شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مطر السأم
* رطوبة هذه المدينة الساحلية.. خنقت النسمة المنعشة التي كانت ((إلهام)) تحتاج إليها في لحظاتها الثقيلة، الصامتة.. بعد أن انتصف الليل بها، وبأحزانها، وبوحدتها الجديدة التي لم تتعود عليها.. لقد كانت هي و ((خالد)) رفيقين في مشوار العمر.. منذ زهوة شبابها وصباها.. ومنذ تفتح نضوجه ورجولته.
الآن- في هذه اللحظة- تشعر أنها تختنق، مثلما النجمة في السماء تختنق داخل السحب، ومثلما النسمة التي حجبتها رطوبة البحر.. تختنق.. لا أحد تكلمه.. إلاَّ الخيال!
وجه ((خالد))، وأصداء صوته في البيت.. برغم رحلته القاسية في ظلام السجن والهموم.. ابنها، وابنتها.. كل منهما في غرفته، لا تدري ماذا يفعلان بافتقادهما لأبيهما؟!
كيف يفكران في اليوم القادم.. وكيف يحتملان؟!
حاولت أن تذهب إلى ابنتها في غرفتها لتنام بجانبها، فلم تقدر.. أحسَّت أنها مثل سمكة في بحر هائج.. كانت أنفاسها تتصاعد برتابة مملة.. وأحياناً تعاني من الاختناق.. تريد أن تصرخ في بهيمة الليل.. أن تنادي ((خالد)): زوجها، وحبيبها، وشريك أجمل العمر.
كأن سماء مدينتها تمطر السأم، والوجع، والطل.
كل شيء توقف، وخرس، وأصيب بالشلل.
عندما نفقد من نحبهم.. تتحول الحياة إلى نهر ثلجي متجمد، ويصاب الإنسان بالرعشة الشديدة، وبالبرد القارس، وبالوحدة، وبالخوف من قبر الثلج!
اتكأت بذراعيها على حافة الشرفة، ولم يعد أمامها ما تراه على البعد أو القرب... سوى وجه ((خالد))، ووجه زهرتيهما: فارس، وعهد.. وحصيلة ذلك الركض الطويل في العمر، بخيالات المستقبل، والأماني، والأحلام.
كانت ((الفلوس)) وسيلة... أو أن هذا الواقع المعاصر قد فرض على إنسانه وسيلة وحيدة لتحقيق أحلامه، وطموحه للمستقبل.. وهي ((الفلوس)).
فماذا صنعت ((الفلوس)) بزوجها، وبهم داخل هذا البيت الذي كان هانئاً؟!
ـ هل هو العقل.. أم هي الفلوس؟!!
سألت نفسها هذا السؤال المرتعش، مثل ارتعاشتها في قبرها الثلجي.
ـ العقل.. يوظف الفلوس، ينميها أو يهدرها.. يوجهها أو تسقطه؟!!
إجابة أخرى.. وآلاف الأسئلة المدببة كالرماح.
ـ لعله الطموح الذكي يتضاعف حتى يلغي العقل بعد ذلك، أو يُضعف توجيه العقل!
عبارات أطلقتها ((إلهام)).. دون أن تقصد لوم زوجها أو محاسبته، فقد كان ذكياً، وطموحاً بعقل كبير، وكان يحب أسرته ويشقى ويكد ويعرق من أجل مستقبل أبنائه، والذي يحب لا يُدمَّر!
ـ هل هي خيانة النجاح؟!!
سؤال مدبب آخر.
ـ وكيف يخون النجاح؟!!
التجارة خائنة، أو هي متقلبة ومباغتة.. لمن لا يحسن تقدير الأمور فيها.
ـ لا... الحقيقة شيء آخر، لعله يكمن في ذلك الجنون الذي شمل اهتمامات الناس، وحوافزهم، ودفعهم للركض وراء الإثراء السريع، والغنى، واستغلال موجة (الطفرة)!
لقد كان ((خالد)) أحد ضحايا ذلك الجنون!
* * *
سماء المدينة مازالت تمطر السأم، والطل، والوجع!
ومازالت ((إلهام)) تستند بمرفقيها على حافة الشرفة.
أضواء الشوارع أمامها.. تسقط مهدرة في السكون، وعتمة الليل، ونباح الكلاب.
يرتديها وجه ((خالد)).. وكأنها تناديه، وتخاطبه:
صوتك لا يفارق إصغائي، ورعشتي، ووريدي.
أشعر بك تخاطبني كالمعتاد. استوحشت أن أدخل غرفة نومنا، وأنت غائب عنها.
كيف أدخلها، ومن ينام بجانبي... من أحضنه ويحضنني؟!
حين كنت تسافر ((يا خالد)) في رحلاتك المستمرة من أجل ((البزنس)).. أحتضن وسادتي الأخرى، وأخاطبك... لأنني انتظرك، وأعرف متى ستعود، ويحتويني الأمان بذراعيك.
ولكني الآن كيف أدخلها، وأنا أضيع في قبري الثلجي؟!
كيف أدخلها، وانتظرك... وأنا لا أعرف متى ستعود، وكيف، وهل ستعود حقاً؟!!
ـ ستقول لي بطريقتك: لا تقنطي من رحمة الله.
تذكرت هذه اللحظة: أبي وأمي.. كيف ارتبط كل منهما بالآخر طول العمر؟!
حينما مات أبي.. بحثت عن الدموع في عيني أمي، فلم أجدها.. وكنت لا أدري: هل أندهش، أم أتساءل، أم أخاف على أمي؟!
حاولت- يومها- أن أدفعها للبكاء، فلم أفلح.. وكانت أمي صامتة أمامنا، تصلي، وتدعو.. ولم نسمع بماذا كانت تلهج؟!
ولم تمر سوى شهور قليلة.. حتى لحقت أمي بأبي.
نامت أمي ذات ليلة.. ولم تستيقظ بعد ذلك قط!
ارتباط عجيب بين زوجين!!!
احترت في وصف ذلك الارتباط.. هل هو الحب، أم كان فوق الخفقة والشعور؟!
كان كل منهما يكمل الآخر... أو كأن لهما نظرة واحدة، وخطوة واحدة، وخفقة واحدة، وكلمة واحدة!
حتى عندما كان أحدهما يريد أن يتكلم.. نفاجأ، ويفاجآن هما معنا أنهما يتكلمان في لحظة واحدة، بكلمة واحدة؟!
تعلمت من أبي وأمي قدسية الحب.
حقاً... الحب ليس خفقة قلب، ورعشة عشق، وحنين، وارتباط فقط في بيت واحد.
لا... الحب أكبر من ذلك كله.
له قدسية رائعة.. توحد بين إنسانين، فيصبحا شخصاً واحداً في جسدين!!
لست أدري الآن.. يخيل إلي أن الحب في هذا العصر المادي، أصبح هو: الهروب؟!
وكيف أفسِّر لك يا ((خالد)) تخيلي، أو رأيي هذا؟!
الكثير يهرب من أشياء تؤرقه، أو تعذبه، أو تورطه... إلى الحب!
كان الناس يعانون من الأرق، والعذاب، والقلق.. بسبب الحب، حتى صار الحب اليوم: ممارسة، ومرحلة، وانتقالاً من حالة نفسية إلى أخرى، ومن تجربة إلى تجربة!
كأنني أنكمش إلى الداخل في هذه اللحظة.. أتحسس أضلعي، وقلبي، وأطمئن عليك.. كنت أعرف أنني أحبك.. بحياتي كلها.. وحين افتقدتك خلف أسوار السجن والهم... عرفت أنني أحبك فوق حياتي.
وكلما انتهى يوم، ونضب واجه من عمرنا... أحدق في عيون الآخرين، لعلني أفتِّش عنك هناك!
لعلني أضيع في نظرات الناس الحائرة، والمتعجلة، والمسافرة إلى البعيد، والمنكفئة على نفسها!
لعلني أفقد ذاكرتي... فأرتاح!
ولكنني أفتقدك بقسوة أفظع.. كلما مر يوم، وأجدك لا تعود. أفتقد الحياة، وأفتقد نظراتي، وصوتي، وسمعي، وكل حواسي.. وأفتقد ذاكرة أحلامي!
كأنك كنت- وحدك- الذي تمنح الحياة والحركة، والانفعال والفعل، لكل تلك الحواس والتصرفات!
* * *
أمس... انتصب اليأس فوق حياتنا مثل خيمة، بعد أن علمنا أن خروجك من السجن، مرهون بأمر واحد لا غيره، وهو: تسديد ديونك!
ومن أين... وكيف؟!
كأننا أخذنا نضرب رؤوسنا في الجدار، وسالت دماء كل قدراتنا وإمكاناتنا!
كنا نتخبط.. ولا ندري ماذا نصنع، وكيف نتصرف؟!!
لقد باعوا ((الفيلا)) التي بنيتها بأحلامك، وبعرقك.. ها نحن نستقر الآن في هذه ((الشقة)) الصغيرة، المكونة من ثلاث غرف، وصالون، وحمام واحد، ومطبخ.. باعوا ما تبقى لدينا من أراض، بأسعار أقل من معدل ذلك ((الترمومتر)) الشرائي، الذي كان يغري تجار الأراضي قبل فترة!
ماذا باعوا أيضاً يا ((خالد))؟!!
لم يتبق شيء نملكه، إلا وباعوه، وبعناه معهم.. نسدِّد ديونك الكثيرة.
خيل إليّ... حتى فرحنا وأمانينا وتفاؤلنا.. قد تم بيعهم مع تلك الممتلكات.
كنا نعتقد أن الفرح، والأحلام، والتفاؤل.. من ممتلكاتنا في لحظة ما!
أصبحنا اليوم: فقراء من الفرح، والأحلام، والتفاؤل... لأن ما جمعوه من حصيلة البيع، لم يف إلا بنصف ديونك، وبقي نصف ثقيل.. كصخرة جاثمة على الصدر!
لا يا ((خالد))... لقد بقي شيء مهم لن نبيعه، ولن يصلوا إليه: إنه حبنا لك... حبي، وحب ابنك وابنتك.
وبقي حبك أنت لنا... وأتمنى أن يكون أيضاً: حبك للحياة، والأمل!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1101  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 111 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج