شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أسئلة الأمومة
* يقود ((فارس)) سيارته محاذياً لشاطئ البحر، وقد أطفأ الأنوار العالية، فالشاطئ مضاء كأنه نهار، والناس يتناثرون... كأنهم يختبئون في هذا الليل، والبحر شاهد.
يسائل نفسه:
ـ ولكن... مم يختبئ الناس؟!
ربما من زحام النهار، والتدافع على مغريات الحياة، والتسابق إلى المكان الأفضل.
ربما يختبئون من أعمال ارتكبوها في وضح النهار... حتى إذا انتشرت ظلال الليل، وإلى أنفسهم... خجلوا مما فعلوا، فأرادوا أن يختبئوا حتى من أنفسهم!
لا... لعل الناس يهربون من شيء.. أكثر من أنهم يختبئون.
ابتسم ((فارس)) وهذه الكلمات تطوف في ذهنه.. والناس أمامه وحوله يعبرون، وينطلقون بسياراتهم، وبعضهم يلوذ إلى ثبج البحر.. يهمس له بشيء، أو يشرد مع مياهه وأمواجه إلى أعماقه الغامضة.
ـ قال: لو أن كل واحد صارح نفسه بدون خجل منها، وبكل الخوف من ضميره.. فلا بد أن يشفى الكثير من الناس من أمراض النفس، أو العاطفة، أو العقل!
مازال ((فارس)) يقود سيارته ببطء وملل، وقد ترك العنان لأفكاره وحواراته التي شعر بمتعة أسئلتها مع نفسه:
ـ وهل تعتقد أن للعقل أمراضاً، وللعاطفة أمراضاً... مثل أمراض النفس؟!
ـ أخطر أمراض العصر.. هي أمراض العقل والعاطفة.
ـ كيف أيتها النفس؟!!
ـ لأن الكثير يعتقد أنه القديس، والطيِّب، والمظلوم... وهو يشعر في نفس الوقت بأنه لا بد أن يكون: الأعظم، والأول، والفوقي!!
خبط رأسه بقبضة يده، كعادته عندما يريد أن يفيق من شروده، أو خواطره المُتْعَة!
إنه لا يحتمل في ظروفه النفسية.. أية فلسفة، أو حتى سفسطة!
لقد تسلَّل من بيتهم الجديد- الشقة المتواضعة بعد الفيلا الواسعة المترفة- وهو يعاني من الاختناق.. ضبطته أمه وهو خارج بحالة التسلل. سألته:
ـ إلى أين في هذا الليل... هل ترى أننا في حاجة إلى مزيد من المصائب؟!
ـ ولماذا المصائب... أريد أن أشم الهواء، إنني مختنق.
ـ أخاف عليك يا ولدي.. لم يعد عندي بقية من قدرة لتلقي أية صدمة أخرى.
ـ إطمئني... نزهة على شاطئ البحر، فهل تأتين معي؟!
ابتسمت ساخرة، ولوحت له بيدها ليذهب.
وحين انطلق بسيارته في اتجاه البحر.. تساءل في نفسه من جديد:
ـ لماذا تخاف عليه أمه حتى الآن، وقد كبر وأصبح رجلاً... في الجامعة؟!
معها حق... تخاف عليه من ((الشلة)) وما وراءها!
ألمحت له في مرات عديدة بهذه المخاوف من رفقاء السوء، وهي تقول:
ـ صار زمانكم خطيراً، وفاجعاً!
لكن أطرف موقف، وأصعبه أيضاً.. حين سألته ذات يوم- فجأة- وبدون مقدمات، حتى اضطرب أمامها وتلجلج:
ـ قل لي يا ((فارس))، وأجبني بصراحة وبلا خوف مني: هل لك علاقة غرامية بفتاة؟!
خلخله السؤال، ولم يكن يتوقعه من أمه.
وبعد صمت.. وهو يحدِّق في وجهها ويحاول أن يبتسم، قال لها:
ـ ماذا تتوقعين أن أجيبك يا أمي؟!
ـ أجبني بصدق.. سؤالي له هدف، فلا تخف.
ـ بصراحة... لم أرتبط بفتاة معينة، بمعنى الحب والولع.. إلى آخر ما ترويه لنا حكايات العشاق.
ـ إذن... أخبرني عن لون العلاقة؟!
ـ بالتليفون
ـ أعرف، وأراك أحياناً تسرق جهاز التليفون إلى غرفتك، ولكن... كيف يتم التعارف؟!
ـ نذهب إلى الأسواق، نتحرش بالبنات، نرمي قطعة ورقة بها رقم التليفون، أو..... نقف أمام باب الجامعة، ونتعرف على السيارات من خلال الحديث مع سائقيها، وأكثرهم من المستقدمين، وتتوالى المعلومات.
ـ إخص عليكم شباب هايف!
ـ ماما... لقد صارحتك.
ـ دعني أسألك: هل تقبل أن يفعل شاب مع أختك ما تفعله أنت وغيرك؟!
ـ أوه... ليه الإحراج؟!.. ومع ذلك، أصارحك بأنني لن أقبل بالطبع، ولكن ماذا نفعل نحن الشباب... شباب يا أمي؟!
ـ تفعلون أشياء محيرة هادفة ومفيدة لكم ولبلدكم!
ـ الفراغ يا أمي.. والترف، ثم لا تنسي خطورة مرحلة هذه السن!
ـ ها أنت تعرف، وتتكلم عن الخطورة والسن.. بمعنى أنك فاهم وناضج.
ـ صحيح... ولكني شاب، ولي نزواتي، وعواطف سني... ألم تحلمي بشاب وأنت في السادسة عشرة، أو في التاسعة عشرة؟!
ـ بلى... حلمت، وتخيلت، وسبحت بخيالاتي، ولكني لم أتجاوز حدود الالتزام بتربية وخلق، وقيم.
ـ لأنك كنت تلك الفتاة الخجولة، وقبل أن تتلاحق سرعة العصر، وتختلط الأوراق بهذا الشكل في زماننا.
ـ أوراق إيه؟.. لا أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً أو شاسعاً بين عمري وعصرك.. كلها سنوات بسيطة.. لقد حملت بك وأنا في العشرينات.. في أولها أيضاً!
ـ أعرف يا أمي.. فأنت مازلت شابة صغيرة!
ـ أعرف أنا أيضاً خبثك و ((تلقيحك))، ولكن... أريد أن تخبرني: ما هو رد فعل البنات وتصرفاتهن مع الشباب؟!!
ـ البعض يستجيب، ويرن الهاتف، وتبدأ المحادثات الطويلة.. والبعض يجمدننا ولا يكترثن برقم الهاتف، ولا بمشاغباتنا لهن!
ـ طيب... وماذا تقولون عبر الهاتف، أقصد: ما نوع الأحاديث والحوار؟!
ـ هذا يرجع إلى عقلية البنت والولد.
ـ حدِّد... أريد إجابة شافية.
ـ يعني... تحكي لي عن أهلها، وأخوانها، وأخواتها، ودورها في البيت، وعن صديقاتها، وعن ما تصرفه وتشتريه، وعن الزيارات والحفلات.
ـ وأنت كشاب.. ماذا تحكي لها؟!
ـ شَرْحُه... عن أصدقائي، وشقاوتنا، ومقالبنا، وعن ما كنا نفعله في المدرسة، والآن في الجامعة.
ـ إلى هذا الحد بلغت بكم التفاهة؟!
ـ ماما... من فضلك، أنا لست تافهاً.
ـ واضح... ألا تتحدثون عن المستقبل، والدراسة، والطموح.. عن كتاب مفيد، أو عن قطعة موسيقية جميلة، أو عن لوحة باهرة؟!
ـ بالطبع.. الموسيقى بالذات، عن الشريط الجديد لمحمد عبده، أو عبد الكريم عبد القادر، أو ميادة، أو طلال مداح، ونتحدث أيضاً عن السفر، والرحلات الخارجية، والمشاهدات!
ـ حسناً... والعواطف، كيف تتبادلونها؟!
ـ ماذا تقصدين يا أمي؟!
ـ أجبني يا ولد... هيا.
ـ يعني.... كلمات الحب المعروفة: أحبك. يا عيوني. وحشتيني. إنت وحشتني أكثر!
ـ فقط؟!
ـ وهل هناك ما يقال.. غير هذه الكلمات؟!
ـ لقد ابتذلت الكلمات يا ولدي.
ـ ولكن... لماذا كل هذه الأسئلة؟!
ـ لا شيء... أردت أن أعرف كيف يفكر جيلك، ومستوى اهتماماته ونضجه.
ـ وجيلك أنت يا أمي.. كيف كان؟!
ـ ليته استمر.. فقد كان أبسط ما فيه وأعظم ما فيه معاً: الصدق، والعمق، والحوار الثري!
ـ وكان الجيل الذي قبلكم أيضاً يعتبر نفسه أحسن.. هذه طبيعة الحياة يا أمي.
ـ ولكن المحزن.. أن الحياة تتدحرج إلى الأردأ في السلوك.. بينما هي تتقدم إلى الأحسن في العلوم والتكنولوجيا، والخاسر.. هو الإنسان!
ـ هل أحببت يا أمي؟!
ـ نعم... لا أحد أحببته غير أبيك، عندما تمت خطوبتنا كنا نتحدث بالهاتف، وكان يحمل لي كتاباً، ويحدثني عن فيروز، وأم كلثوم، وعن ترتيب الزهور، وعن أفكاره التي تقلقه وتلح عليه!
ـ يعني... لم يأت بديل لفيروز لنتحدث عنه، فقد قتلت الحرب كل إبداع، بل قتلت حتى فيروز!
ـ صدقت...
ـ وكيف قال لك أبي: أحبك؟!
ـ صدقني.. لم يقل لي هذه الكلمة التي ابتذلها الناس الآن، كان يعبِّر لي عن حبه بنظرة أحس فيها الصدق. بلمسة يده، وأكثر ما كان يقوله: اشتقت إليك البارحة بمجرد أن غاب صوتك عن سمعي.. أصبحت في عمري كل الزمان، ودقات الساعة، وطلوع الفجر، ورقة المساء، وتكاثف الشجر وحنوّه، وتغريد الطيور، وصرت أسمع بك، وأرى بعينيك.
ـ الله... كان أبي شاعراً؟!
كان أبوك ومازال: رجلاً بمعنى الكلمة!
* * *
مسح ((فارس)) دمعة انزلقت من عينيه.. وصار يحدِّق في البحر وقتاً طويلاً.. لم يعد يدري كيف يحسه!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :988  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 113 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج