الحب الأول |
* طافت بذهن ((فارس)) كل تلك الخواطر، وهو يسترجع حواره مع أمه ذات ليلة.. وكأنه يميل إلى تلك الحميمية التي حدثته عنها، وكانت تجمع عواطف الناس، وتمزجها، وتصهرها، وتوحدها بعد ذلك في رباط يستمر، أو في ذكرى جميلة لا تتشوه ولا تتنكر! |
وتطلع إلى البحر الممتد أمامه، وقد انعكست على مياهه أضواء الشاطئ، فاختلطت الأضواء بالظلال، بالعتمة، بغموض البحر، بعبور الناس.. كأن ((الحلم)) في حياته قد تحول الآن إلى أسطورة! كيف يحلم بهذه النفسية، وبماذا يحلم، وبمن يحلم؟! |
لقد كان صادقاً، وهو يروي لأمه في لحظة حوار الصداقة معها.. عن نزواته ومراهقته، ولكنه يشعر الآن أنه كبر عشرين عاماً.. إضافة إلى عمره! |
ودوّى في سمعه وأصداء ليله، صوت يشاكسه: |
ـ والحب، والشباب، والتجربة، والأحلام؟! |
استغرق بنظراته في ارتداد الموج أمامه، وتكسّره على رمال الشاطئ. |
كأن كل أحلامه.. مثل موجة واحدة كهذه، تأتي مندفعة من وسط البحر، لترتطم وتتلاشى.. لكنه لم يتحدث عن اليأس.. هذه مقدمة التجارب، وإن كانت جارحة، وعاصفة.. فلا بد أن يحتمل. |
مثل مسدس كاتم للصوت... كان يرى نفسه في هذه اللحظات. |
إنه معبَّأ بالرصاص، والطلقات تتوالى من داخله.. عبر فوهة نفسه، منطلقة إلى فراغات كثيرة، وأهداف غير مرئية! |
يريد أن يطلق الرصاص الآن، وهو مثل ذلك المسدس الكاتم للصوت!! |
يطلق الرصاص على: الحيرة، والحزن، والعجز الذي يسوره، والاكتئاب الذي يزحف إليه! |
يريد أن يعود شاباً.. يتفق وينسجم مع سنه ويفاعته. |
يغني، ويصرخ، ويتأرجح، ويتمرجح، ويحب، ويضحك، ويخطئ، ويجن، ويسقط ويقف! |
وبين هذه الكلمات... توقف تفكيره فجأة.. التصق بكلمة واحدة.. مثل قط أليف يتمسح بصاحبه. |
ـ ((يحب))؟!! |
ـ آه كم اشتاق إلى دفئ أنثى! |
من وقت طويل.. لم يفكر في هذا الاشتياق، كأنه سقط في بئر من الصمغ والطحالب! |
آخر مرة يذكرها... وقد أحس أنه صار رجلاً، قبل أن تتضاعف أزمة والده، وقبل أن يدخل السجن. |
كان يشعر برجولته.. وكان أكثر عطشاً لعاطفة مغايرة، تختلف عن حنان أمه وأبيه. |
كأن رجولته قد اقتحمته قبل أوانها، وفي وقت مبكِّر.. ربما بسبب انغلاق المجتمع، ومحدودية تحركه، والتحذير من الإعلان عن هذا النضوج، وقوانين العيب الكثيرة! |
هذه نظرته لما حوله!! |
يتذكر الآن.. تلك الأنثى الطالعة كوردة بيضاء تهمس لبزوغ الفجر. |
رآها في بداية مساء، وهي تنزل من سيارتها وبرفقتها فتاة في سنها، ولكنها كانت هي الأجمل، والأحلى، والأكثر جذباً! |
ودخلتا إلى السوق، وأتعبتاه بتجوالهما من مكان إلى آخر.. من استريو، إلى مكتبة، إلى محل أزياء، إلى ((باتسري)) للحلويات والآيسكريم. |
كان لا يحب هذا الأسلوب من الشباب الذين يصادقهم، أو يراهم في الأسواق يتسكعون ويعبثون! |
رأيه الذي يدافع عنه: أن هذا الأسلوب مبتذل وعدواني. |
كيف نسي هذا الرأي، وانساق، ولم يشعر بقدميه تسيّرانه وراء تلك الأنثى المبهرة؟! |
كان سحر ينبعث منها، فيشده إليها، ليبقى وراءها في كل مكان تدخله. |
وفي محل الحلويات والآيسكريم.. وقف يشتري لنفسه، وأقترب منها، وفعل نفس التصرف الذي يستهجنه! |
وخرج يعدو من المحل.. بعد أن وضع في يدها ورقة، كتب عليها رقم هاتفه، والساعة التي يستطيع أن يجيب فيها على الهاتف. |
طلب منها أن تكلِّمه بعد منتصف الليل.. حينذاك يتسلَّل بالهاتف إلى غرفته، بعد أن يكون والده ووالدته قد دخلا غرفة نومهما. |
وصار ينتظر كل ليلة بعد منتصف الليل: قلقاً.. يقضم أظافره، ويحدِّق في الهاتف. |
في الليلة السابعة، بعد الانتظار والقلق، وهو يراوح ما بين الإحباط والأمل.. كان يحاسب نفسه حين ينال منه الملل: |
ـ لماذا فعلت ذلك.. وماذا ستقول عنك الفتاة؟! |
ـ ترى... هل أنا شاب عابث وتالله، إلى هذه الدرجة؟! |
ـ لماذا استخدمت هذا الأسلوب الفج؟! |
ـ إنني استحق إهمالها... كأنها تصفعني! |
ولم تتصل به، وبلغ به التعب منتهاه. كانت الهزيمة شديدة عليه.. وكان في تلك الليلة، بعد أن ناولها الورقة وهرب من أمامها، قد كمن في سيارته يرقب تحرك سيارتها.. حتى إذا خرجت مع رفيقتها وركبتا السيارة، انطلق في إثرها، وعرف اسم صاحب البيت من اللافتة المثبتة على بوابته.. واستطاع أن يتحصل على رقم الهاتف من الدليل! |
هل يطلبها ويسألها: لماذا لم تتصل؟! |
ربما تقفل سماعة الهاتف في وجهه. |
لعلها احتقرته يومها، وستحتقره أكثر لو هاتفها! |
أضنته الأفكار، وواصل انتظاره أكثر من أسبوعين، ولم يحتمل فوق ذلك. |
يشعر أن الفتاة دخلت قلبه.. ليست نزوة، ولا شعوراً عابراً، ولا نزقاً. |
ولكن... يعرف أن الشباب يفعل ذلك... لماذا لا يكون مثل أولئك الشباب، وهو واحد من هذا الجيل؟! |
وطلب الرقم.. مرة، وأربع مرات، وفي كل نداء.. يجيبه صوت مختلف، ولا يدل على أنه صوتها! |
وتحين بداية المساء.. وطلب رقمها.. خفق قلبه، وازدادت دقاته... أحس أن هذه العذوبة المنسابة إلى سمعه: صوتها! |
ـ قال باضطراب، وسذاجة، وتعجل: أنا الآيسكريم! |
ـ قالت: لهذا أنت بارد جداً! |
ـ أرجوك... إنني مُتعب جداً، لماذا لم تتصلي؟! |
ـ لأنك وقح، ولم يؤدبك أهلك. |
ـ لا بأس.. فقط صدقيني أنني متعب جداً، ولم أنم! |
ـ تناول منوماً، أو من الأفضل أن تنتحر! |
ـ إني جاد ولست عابثاً.. لا تحكمي علي بأنني واحد من الذين يطلبون التسلية! |
ـ وهل وقتك ثمين إلى هذه الدرجة؟! |
ـ جداً... وأصبح أثمن منذ أن رأيتك. |
ـ غزل ركيك، وسمج. |
ـ أنا لا أغازلك.. بل أريد أن أتحدث معك، اعتبريني أتسول صداقتك؟ |
ـ صداقة فقط؟! |
ـ حتى تعرفيني أولاً... ولن أضايقك! |
ـ سأفكر، ولكن لا تتصل بعد الآن... أنا التي سأتصل بك! |
ـ حسناً... سأبقى على نار حتى يأتيني صوتك من جديد. |
ـ ولكن... حاذر أن تحترق في النار! |
* * * |
مرة أخرى يضرب رأسه بكفه! |
لقد مضى وقت طويل على تلك المحادثة، قبل أن يدخل والده السجن.. احتوته الهموم، والأحزان، ونواح أمه، وانكسار أخته.. مضت شهور على ذلك المساء الذي غسل فيه صوتها الرقيق الهادئ.. كل توترات سمعه وضوضائه.. كأنه نسي نفسه، ونسي قلبه وخفقاته.. حتى الهاتف... نسي أن يتسلَّل به من الصالون إلى غرفته الخاصة، بعد منتصف الليل.. برغم أن أمه صارت تنام بجانب ابنتها، ووالده بعيد عن البيت. |
نفسه يجللها الحزن والاكتئاب.. انشغل بالبيت، وتصفية مكتب أبيه، والوظيفة، والاستعداد لبدء اليوم الثاني، بعد انتهاء قرار الطرد المؤقت. |
هذا البحر.. وحوار النفس.. ومناداة الحلم، كلها ذكرته بالحب وبشبابه. |
ونهضت في داخله الأسئلة، وموجات التردد: |
ـ هل يحادثها؟! |
أدار محرك السيارة.. واستمر يمشي بها، كأنه يدفعها من الداخل.. وقد غرق في الصمت، واغتالت عينيه الدموع!! |
* * * |
|