شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طلوع البشارة
* تلاحقت الأحداث في بيت ((خالد السعيد))... وهو- رب البيت- يعاني من شلل حركته داخل أسوار السجن، والقضبان التي تفصل بينه وبين الحرية، والحب، والتئام شمله بعائلته!
كان يلتقي بأسرته مرة في الأسبوع، بعد أن حدَّد لهم هذا الموعد، ليلتفت كل فرد في الأسرة إلى دوره ومسؤوليته.. لم تعد هناك دموع.. لقد ذرفها الجميع حتى الثمالة.. حتى الجفاف.. لكن الصدور تصطك بالأسى والحزن، ويعتمها الألم وقلة الحيلة.. الجميع ينتظر الفرج من مسيِّر هذا الكون العظيم جلت قدرته.. فلا شيء في أيديهم لتقديمه كحلول أو بدائل.. لإخراج رب الأسرة من سجنه.
وفي واحد من تلك اللقاءات الأسبوعية التي يرى فيها ((خالد)) أسرته من وراء القضبان، وإن كانت إدارة السجن قد سمحت له بلقائهم في مكتب السجن... لكن السجن كله قضبان... يومها، سأل ((خالد)) زوجته:
ـ ماذا فعلت بمشروعاتك؟!
كان يحاول أن يرسم ابتسامة مودة ومرح، ليمتص من نفوسهم ووجوههم تراكم هذا الحزن.
ـ قالت إلهام لزوجها: لم يصلني الرد من الجهة المسؤولة عن تعييني مدرِّسة حتى الآن. أخبروني أن الإجراءات تستغرق وقتاً، برغم أنني حاصلة على شهادة جامعية، وأن هناك الكثيرات من المدرسات المتعاقدات! لعلهم يصدرون قرار تعييني في العام القادم!
ابتسمت الأسرة المتحلقة حول ((خالد)).. لكن الابتسامة على شفاههم تبدو خائفة من إعلانها لمدة لحظة.. من إعلان مرح مؤقت!
ـ قال خالد: لكنك باشرت في تنفيذ مشروعك!
ـ قالت: صرت ((بزنس ووم)).. افتتحت مكتباً باسم ابننا ((فارس))، وصرت أديره فنياً من الداخل، وابنك يديره من الخارج. اتصلت بالكثير من الأسر لإقناعهم بتحسين بيوتهم ديكورياً. جلبت رسومات حديثة. كتبت لشركات ديكور، ويبدو أن التجربة في طريق النجاح.
ـ ما شاء الله.. همة تُحسدين عليها!
ـ لكن.. لا أعلم ما الذي جرى للناس؟.. أصبحوا يخافون على فلوسهم، أو لعلهم يقتصدون، ويصرصرون.. تحسباً لليوم الأسود.
ـ تقصدين أن ذلك التبذير في الإنفاق.. قد تحكّم فيه التَّرشيد؟!
ـ حتى من بعض صديقاتي اللواتي كنت أعرض عليهن فكرة تغيير ديكورات بيوتهم.. أجد الصد، كن يقلن لي: لا داعي للبذخ، بيوتنا جميلة بديكوراتها التي أقمناها حين بنيناها، وأسَّسْناها. كان الناس يغيرون الديكورات مرة في العام، مثل تغيير السيارة والأثاث، و.... ربما الزوجة!.. فسبحان مغيِّر الأحوال!
ضغط ((خالد)) على يد زوجته، وقال لها وهو يبتسم:
ازدادت حلاوة سخريتك!
ـ من غلبي يا أبا فارس.. الناس اليوم يعانون بالفعل، لأن السيولة النقدية قد شحت، وأصبح الاقتصاد فرضاً ملزماً لكل أسرة وبيت.
ـ تعني: أن مشروعك قد فشل؟!
ـ قلت لك إن التجربة في طريق النجاح. وجدت بعض الذين يعانون أيضاً من القلق، ومازال الله يكرمهم بالسيولة المحدودة، والقلق يدفعهم للتغيير في حياتهم.. وهذه قاعدة نفسانية!
ووجدت بعض الشباب الذي بدأ الخطوة الأولى في مشوار الزوجية والحياة.. ولا بد أن يجمِّلوا بيوتهم بتكلفة تتفق ومستواهم المالي والاجتماعي!!
ولا تنس أن الناس لم يتنازلوا عن المظاهر، ولن يتنازلوا أبداً، حتى ولو أفلسوا!
ولكني استفدت من التجربة.. فلم أوسع العمل، ولم أبالغ في طلبيات المواد التي ننفذ بها الديكور.. كل شيء في حدود المطلوب، والمعقول، وفي حدود الجيب!
ـ والعمال.. من أين توفرونهم؟!
ـ الآن... على قفا من يشيل، مطوَّحين في الشوارع.
التفت ((خالد)) إلى ابنه ((فارس)).. يسأله:
ـ وأنت.. ما هي أخبارك؟!
ـ عدت إلى الجامعة.. إنني مرهق بالفعل، أدرس بالنهار، وأدير مكتب الديكور في المساء، وأُراضي العمال وأجلبهم وأسرحهم، لكني أستفيد من كل دقيقة.
ـ المهم الجامعة... لن تعوض الشهادة بأي شيء، اسمع كلامي.
اقتربت ((عهد)) من أبيها أكثر.. احتضنته، وفي عينيها دمعة شوق. قالت لوالدها:
ـ أما أنا يا أعز الناس، فإنني أسعد الناس عندما أراك.. أدعو لك في الليل والنهار بأن يفرج كربك، ويقيل عثرتك. لا تفكِّر كثيراً يا أبي.. الله معنا.
ـ يا غالية... ما أخبار الدراسة؟!
ـ لا تخف على البنت يا عزّي أنت.. متفوقة كما عهدتني.
ـ الله معكم جميعاً. ربنا يسخر لك يا ابنتي بابن الحلال الذي يصونك ويقدرك ويحبك.
ـ دعنا من ابن ال.......، المهم أنت ونفسيتك.
* * *
لم يشأ أي فرد في الأسرة أن يخبر ((خالد)) بما تردد في أوساط المجتمع عن قيام شخصية كبيرة جداً برصد مبلغ ضخم.. أوقفه على ((فك ضيقة المعسرين)) وتسديد ديون المودعين في السجن وراء القضبان.
خافت الأسرة أن يكون الخبر من جملة الإشاعات التي تتردد.. مما يروجه الناس في شكل: تخيل، أو حلم، أو أمنية.. أو حتى إيحاء للآخرين.
حتى الإيحاءات.. صارت محدودة هذه الأيام.
وسأل ((فارس)) مدير السجن عن صدق هذه الإشاعة أو المقولة!.. فلم يؤكدها، ولم ينفها، ولكنه قال له:
ـ كلنا سمعنا.. والله وحده يعلم، ويسهّل!
لكن الإشاعة سرت بترديد متواصل، ثم بتأكيد:
ـ من أمضى عاماً وأكثر في السجن، وأثبت إعساره.. سيستفيدون من هذا التبرع.
صارت الأسرة تتابع الأخبار من أفواه الناس.. ما بين مد وجزر، وانفعال وتحفز، وقلق وبارقة أمل.. وتلاحقت الأيام، والشهور.. أربعة أشهر، والقلق يعصف بهذه الأسرة، وبأسر أخرى.. ترقب خروج رجالها من وراء قضبان السجن.. وتضاعف الأمل، وتحول القلق إلى انتظار.. يغلفه قلق مختلف، وربما مثير.. ويتخلله الخوف.
حتى ذلك اليوم.. الذي رن فيه جرس الهاتف في بيت ((خالد السعيد)) وصوت رجل يطلب محادثة ((فارس)):
ـ نعم...- أنا فارس.
ـ أهلاً... أنا مدير السجن!
ـ يا لطيف.. خيراً؟!
ـ لا تقلق.. بشارة لعائلتك. سيكون والدك من المستفيدين.
ـ تقصد... أن ديون أبي ستسدد من تلك ((المكرمة)).. من المبلغ الضخم؟!
ـ نعم يا فارس. أمسك أعصابك، وتعال إلى مكتبي.
* * *
أغمي على ((إلهام)) من الفرحة.. طفرت الدموع من عيون فارس، وعهد.
ـ قال فارس لأمه: لا يغمى عليك.. زغردي الآن يا أمي.. أبونا عاد إلى بيته.
سمع الجيران الفرحة تخترق جدار العمارة، وتنطلق إلى الشارع.. يكاد ((فارس)) أن يجن. ذلك هو الأمل غير المنتظر، بعد التأرجح على حفافي اليأس!
غص البيت بالناس.. بالأهل.. بالجيران.. بالأصدقاء.. احتضن ((فارس)) والده في غرفة مدير السجن، والدموع تغطي وجهه.
ـ قال: صعب أن يعيش الإنسان بلا أب.. صعب أن تعيش أسرة بلا رب!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :911  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 115 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .