| أسئلة الأمومة |
| * يقود ((فارس)) سيارته محاذياً لشاطئ البحر، وقد أطفأ الأنوار العالية، فالشاطئ مضاء كأنه نهار، والناس يتناثرون... كأنهم يختبئون في هذا الليل، والبحر شاهد. |
| يسائل نفسه: |
| ـ ولكن... مم يختبئ الناس؟! |
| ربما من زحام النهار، والتدافع على مغريات الحياة، والتسابق إلى المكان الأفضل. |
| ربما يختبئون من أعمال ارتكبوها في وضح النهار... حتى إذا انتشرت ظلال الليل، وإلى أنفسهم... خجلوا مما فعلوا، فأرادوا أن يختبئوا حتى من أنفسهم! |
| لا... لعل الناس يهربون من شيء.. أكثر من أنهم يختبئون. |
| ابتسم ((فارس)) وهذه الكلمات تطوف في ذهنه.. والناس أمامه وحوله يعبرون، وينطلقون بسياراتهم، وبعضهم يلوذ إلى ثبج البحر.. يهمس له بشيء، أو يشرد مع مياهه وأمواجه إلى أعماقه الغامضة. |
| ـ قال: لو أن كل واحد صارح نفسه بدون خجل منها، وبكل الخوف من ضميره.. فلا بد أن يشفى الكثير من الناس من أمراض النفس، أو العاطفة، أو العقل! |
| مازال ((فارس)) يقود سيارته ببطء وملل، وقد ترك العنان لأفكاره وحواراته التي شعر بمتعة أسئلتها مع نفسه: |
| ـ وهل تعتقد أن للعقل أمراضاً، وللعاطفة أمراضاً... مثل أمراض النفس؟! |
| ـ أخطر أمراض العصر.. هي أمراض العقل والعاطفة. |
| ـ كيف أيتها النفس؟!! |
| ـ لأن الكثير يعتقد أنه القديس، والطيِّب، والمظلوم... وهو يشعر في نفس الوقت بأنه لا بد أن يكون: الأعظم، والأول، والفوقي!! |
| خبط رأسه بقبضة يده، كعادته عندما يريد أن يفيق من شروده، أو خواطره المُتْعَة! |
| إنه لا يحتمل في ظروفه النفسية.. أية فلسفة، أو حتى سفسطة! |
| لقد تسلَّل من بيتهم الجديد- الشقة المتواضعة بعد الفيلا الواسعة المترفة- وهو يعاني من الاختناق.. ضبطته أمه وهو خارج بحالة التسلل. سألته: |
| ـ إلى أين في هذا الليل... هل ترى أننا في حاجة إلى مزيد من المصائب؟! |
| ـ ولماذا المصائب... أريد أن أشم الهواء، إنني مختنق. |
| ـ أخاف عليك يا ولدي.. لم يعد عندي بقية من قدرة لتلقي أية صدمة أخرى. |
| ـ إطمئني... نزهة على شاطئ البحر، فهل تأتين معي؟! |
| ابتسمت ساخرة، ولوحت له بيدها ليذهب. |
| وحين انطلق بسيارته في اتجاه البحر.. تساءل في نفسه من جديد: |
| ـ لماذا تخاف عليه أمه حتى الآن، وقد كبر وأصبح رجلاً... في الجامعة؟! |
| معها حق... تخاف عليه من ((الشلة)) وما وراءها! |
| ألمحت له في مرات عديدة بهذه المخاوف من رفقاء السوء، وهي تقول: |
| ـ صار زمانكم خطيراً، وفاجعاً! |
| لكن أطرف موقف، وأصعبه أيضاً.. حين سألته ذات يوم- فجأة- وبدون مقدمات، حتى اضطرب أمامها وتلجلج: |
| ـ قل لي يا ((فارس))، وأجبني بصراحة وبلا خوف مني: هل لك علاقة غرامية بفتاة؟! |
| خلخله السؤال، ولم يكن يتوقعه من أمه. |
| وبعد صمت.. وهو يحدِّق في وجهها ويحاول أن يبتسم، قال لها: |
| ـ ماذا تتوقعين أن أجيبك يا أمي؟! |
| ـ أجبني بصدق.. سؤالي له هدف، فلا تخف. |
| ـ بصراحة... لم أرتبط بفتاة معينة، بمعنى الحب والولع.. إلى آخر ما ترويه لنا حكايات العشاق. |
| ـ إذن... أخبرني عن لون العلاقة؟! |
| ـ بالتليفون |
| ـ أعرف، وأراك أحياناً تسرق جهاز التليفون إلى غرفتك، ولكن... كيف يتم التعارف؟! |
| ـ نذهب إلى الأسواق، نتحرش بالبنات، نرمي قطعة ورقة بها رقم التليفون، أو..... نقف أمام باب الجامعة، ونتعرف على السيارات من خلال الحديث مع سائقيها، وأكثرهم من المستقدمين، وتتوالى المعلومات. |
| ـ إخص عليكم شباب هايف! |
| ـ ماما... لقد صارحتك. |
| ـ دعني أسألك: هل تقبل أن يفعل شاب مع أختك ما تفعله أنت وغيرك؟! |
| ـ أوه... ليه الإحراج؟!.. ومع ذلك، أصارحك بأنني لن أقبل بالطبع، ولكن ماذا نفعل نحن الشباب... شباب يا أمي؟! |
| ـ تفعلون أشياء محيرة هادفة ومفيدة لكم ولبلدكم! |
| ـ الفراغ يا أمي.. والترف، ثم لا تنسي خطورة مرحلة هذه السن! |
| ـ ها أنت تعرف، وتتكلم عن الخطورة والسن.. بمعنى أنك فاهم وناضج. |
| ـ صحيح... ولكني شاب، ولي نزواتي، وعواطف سني... ألم تحلمي بشاب وأنت في السادسة عشرة، أو في التاسعة عشرة؟! |
| ـ بلى... حلمت، وتخيلت، وسبحت بخيالاتي، ولكني لم أتجاوز حدود الالتزام بتربية وخلق، وقيم. |
| ـ لأنك كنت تلك الفتاة الخجولة، وقبل أن تتلاحق سرعة العصر، وتختلط الأوراق بهذا الشكل في زماننا. |
| ـ أوراق إيه؟.. لا أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً أو شاسعاً بين عمري وعصرك.. كلها سنوات بسيطة.. لقد حملت بك وأنا في العشرينات.. في أولها أيضاً! |
| ـ أعرف يا أمي.. فأنت مازلت شابة صغيرة! |
| ـ أعرف أنا أيضاً خبثك و ((تلقيحك))، ولكن... أريد أن تخبرني: ما هو رد فعل البنات وتصرفاتهن مع الشباب؟!! |
| ـ البعض يستجيب، ويرن الهاتف، وتبدأ المحادثات الطويلة.. والبعض يجمدننا ولا يكترثن برقم الهاتف، ولا بمشاغباتنا لهن! |
| ـ طيب... وماذا تقولون عبر الهاتف، أقصد: ما نوع الأحاديث والحوار؟! |
| ـ هذا يرجع إلى عقلية البنت والولد. |
| ـ حدِّد... أريد إجابة شافية. |
| ـ يعني... تحكي لي عن أهلها، وأخوانها، وأخواتها، ودورها في البيت، وعن صديقاتها، وعن ما تصرفه وتشتريه، وعن الزيارات والحفلات. |
| ـ وأنت كشاب.. ماذا تحكي لها؟! |
| ـ شَرْحُه... عن أصدقائي، وشقاوتنا، ومقالبنا، وعن ما كنا نفعله في المدرسة، والآن في الجامعة. |
| ـ إلى هذا الحد بلغت بكم التفاهة؟! |
| ـ ماما... من فضلك، أنا لست تافهاً. |
| ـ واضح... ألا تتحدثون عن المستقبل، والدراسة، والطموح.. عن كتاب مفيد، أو عن قطعة موسيقية جميلة، أو عن لوحة باهرة؟! |
| ـ بالطبع.. الموسيقى بالذات، عن الشريط الجديد لمحمد عبده، أو عبد الكريم عبد القادر، أو ميادة، أو طلال مداح، ونتحدث أيضاً عن السفر، والرحلات الخارجية، والمشاهدات! |
| ـ حسناً... والعواطف، كيف تتبادلونها؟! |
| ـ ماذا تقصدين يا أمي؟! |
| ـ أجبني يا ولد... هيا. |
| ـ يعني.... كلمات الحب المعروفة: أحبك. يا عيوني. وحشتيني. إنت وحشتني أكثر! |
| ـ فقط؟! |
| ـ وهل هناك ما يقال.. غير هذه الكلمات؟! |
| ـ لقد ابتذلت الكلمات يا ولدي. |
| ـ ولكن... لماذا كل هذه الأسئلة؟! |
| ـ لا شيء... أردت أن أعرف كيف يفكر جيلك، ومستوى اهتماماته ونضجه. |
| ـ وجيلك أنت يا أمي.. كيف كان؟! |
| ـ ليته استمر.. فقد كان أبسط ما فيه وأعظم ما فيه معاً: الصدق، والعمق، والحوار الثري! |
| ـ وكان الجيل الذي قبلكم أيضاً يعتبر نفسه أحسن.. هذه طبيعة الحياة يا أمي. |
| ـ ولكن المحزن.. أن الحياة تتدحرج إلى الأردأ في السلوك.. بينما هي تتقدم إلى الأحسن في العلوم والتكنولوجيا، والخاسر.. هو الإنسان! |
| ـ هل أحببت يا أمي؟! |
| ـ نعم... لا أحد أحببته غير أبيك، عندما تمت خطوبتنا كنا نتحدث بالهاتف، وكان يحمل لي كتاباً، ويحدثني عن فيروز، وأم كلثوم، وعن ترتيب الزهور، وعن أفكاره التي تقلقه وتلح عليه! |
| ـ يعني... لم يأت بديل لفيروز لنتحدث عنه، فقد قتلت الحرب كل إبداع، بل قتلت حتى فيروز! |
| ـ صدقت... |
| ـ وكيف قال لك أبي: أحبك؟! |
| ـ صدقني.. لم يقل لي هذه الكلمة التي ابتذلها الناس الآن، كان يعبِّر لي عن حبه بنظرة أحس فيها الصدق. بلمسة يده، وأكثر ما كان يقوله: اشتقت إليك البارحة بمجرد أن غاب صوتك عن سمعي.. أصبحت في عمري كل الزمان، ودقات الساعة، وطلوع الفجر، ورقة المساء، وتكاثف الشجر وحنوّه، وتغريد الطيور، وصرت أسمع بك، وأرى بعينيك. |
| ـ الله... كان أبي شاعراً؟! |
| كان أبوك ومازال: رجلاً بمعنى الكلمة! |
| * * * |
| مسح ((فارس)) دمعة انزلقت من عينيه.. وصار يحدِّق في البحر وقتاً طويلاً.. لم يعد يدري كيف يحسه! |
| * * * |
|
|