الأبواب المقفلة |
* يعلو صوت الموسيقى في أرجاء هذا الصالون الصغير.. وتعلو معها: ضوضاء أصوات أصدقاء ((فارس)) في منزل صديقه ((ماجد)).. لكنه يبدو منسلخاً وبعيداً عن هذه الأصوات.. بل إن الضوضاء التي تتناثر في داخله.. هي أكثر إرهاقاً، واحتكاراً لوعيه، ولكل مشاعره. |
يتطلع إلى جدران الصالون الأنيق، المكسوة بورق الحائط.. فلا يحس بجمالها. إنها تبدو في عينيه جدران إسمنتي مرهقة، ومزّوقة بأوراق الحائط الجميلة... وكأن قضباناً حديدية تتوسطها، ورأس والده محشور بينها... يناديه! |
ويحدِّق في الجدران أكثر... كأنه يحادثها، ويستمع منها إلى صوت آخر، مختلف عن كل ما يتناهى إلى سمعه من أصوات أصدقائه، ولعبهم، وهزلهم. |
الجميع يتحدث، ويرفع صوته، ويلعب، ويمزح. |
هو- وحده- في هذا الضجيج.. مستغرق في لعبة الأبواب المقفلة في حياته. |
وجهه الوسيم والغض.. وملامحه الشابة والفتية.. ونظراته المبعثرة والهاربة... |
كل ذلك.. كان يشكِّل منه رجلاً قد تجاوز يفاعة سنه، واتشح بملامح شيخوخة مبكرة! |
صار يدخن بشراهة، ويسعل... حتى يزعج من حوله.. وفي عينيه... تتمدد تلك النظرة التي تعلن عن إنسان مهزوم.. وفي حركات أصابع يديه: توتر، ورعشة.. وكثيراً ما سقط فنجان الشاي من بين أصابعه.. لقد استنفد كل أفكاره. |
بات يعاني من عجزه أمام مشكلة والده، وبقائه في السجن، والبحث عن مورد مالي يضمن بقاء البيت مفتوحاً، ومرتاحاً. |
أقفل مكتب والده.. بعد أن صفَّى حقوق الموظفين، وأنهى الالتزامات المتبقية. |
وكان يساعده والد صديقه ((ماجد)).. دون أن يتبرَّم، أو يسأم من المساعدة. |
وجد في هذا الرجل: قيمة والده، فاستند عليه وهو فقير من التجربة.. حتى لمجرد التخفيف من ضائقته النفسية! |
ولكن هذا الرجل- والد صديقه- مسؤول أيضاً عن عائلة، وبيت، وأبناء، وهو محدود الدخل... فلم يرد أن يرهقه بأكثر مما فعل معه. |
أوجد له عملاً بسيطاً.. لا يدر عليه سوى مبلغ ثلاثة آلاف ريال في الشهر، عندما عمل في واحد من ((السوبر ماركت)): موظفاً مسؤولاً عن حساب الزبائن، واستلام قيمة ما يشترونه! |
وهو يجري في كل اتجاه.. بحثاً عن عمل آخر، بشهادة الثانوية العامة! |
ولكن... ماذا تفعل له الثانوية العامة، وهناك العديد من حملة الشهادات الجامعية، يبحثون عن عمل؟!! |
* * * |
أصرَّت أمه أن تبحث عن عمل!! |
ـ قال لأمه: ماذا ستعملين بالله عليك؟! |
ـ قالت: مدرّسة، أو مراقبة في مدرسة، أو حاضنة أطفال. |
ـ سألها مبتسماً: ((بيبي سيتر)) تعني؟!! |
ـ قالت: ومالو؟!... هناك الموظفات اللواتي يحترن في وضع أطفالهن أثناء ساعات العمل.. فلماذا لا أعلن عن ذلك، وأرعى. أطفالهن، حتى يعدن من الوظائف بعد الظهر؟! |
ـ سألها: وهل تستطيعين يا أمي؟! |
ـ قالت: الحاجة يا ولدي! |
وقدمت أوراقها لتعمل مدرِّسة، وتجرب، قبل أن تنفذ فكرة ((حاضنة)) الأطفال. |
وجلست تنتظر!! |
كانت تقول لولدها وابنتها في اجتماعهم أمام مائدة الطعام: |
ـ ماذا يحدث لو عملت في تخصصي، وأصبحت مهندسة ديكور؟!! |
كان ((فارس)) يرى ابتسامة أخته ((عهد))... وكأنها تنحتها من صخرة الأسى والحزن. |
وتثور أمها، بكل حيرتها وقلة حيلتها، وتقول: |
ـ هل تسخران مني؟! |
ـ - تقول لها عهد: كيف نسخر منك يا أمي، ولكن... هل أنت جادة في فتح مكتب للديكور، ولم يسبقك أحد من نساء البلد؟! |
ـ ترد: وما هي جريمتي؟! |
ـ يقول فارس: ليست جريمة يا أمي.. ولكن، كيف؟! |
ـ تقول: لأكون أول سيدة تفعل ذلك. |
ـ يقولان لها: وترخيص المكتب، وإدارته، وجلب الزبائن، ومعاينة الأمكنة التي ستعملين فيها الديكور؟! |
ـ تقول: أتعامل مع النساء.. مع سيدات البيوت، وعندي علاقات كثيرة، وأعرف أسراً كثيرة، وإذا عرفت أسرة واحدة فإنها تدل أسرة أخرى على مكتبي، وهكذا... أم تريدونني أجلس وأضع يدي على خدي في انتظار قرار التعيين الذي لا أعلم متى سيصدر، أو ماذا سيجيبون عليَّ؟! |
ـ قالت عهد: هناك متخرجات من العام السابق، ولم يتم توظيفهن حتى الآن! |
ـ قال فارس: ولكنك يا أمي ستدخلين في لعبة رجال الأعمال... عفواً: سيدات الأعمال! |
ـ قالت أمه: ألم تقرأ لافتات بعناوين شركات بأسماء سيدات: شركة خديجة للأثاث، شركة فاطمة، وسعاد، وسلوى.. فلماذا لا يكون: شركة إلهام للديكور؟! |
ـ قال فارس: وبعدين.. توفر الشركة وتبيع أوراق الحائط، والموكيت... إلى آخره! |
ـ قالت: ربك يفرجها، وتجري الفلوس في أيدينا مثل النهر، مثل الأول وأكثر! |
ـ قال فارس: أمي؟!... كأنك صرت تتكلمين مثل أبي!! |
ولاحظ أن أمه شردت بعيداً بعد كلمته هذه.. وندم أنه قالها! |
* * * |
أخذت ((فارس)) هذه الأفكار والصور التي يستعيدها من معايشته اليومية مع أمه، وأخته، ومع حيرتهم.. وشعر بيد صديقه ((ماجد)) تمسح على كتفه، وصوته يوقظه من شروده وأفكاره: |
ـ ماذا بك... هل تستمر في هذا ((السرحان)) في كل وقت ومكان؟! |
ـ ماذا تريدني أن أفعل؟!.. إن ذلك فوق طاقتي وإرادتي. |
ـ تحاول أن تخرج من مأساتك قليلاً، حتى تقدر أن تفكر. |
ـ حاولت وفشلت. |
ـ هل مازالت والدتك تصرّ على مكتب الديكور؟! |
ـ تصور؟!.. ولكني أشعر بها قلقة تتخبط. مرة تصر على الديكور، وأخرى على الحضانة. |
ـ ولماذا لا تتركها تفعل... ربما تحقق شيئاً؟! |
ـ كيف يا ((ماجد))؟!... أنت تعلم أن الديكور ليس رسماً فقط، ولا فكرة.. ولكنه يحتاج إلى تنفيذ، وعمال، وإدارة، ومتابعة. الآن... الزبون يريد منك أن تعمل له كل شيء، فلا يكتفي برسم الديكور فقط، وهو ينفذه. |
ـ ساعدها أنت بالعمل الرجالي. ابحث عن عمال وتابع عملهم. |
ـ تاني؟!.. أستقدم عمالاً وأدخل في دوامة أخرى. |
ـ لا تستقدم.. البلد مليئة بالعمال، وصاروا يتسكعون الآن، وأنت تعرف حكاية الذين كانوا يستقدمون مئات العمال على كفالتهم، ويبعثرونهم في البلد.. في مقابل أنهم يتقاضون من كل عامل مبلغاً من المال. |
ـ هؤلاء أساءوا إلى البلد.. حتى اختيار نوعية العمال لم يحسنوه. |
ـ فكِّر في الأمر جدياً يا ((فارس)). |
ـ شيء صعب.. صدقني، وليس عندي خبرة. |
ـ كل إنسان في البداية هو بلا خبرة، ولكن... لا بد أن تحاول. |
ـ كيف... أرجوك؟! |
ـ اسمع... لماذا لا تتولى بنفسك تنفيذ هذه الفكرة. والدتك ترسم وأنت تنفذ كل أفكارها. هي تشاهد المكان، وتعرف المطلوب عمله، والملائم، وأنت تؤمن العمال، وتطبق الفكرة والرسومات، وتحضر المواد؟!! |
ـ أنت مجنون فعلاً! |
ـ لا... أنا واقعي، فلماذا لا تجرِّب؟! |
ـ تقصد أنني أدخل في دوامة ((البزنس)) من جديد.. امتداداً لأبي؟! |
ـ ولماذا لا تدخل؟! |
ـ ولكنك تعلم أن ظروف الناس المادية قد اختلفت الآن، وتحددت. كان هناك الكثير ممن يريدون تحسين بيوتهم بالديكور، لأن لديهم نقوداً.. أما الآن، فالجميع قد انكمش! |
بل إن البعض من شدة خوفه على ماله خبَّأه، واحتفظ به حتى لا يتعرض للخسارة، وكانت النتيجة: أن البلد فقدت السيولة المالية! |
ـ ها أنت صرت تتكلم في النقود، والسيولة، والسوق. |
ـ من التجربة القاسية، والصدمة، والمعاناة. |
ـ افعل شيئاً، ولا تقف مكتوف اليدين هكذا، وأمك وحدها تصارع الموج، والحوت، والأنواء! |
ـ كيف أفكر... وفكري مشلول؟! |
ـ لأنك أوهمت نفسك أنك لا تعرف. |
ـ والدراسة، والجامعة؟.. يذهب هذا كله لو دخلت في معترك التجارة والجري... أم أنك تراني لم أعد الجدير أو القادر على الاستمرار؟! |
ـ عفواً يا((فارس)) لم أقل ذلك.. ولكني أفكر معك، واعتبرها فرصة في النصف الأول من السنة، وأنت بعيد عن الجامعة بحكم القرار بفصلك ترماً واحداً، ولذلك.. لا بد. أن تحاول. |
ـ وبعد ذلك... لو بدأنا، وسرقني الحماس للعمل؟! |
ـ تستطيع أن تنظم وقتك، والحياة كفاح. لا تقفل الأبواب من الآن! |
* * * |
ارتفع لحن من جهاز التسجيل، وجذب إليه إصغاء ((فارس)) فجأة، وهو يتحاور مع صديقه. |
ـ سأله ماجد: شدك لحن ((قصة حب))... ها؟!! |
ـ هذا اللحن يغسلني من الداخل.. أستغرق فيه كلما سمعته، وتتلون المرئيات في نظري، وتنتعش الأحلام. |
ـ وهذه المقطوعة... إلى أين تأخذك، وبماذا تذكرك؟! |
ـ نحن أصدقاء، ونعرف حكايات بعضنا، لكنها تصب في إحساسي مثل الضوء، مثل همسة الحب! |
ـ وماذا أيضاً... قل؟! |
ـ تقول لي أختي ((عهد)): إنني مازلت صغيراً على الحب، وهي أصغر مني.. لكنني كنت أحلم كثيراً، قبل أن تزلزلنا صاعقة أبي. حلمت بفتاة جميلة، ناعمة، وواعية.. وحلمت بحياة أعمل فيها حتى يرشح عرقي، وأتلذذ بعمل أحبه.. وهذه الموسقى بالذات، أتخيل من خلال أنغامها: وجه حبيبتي، ووجه الحياة الأجمل! |
ـ إذن... لا تحبس نفسك، امنحها شيئاً.. ولو بالحلم!! |
* * * |
|