العاصفة المجنونة |
* قرر ((خالد)) أن يواجه مشكلته بالتحرك.. بدلاً من الركون إلى التخفي عن الناس، والتهرب من الهواتف العديدة التي يسأل أصحابها عنه، وتضطر زوجته إلى الكذب والادعاء بأن زوجها مسافر! |
صعقت ذلك الصباح.. وهي ترد على واحد من المتسائلين الأكثر عن زوجها... حين أبلغته أن زوجها في خارج البلاد، وتعرف أنه يطالبه بمبلغ صغير لا يزيد على ربع مليون.. فقال لها مندهشاً: |
ـ كيف سافر.. وهو ممنوع من السفر؟! |
بكت ((إلهام)) وهي تضع سماعة الهاتف. |
وفي مكتب ((خالد)).. حضر أحد المطالبين بدين، وهدَّده أن يرفع دعوى ضده، ويطالب بسجنه. |
كان الجدل قد استعر بينهما.. ولكن الحل مفقود. |
وطوال يومه.. لم يكف الهاتف عن الرنين، ولم يخل مكتبه من المطالبين بتسديد ما لهم من ديون عليه. |
كان يحاورهم.. ويرد عليهم بحل واحد: |
ـ إما أن تنتظروا معي تحرك السوق.. وأنا مثلكم أطالب آخرين بمبالغ لي عندهم، ويعتذرون عن السداد لنفس أسبابي، وانعدم السيولة، وقلة العمل.. وإما أن تتقدموا بشكاويكم إلى السلطات المسؤولة.. حتى أقدر أنا بدوري أن أطالب بسداد ما لي من ديون عند الآخرين! |
كاد يفقد أعصابه. كل السبل قد سدت في وجهه.. يكاد يرى شبح السجن أمامه.. وهو يقف عاجزاً.. كأنه المجنون... صار يحادث نفسه، ويضرب رأسه بقبضته: |
ـ ماذا حدث.. لماذا الكارثة بهذه الصورة السيئة؟! |
الكارثة دائماً سيئة لا ترحم.. وأنا غامرت، ووثقت في تلك ((الطَّفْرة)) التي حدثت في المنطقة كلها، وليس في البلد.. حتى ظننا أنها ستتطور، وتزيدنا رغداً! لكنها تهورت، أو أصبت بالغرور، وجنون المادة.. ركضت في كل اتجاه. دخلت منافسة بيع وشراء الأراضي، وهي الكارثة الأكبر لمن كانوا من أمثالي.. بينما استفاد منها القلة الذين وضعوا فلوساً قليلة، وكسبوا فلوساً كثيرة في خبطة واحدة.. لم يكرروها. |
دخلت مجال الأسواق الأخرى: بيع السجاد. بناء العمارات والمقاولات. الأسهم في الشركات. القروض الهائلة من البنوك إلى درجة كشف الرصيد أحياناً. السوق التجاري بأدواره وقد أصبح العمل فيه راكداً.. بل ونبيع فيه بالخسارة حتى لا تتراكم البضائع. |
فرحت بتنمية الأرصدة، وبعثرتها في كل اتجاه.. حتى وجدت أمامي عدة أفواه مفتوحة وشرهة. صرت أصرف على استمرارها.. بدلاً من أن تزيد من دخلي وثروتي. |
ثروتي؟!! |
أين هي هذه الثروة.. المجمد أكثرها، والمهدر بعضها، والساقط في خسائر متلاحقة؟!! |
كان داخله يصرخ.. يحاسب نفسه الآن، ويسألها.. يريد أن يضحك.. ولكن سخرية من نفسه.. ويحاورها: |
ـ (غرور المال. اشتهاء الربح المضاعف. |
أربع خادمات يسهرن على زوجين وولد وبنت.. يعيشون في فيلا من دورين. سائقان.. واحد يقود عربتي الخاصة، ولمشاويري.. والآخر بأمر زوجتي وابنتي. |
حارس أمام الباب، وللحديقة.. عدة سيارات.. تبدل كل عام، مع اختلاف الموديلات.. تذاكر الطائرات، وعلى الدرجة الأولى! |
ترى... كم تذكرة خلال عام واحد فقط؟! |
هل أحاسب نفسي؟! |
إن من يملك.. لا يحاسب! |
كان ذلك كله شيئاً طبيعياً. |
ظاهرة.. طغت على الناس، وتسابق إليها حتى متوسطو الحال والمعيشة. وربما حسبنا ذلك الشيء.. ضرورياً لشكل الحياة الجديدة التي أخذنا نتعود عليها، وعلى العيش في إطارها، وبريقها، وركضها.. ببذخ يخلو من التفكير! |
الآخرون لديهم... فلماذا لا يكون لدينا؟! |
شعار ساد في تلك الفترة، ومع التزاحم والغبار الكثيف.. حتى نسي الأب ابنه، ونسيت الزوجة بيتها وأولادها مع الخدم)!! |
وتواصل صراخه من داخله.. دون أن تعقبه الأصداء، إلاَّ أصداء الألم، والقلق المفزع. |
وقاد سيارته قائلاً إلى بيته.. كأنه يهرب من الحقيقة المريرة التي تصدمه كلما خرج من البيت وواجه الناس.. صار يقود سيارته بنفسه.. بعد أن أنهى عقد السائقين، مثلما أنهى عقود الكثير من العمال والخدم لديه.. وبقيت للبيت خادمة واحدة بعد الأربع خادمات، ولم يعد أمام باب البيت حارس. |
ـ لا بد أن نرشِّد الانفاق!! |
ابتسم بأسى.. وهو يتذكر هذه العبارة.. ولم يكد يدخل بيته.. حتى رن الهاتف.. قرر أن يواجه من اليوم كل شيء.. لا فائدة من إنكار نفسه، وعليه أن يفجر القنبلة الموقوتة قبل أوانها، ويفقأ هذا الدمل.. وخاطبه من الهاتف على الطرف الآخر صوت غريب لم يألفه من قبل. سأله: |
ـ أنت السيد خالد السعيد؟! |
ـ نعم... من أنت؟! |
ـ عفواً.. جئنا إليك إلى المكتب، وأخبرونا بخروجك قبل دقائق.. فهل تتفضل بالعودة إلى المكتب حالاً؟! |
ـ لماذا... ومن أنت؟! |
ـ نحن الشرطة.. وضدك شكاوي بديون، إما أن تسددها، أو نودعك السجن! |
وسقطت السماعة من يده، وقد جمّده الذهول! |
إنه لا يدري.. هل يستمر واقفاً، أم يجلس، أم يركض هارباً.. وإلى أين، أم يذهب إليهم؟! |
* * * |
صار البيت ((كورال)) بكاء... ينبعث من صوتي ((إلهام)) و ((عهد)).. و ((فارس)) مازال خارج البيت، لا يعلم بشيء نشجت ((إلهام)) كثيراً، والكلمات تتقطع في حنجرتها، تردد: |
ـ شرطة... شرطة.. طيب ليه؟! |
نحن عمرنا ما وقفنا قدام عسكري، ولا دخلنا قسم بوليس. |
أمسكت ((عهد)) بأبيها، وأجلسته.. بعد أن أحضرت له كوب ماء، والدموع تترقرق في عينيها. |
ـ قالت لأبيها تهدئه: لا بأس يا أبي.. لا بد من هذه اللحظة، وقد كنت تنتظرها. وعليك أن تواجهها؟ عودتنا دائماً، وحتى تتخلص من قلقك، وخوفك، ومعاناتك منذ شهور. لا بد من حسم الأمور.. ولا تخف، فأنت لم تسرق، ولم تختلس.. التجارة هكذا قاسية أحياناً، ولقد خدعك السوق يا أبي. |
حاولت أن تخفف عنه، وتهدئ من روعه. |
احتضن ((خالد)) ابنته إلى صدره.. ثم أطال النظر إلى وجهها، وقال لها: |
ـ دائماً أنت التي تهدئين من حرائقي الصغيرة، وتحاولين أن تمتصِّي تعبي، وأنت الصغيرة. والتي أعتز بتفكيرها وتصرفاتها.. ولكن الحريق هذه المرة مدمر، وليلطف بنا الله. |
وأخذ زوجته إلى ذراعيه.. وقال !ا: |
ـ لا تخافي.. ما قدره الله لنا سيكون. وأعرف أنك صلبة في المواقف الصعبة، والأولاد أمانتك.. وربنا معكم ومعي! |
وخرج ((خالد)) إلى قدره.. تاركاً خلفه هذا البيت الذي كان آمناً مستقراً، هانئاً. الزوجة تخبط كفاً بكف، وتنوح.. والابنة تمسح دموعها.. لئلا تزيد من آلام أمها، وهي تحاول أن تختلق الكلمات المهدئة.. و ((فارس))... أخذ يخبط رأسه في الجدار، عندما عاد إلى البيت.. كانت الأسرة تشعر أنها قد كبلت بالسلاسل.. لا تفكير، وفزع لا يوصف. |
وتكلمت ((الأم)) من خلال دموعها.. تقول لولدها: |
ـ أبوك أخبرني.. أن ما لدينا في البنك لا يزيد على عشرين ألفاً. |
ـ قال فارس: اهدئي يا أمي... لا أحد يموت من الجوع، والله سبحانه وتعالى موجود. من بكره.. سأبحث عن عمل، لا تخافي! |
ـ قالت أمه: عمل؟!.. وجامعتك، وأحلامك، وأحلام والدك في الحصول على أعلى الشهادات؟! |
ـ قال: يا أمي.. أنسيت أنني مفصول ((ترم)) بكامله.. يعني نصف عام، يمكنني أن أعمل خلاله، وإن شاء الله سيعود إلينا والدنا. |
حدَّقت ((إلهام)) في وجه ابنها وهو يتحدث عن والده، وصبره، وثقته في والده الذي سيجتاز هذه الأزمة. وقالت لابنها: |
ـ أراك تكبر يا ((فارس)).. وما أريده أن يتلاقى كبر سنك بكبر عقلك. الأزمات يا ولدي تصهر الإنسان، وتعده لمعارك الحياة قبل أوانه.. فلماذا لا تذهب إلى مكتب أبيك من الغد، وترعى مصالحنا. |
ـ قال فارس: فكرت في هذا يا أمي.. لكن خبرتي في هذا المجال لا تذكر، ومعرفتي مازالت محدودة، ولكني مصمم على المحاولة. |
ـ قالت: سيكون الله بجانبنا. لا تخجل.. استشر الذين كان يثق فيهم أبوك. سترى والدك وستأخذ منه. |
وأدخلهم الحزن في صمت طويل... حتى قطعته ((إلهام))، وهي تقول لابنها وابنتها: |
ـ وما المانع؟!.. عندي شهادة جامعية، وهذا وقتها لكي أعمل! |
ـ قالت عهد: تعملين في الديكور يا أمي.. وتفتحين مكتباً؟! |
ـ قالت: سأجرِّب... سأكون أول امرأة تتعامل مع سيدات البيوت لعمل ديكوراتها. |
ـ قالت عهد: لا أدري... الفكرة....... |
ـ (قاطعتها أمها): فماذا أعمل... مدرسة مثلاً؟! |
ـ قال فارس: دعونا الآن من هذه الأفكار.. لنرى ما هي أخبار والدنا! |
* أقفل مكتب ((خالد)) بالشمع الأحمر، وأودع السجن.. حتى يقوم بتسديد عدة ملايين لكل الذين يطالبونه.. ظلام السجن في عيني ((خالد)) يبدو قاسياً جداً.. لكن تخيَّله في الشهور الأخيرة، عندما ضاقت الدنيا، وتعذرت الحلول.. وتخيَّل نفسه وهو يقف- كأنه العاري- في دروب الحياة... يرتجف من الزمهرير، ويتلفت حوله بحثاً عن غطاء يدفئه، وعن أمان يسكن إليه! |
في صمت الليل.. كان يقرأ القرآن.. كان يتأمل في مصيبته، ويستعرض شريطاً طويلاً، يحفل بالمواقف الصعبة، وبالوقفات الجميلة. |
الآن... لم يجد حوله أحداً من الأصدقاء، وممن كانوا يلتفون حوله، ويلازمونه، وينافقون له.. وأصداء أصوات هؤلاء وأولئك، تتردَّد في صمت لياليه الموحشة اليوم: |
ـ مسكين... كان طموحاً أكثر من اللزوم، وجمح مثل حصان حتى سقط! |
ـ بل كان متهوراً، ومجنوناً.. يعتد بأفكاره. |
ـ يا جماعة.. الله يكون في عونه، من يستطيع أن يسدد عنه هذه الملايين؟! |
ـ يا عمي... كان من الناس الذين حاولوا اختصار كل الطرق، ليصل إلى الثراء الفاحش! |
يريد أن يبكي الآن.. ليرتاح قليلاً.. حتى الدموع تعصيه.. فلا تبلل عينيه، ليهدأ. |
ونقل إلى المحكمة.. وأمام القضاة تكلَّم طويلاً.. قال: |
ـ أريد منكم أن تطالبوا الآخرين بديون عليهم أستحقها منهم.. حتى أقدر أن أسدد بعض ديوني للناس.. المشكلة ليست فردية أيها القضاة الأجلاء.. لقد بدأت كظاهرة، وأعترف أنني ربما بالغت، أو فرحت بسيولة الأموال.. حينما كانت تغري بتدفقها. |
تريدونني أن أندم؟! |
حسناً.. إنني نادم بالفعل، ولكني اجتهدت. لم أسرق الناس، ومعترف بما لهم. أخطأت بفتح أبواب ومجالات عديدة لتنمية ثروتي.. أغراني السوق، وجذبتني حركة لعبة المال.. ولكني رجل شريف، لم أعرف التدليس، ولا الابتزاز. أخاف كثيراً على أسرتي، وأخاف على إهدار عَرَقي وجهدي طيلة سنوات بعيدة بنيت فيها اسمي! |
ركضت وراءه الصفقات، وفتح الاعتمادات، والقروض من البنوك.. البنك يحتمل فرداً مثلي.. وأريد من إدارته أن تمنحني الفرصة لأسترد أموالي، وأسدِّد على أقساط. |
ـ سألوه: ومن أين؟!.. كل أملاكك لا تفي بنصف المبلغ. |
ـ إذن... سجِّلوا إعساري، والله يلطف بالجميع |
* * * |
ودوت في أذنيه - عند منتصف الليل - أصوات القضاة، والناس.. وصوت نفسه: |
ـ نعم... من أين ستسدِّد؟! |
كأنه يجري إلى طريق مسدود.. يهرب إلى جدار، ويضرب رأسه فيه.. جاءته أسرته تزوره في السجن.. لم يكن يرغب في هذا الموقف.. أمام زوجته، وابنه، وابنته.. ليس لديهم إلا تأكيد الحب له.. هذا موقف! عظيم.. الكثير.. خاف من هذا الموقف، فنحن في عصر الجحود.. حتى من أقرب الناس.. نحن في عصر إلقاء اللوم بسخاء، والتهرب من العون! |
لكنه غير يائس.. إيمانه الشديد بالله، ثم بوجود صفات جميلة.. يجعله لم يفقد الثقة، ومازال يتشبث بمواقف بعض الناس. |
ـ (الخير في أمتي إلى يوم الدين). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. |
وعليه أن يصبر... ولو طال الصبر.. وعليه أن يواجه هذا القدر.. حتى لا ينهزم! |
يبتسم في وحدته.. وهو يسترجع صورة زوجته، وولده، وابنته، عندما زاروه. أرادت ((إلهام)) أن تطمئن على صحته قبل كل شيء: |
ـ إنت بخير يا بو فارس؟.. صحتك أهم، فلا أحد لنا- بعد الله- سواك. الضغط لا ينال منك. المهم أن تستمر كما عهدناك:. صبوراً، شكوراً، مؤمناً بقضاء الله. |
ـ قال لزوجته: ونعم بالله.. لا تخافي علي يا ((إلهام))، المهم.. أبلغوني أنهم سمحوا بفتح المكتب، ولم يكن ما يدعو لقفله، ولكني أفكر الآن في مرتبات الموظفين، وبقية العمال.. بعد أن نسقنا الكثير منهم.. وأرى أن تقفلوا المكتب. |
ـ قال فارس: لا تهتم يا أبي.. نحن بخير، طالما كنت أنت بخير. هناك أعمال يلتزم المكتب بتنفيذها.. أنسيت يا أبي؟! |
ـ ومن أخبرك بذلك؟! |
ـ لا عليك.. لقد باشرت العمل في المكتب، ووجدت رجلاً طيباً يدير العمل في غيابك.. هو يساعدني، والبقية يتعاطفون معنا وييذلون الجهد. ونحاول أن ننهي الالتزامات.. حتى لا تجدّ مطالبات، وبعد ذلك نقفله. |
ـ وماذا ستفعلون في قضية خاسرة.. ومن أين لكم الفلوس والسيولة النقدية؟! |
ـ لا تستهين بسني، وعدم خبرتي.. ولكننا سنحاول، وقد بدأت أطارد الذين نطالبهم بسداد الديون، ولن أتركهم. إنني أتعلم منك يا أبي. |
ـ ليباركك الله. خذ بالك من أمك وأختك، وكن رجلاً، مثلما هي ثقتي فيك.. وإن كنت أشفق على سنك الغض، لكن إرادة الله.. وهو الذي يكلأنا جميعاً! |
ولم يبق للكلام مجال... تحدثت الدموع، وفاضت، وانتهى موعد الزيارة! |
وبدت الحياة في نظر ((فارس))- للمرة الأولى- مثل جبل عال، يتطلع إلى قمته البعيدة.. وهو يقف على السفح ضئيلاً، ضعيفاً.. لقد كان يخفف عن أبيه بلواه، ويشعره أن ولده الوحيد قد أصبح رجلاً يعتمد عليه، ويتحمل المسؤولية، ويدافع عن حياة أسرته.. ووجد صديقه الحميم ((ماجد)) أمامه، ومعه، وحوله.. يحاول أن يمتص بعض حيرته، وقلة حيلته. وقف بجانبه منذ أول أيام المحنة.. وفوجئ ((فارس)) بوالد صديقه الحميم يزورهم في البيت، ويحدثه كأب حان: |
ـ اسمع يا فارس.. أنت وابني أصدقاء، ورغم ذلك لم أتعرف على والدك طيلة هذه السنوات، ولكني أعرفه رجلاً مكافحاً، وأباً جيداً.. لأنه أحسن تربيتك، ووثقت في صحبتك لابني.. فاعتبرني أباً لك، حتى يفرج الله كربتكم. لا تتردد، ولا تخجل، وأطلبني أي مبلغ للصرف على هذا البيت.. مهما كلفني ذلك. واطلب مشورتي في حدود ما أعرف، ومن رأيي أن تقفلوا المكتب.. حتى لا يكلفكم أكثر من طاقتكم اليوم. |
أطلعه ((فارس)) على التزامات المكتب، وتعهداته.. ووقف الرجل بجانب صديق ابنه. وافقه على ضرورة استمرار أعمال المكتب، حتى الانتهاء من الإيفاء بالالتزامات. |
وفوجئ ((فارس)) بوالد صديقه يبعث إليه مع ((ماجد)) مبلغ عشرة آلاف ريال! تهدج صوته، وحارت دمعة حزن في عينيه.. وهو يصد صديقه، ويشكره وأباه على هذا الموقف. قال له: |
ـ مازال لدينا حتى الآن السِّتر، وصدقني أنني لن أجد غير والدك وأنت.. من أطلب منه المساعدة حينما أحتاجها، وهذا موقف لن أنساه في حياتي، وسأخبر عنه أبي. |
ـ قال ماجد: أرجوك.. أبي لا يريدك أن تخبر والدك.. هذا تعامل رجولي بيننا، فلا تزد من هموم أبيك. والآن.. دعنا نناقش أمراً مهماً، وهو: كيف ستصرف على المكتب والموظفين، والبيت، وتنجز الأعمال المطلوبة؟! |
ـ هناك دخل بسيط من محل السجاد، ومن الأسواق والإيجارات، وقد استأذنت والدي في طرح بعض قطع الأراضي للبيع، ولكن المشكلة أن الأملاك موقوف التصرف بها.. لأن الجهات المسؤولة فيما يبدو ستتولى بيعها، في محاولة للتسديد من عائداتها وأقيامها. |
ـ إذن... ماذا ستفعل، فالمشكلة مازالت تراوح مكانها؟! |
ـ الديون التي بالملايين.. اعتبرها مجمدة، وقد أودع أبي السجن بسببها، والمهم أن نتخلص الآن من التزامات المكتب، وحقوق الناس الصغيرة. |
ـ عفواً يا فارس.. أنت تعلم أن أبي موظف بسيط، وليس عندنا إلا هذه ((الفيلا)) التي تأوينا، ومرتب والدي.... |
ـ (قاطعه): أسكت يا ماجد.. أعلم ذلك، وقد فعلتم من أجلنا الكثير، مما لم يفعله أقرب الناس لنا، والأصدقاء الحميمون لأبي! |
ـ دعنا نروِّح قليلاً عن أنفسنا، فلا بد أن تضحك والدموع في عينيك. وأسألك: كيف ترى نفسك الآن كرجل أعمال ((مزنوق)) في حل مصيبة وتجاوزها.. وأنت مثلي، مازلنا في نظر أهلنا صغاراً في السن، أو على الأقل شباباً.. لم نبلغ مرحلة النضوج، والاتزان بعد؟! |
ـ بدون مرح يا ماجد.. صدقني أن هذه المصيبة شحنت أعصابي، ولكنها قوَّت من عضلاتي النفسية. أشعر أنني رجل في الأربعين بخبرة كبيرة.. صحيح أن أهلنا قد يكونون دلَّلونا بتربيتهم المرفهة، وبتوفير كل مطالبنا: رحلات، وسيارات، وفلوس، ودلع، وتفاوت ما بين البذخ والصرف المرتاح.. فلم نفكر لحظة في موقف كهذا، ولا في محنة تدق عظام الإنسان وتسحقها. |
ـ عجيب... إنني أصغي إلى شخص آخر. أتتذكر حواراتنا الماضية؟! |
ـ نعم... لكني أختزن كثيراً. |
ـ وتقصد من كلامك.. أنه لا بد للشباب في سننا أن يتعرض للمواقف الصعبة والمرهقة؟! |
ـ لا أقصد.. اعتساف المواقف الصعبة، ولكن... تربية عضلات النفس، والإرادة، والقدرة، والرجولة لدى الشباب.. أقصد أن تكون هنالك تربية وسط.. فلا لين يرخي العظام، فيكون الشاب مثل البنت، ولا قسوة تنفره من البيت، والأسرة، والمحبة.. وتخلق منه إنساناً معقداً، أو حاقداً! |
ـ وكأنك. تلمح إلى التجنيد العسكري للشباب؟! |
ـ هذا أسلوب من أساليب تربية الشباب، وهناك شتى التعاملات التي تصنع رجلاً قوياً وإنساناً في نفس الوقت.. |
ـ صرت تتكلم بشكل جديد.. كأنك قرأت مكتبة كاملة في خلال شهر!! |
ـ لا بد أن يتعرض الشباب لمرحلة صقل، وتدريب خشن، ليكون مستعداً.. حتى المواجهة ما قد يطرأ على الواقع الجتماعي ككل! |
ـ أوه... هذا موضوع طويل. |
ـ أنت دائماً تطرح الموضوعات الصعبة، وتهرب إلى بيتك!! |
* * * |
|