تفيد التربية! |
عاشرة: فسخت خطبتها بعد شهور.. وقد تبيَّنت سلوكه، وأسلوب تعامله معها.. فقالت: |
ـ لقد فزت.. ونفذت بجلدي! |
في بدء دخول ((عهد)) إلى الجامعة.. تناهت إلى سمعها الحكايات، ورأت ذلك الفزع في عيون البنات.. حتى المدرسات يرددن تلك الحكايات! |
لا أحد يريد أن يفجر السَّبب الحقيقي. ربما سيولة الفلوس في يد الشباب، والحياة المرفهة... من الأسباب. ربما خوف الشاب/الرجل من ((إشاعة)) أن البنت صارت متعلمة وبالتالي ستهيمن عليه في البيت.. فأراد أن يبادر بمعاملتها كرجل صارم، وأحياناً ((غثيث)) ليحجّمها. ربما تطور ذهنية البنت ووعيها.. يجعلانها لا تقبل الإهانة والتسلط! |
ولكن... ليست هذه المشكلة الأساسية الغامضة.. هذه أسباب، فأين تكمن المشكلة؟! |
وسائل الإعلام لا تناقش هذا الخطر الداهم.. فهي منشغلة!! |
* * * |
لملمت ((عهد)) شتات نفسها، وطرحت أسئلتها على أستاذة لها مقربة: |
ـ من الذي يطلق الرصاصة الأولى.. الشاب أم الفتاة؟! |
ـ قالت المدرسة: ماذا تقصدين؟! |
ـ قالت: أين الخلل.. في فكر الشباب، أم في فكر الفتاة.. أم في البيئة الاجتماعية والتربية؟! |
ـ هذا موضوع يطول... يحتاج إلى دراسة ميدانية. |
ـ لماذا لا تدرسها الجامعة، كمشكلة حيوية تهدد بناء الأسرة الجديدة... لماذا لا تناقشها الصحافة وتغطيها؟! |
الحوار محدود. الحوار مقطوع. الحوار أبكم!! |
لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولية شيء. |
الشباب يشكو. الفتيات يشكين. الأب، والأم.. في فزع يتصاعد!! |
وتستمر هذه ((الروابط المقدسة)) وحفلات الزواج، ثم تنقطع فجأة بحزن أليم! |
ويستمر الإنفاق الغدق، والتبذير، والبذخ.... وتبقى ((السعادة)) المنشودة: نقطة ضائعة في بحر من الرمال المتحركة! |
في داخل غرفتها.. لا تكاد ((عهد)) تستقر في موقع. |
تحس أنها مثل طلقة طائشة.. مثل ومضة برق.. مثل صوت الصاعقة الذي يدوّي في الصحراء. |
ـ ترى... ماذا حدث لأخلاق الصحراء؟! |
لا أحد يعرف الإجابة.. لا أحد يبحث عنها.. الجميع منشغل بشاهقات المباني، أو الكتل الأسمنتية، وأناقة الديكور والأثاث، والمظهر الخارجي، وفخامة المكاتب، والسيارات بموديلاتها الحديثة، والسفر! |
انعكست رداءة الإنتاج على الإنجاز، وتمدَّد ذلك الانعكاس.. حتى بلغ التفكير، والشعور، والسلوك، والروابط، والعلاقات. |
((الطَّفْرة)) التي حدثت.. أخرجت الناس من بيوتهم إلى: الصالونات، والمكاتب، والبنوك، وأخرجتهم من غرف نومهم إلى جوف الطائرات، ومن حميمية مشاعرهم.. إلى حُمَّى شيكاتهم وجيوبهم! |
تيار... استسلم لاندفاعته الكثير، حتى السلوك والمشاعر والروابط والثقافة.. هم أيضاً استسلموا لذلك التيار، وغرقوا فيه! |
كانت أشياء كثيرة محددة.. فأصبحت اليوم: غير محدودة! |
* * * |
بدَّد الصداع ما تبقى من أفكارها وتفكيرها.. بعد هذه الإجابة الطويلة التي ردَّت بها على السؤال! |
حتى دموعها التي كانت تنساب لحظة عاصفة نفسها.. انحسرت، وجفت.. تبقّت لديها الحسرة، والأسئلة، والخطوة التي لا بد أن تتخذها. |
ـ أين هي الآن.. من هي الآن؟! |
إنها لا تعرف، لا تسمع، لا ترى! |
وسمعت طرقة أمها على باب غرفتها.. تستعجلها لترتدي ملابسها وتتزين، استعداداً لاستقبال: غدها! |
حين انتهت من ارتداء ملابسها.. اتجهت صوب غرفة والدها.. رأته متكوماً فوق السرير.. يبحلق في سقف الغرفة المظلمة إلا من ضوء خافت ترسله ((أباجورة)) صغيرة بجانب رأسه. |
رمت نفسها على صدره... تبكي! |
احتضنها، يربت على ظهرها وكتفها.. يشحذ جأشها. |
رفعت رموش عينيها المبللة بالدمع. قالت لأبيها: |
ـ أريدك بجانبي. |
ـ قال لها: الله معنا جميعاً، لا تخافي.. إذا كان الله قد قدَّر لك شيئاً، فلا بد أن يتم.. رضيت أم أبيت، فلتكوني مؤمنة ومتماسكة. |
جرس باب الشقة يقرع.. فزعت. ارتجفت. ازدادت التصاقاً بأبيها.. في هذه الدوامة، والخوف، والمجهول.. رأت وجه والدها الجريح.. يبدو أن والدتها قد أمسكت بزمام الأمور كلها.. لم تجد في ملامح وجه أبيها.. ذلك الرجل الذي عرفته: قوياً، صاهلاً، حازماً.. أشياء كثيرة تقشَّرت، وتساقطت، وتبدلت. |
يا إلهي... حتى نفوس الناس؟! |
بل نفوس الناس أولاً.. الخلل قد بدأ من هنا! |
ـ وما الذي خلخلها؟! |
الكثير كان (يرتكب) الحياة.. لا يحياها، ولا يعيشها! |
دخلت أمها.. فوجئت بهذا المشهد: |
رأس عهد يتوسد صدر أبيها، وهو يحتضنها، ومازال يربت عليها. |
ـ قالت مندهشة: ما هذا.. هل سآخذك إلى ساحة الإعدام؟! |
التفتا إليها معاً- الأب والبنت- ولم يجيباها بكلمة.. قامت ((عهد)) متثاقلة.. تجر قدميها ببطء، وهي تتلفت نحو أبيها، حتى غادرت الغرفة. |
ـ قالت إلهام لزوجها: ماذا قلت للبنت؟! |
لم يجبها.. أطفأ ضوء ((الأباجورة))، وغطى وجهه.. لم يرد أن تراه زوجته يبكي مرتين.. مرة بسبب الخوف من هذا الزواج، ومرة: حزناً على فراق ابنته التي ستترك هذا البيت لأول مرة إلى بيت زوجها.. ويبقى مكانها الفارغ: مليئاً بالحنين والشوق.. ليت الناس كلهم يعرفون قيمة الدموع... إذن ما أهدروها! |
وليس في مقدرة ((خالد)) في وضعه الآن.. إلا أن يستريح بدموعه.. |
* * * |
وحين فرغت ((إلهام)) من توديع ضيوفها.. ركضت مع صوت إقفال الباب إلى زوجها: متهللة، مستبشرة. |
ـ قالت لزوجها: صرت تغضب مني كثيراً هذه الأيام، لكني أريد مصلحة ابنتي، صدقني.. كل فتاة تريد الزواج. هذا دلع بنات.. لا أكثر! |
ـ الله يسوي الطيب. |
ـ لماذا أصبحت بهذه السلبية؟! |
ـ هل ركوني إلى الله سلبية.. يا امرأة؟! |
ـ لم أقصد.. المهم، إسألني عن أهل العريس. |
ـ سألتك.. ماذا عنهم؟! |
ـ أمه تبدو طيبة، وقد تهلل وجهها مع النظرة الأولى ((لعهد))، وهي سيدة راسية، وتوزن كلامها، أما أخته.. فقد أحبت ((عهد))، التصقت بها، وتصاحبا من الدقائق الأولى. |
ـ الله يستر... وما هو رأي عهد؟! |
ـ مصممة أن ترى أنت العريس، وتتحدث معه. |
ـ حقها... ولا بد أن تراه هي ويراها... هكذا الشرع. |
ـ خلاص.. نفذوا الشرع يا سيدي، المهم... لا تفوتوا هذه العائلة، قبل..... |
ـ قبل إيه؟! |
ـ لا يروحوا وما يرجعوا... مثل الأول! |
ـ المثل يقول: ((المملك في السما))، وما يكتبه الله سيكون. |
* * * |
|