حصاد العام الأول |
* تلقَّى((فارس)) تقديراته الدراسية مع انتهاء العام الجامعي الأول له. ومع تلك التقديرات تسلَّم خطاباً من إدارة الجامعة.. وقف أمام محتواه محبطاً، يحاول أن يدرأ انزلاق دمعة حارة من مآقيه.. وشعر أن الدنيا تضيق به، والظلال الكثيفة تكتنفه.. حتى كأنه لا يرى شيئاً، ولا يميز بين الأبيض والأسود. إنه يدرج إلى الحياة الجامعية بكل تفاؤل، لكنه كان يكتشف نفسه وقدراته منذ بدء ((الترم)) الأول.. كانت تقديراته أقل من المتوسط، ووعد نفسه بتحسين مستواه في نتائج ((الترم)) الثاني.. لم يخبر والده.. أو أن والده لم يسأله منذ دخوله الجامعة عن أحواله، وكيف يسير.. لأن مشاكله المتلاحقة، واجتماعاته، وسفرياته.. حالت بين الوالد وابنه، حتى عندما كان ((فارس)) في المرحلة الثانوية.. أما أمه.. فإن أسئلتها عفوية، وعاطفية، وغالباً ما تأتيه في شكل دعاء.. بأن يوفقه الله، وأن ((يوقف له أولاد الحلال)) ليعينوه على الدراسة والاستذكار (!!). |
كان يضحك- أحياناً- من عفوية أمه.. ويعرف أنها متعلمة جيداً، وخريجة جامعة، ومتخصِّصة في الديكور.. ولكنها حينما تقف- كأم- تلقط كل الأفكار، وتتحول إلى عاطفة جامحة! وهو يحبها كثيراً.. ويحب هذا الصدق النقي في عاطفة الأمومة عندها. |
* * * |
وغامت الدنيا في عينيه، وهو يترك ساحة الجامعة متجهاً إلى عربته.. وفي داخل العربة.. أسند رأسه على المقود، وأخفى وجهه.. حتى لا يرى أحد دموعه. وفي رأسه يضج السؤال المؤلم: |
ـ هل هذه هي البداية يا ((فارس))؟! |
-.مع العام الأول: تقديرات هابطة، وإنذار من إدارة الجامعة بفصله لمدة ترم، واحد، فإذا لم يحرص على تحسين تقديراته، فسوف يتم فصله نهائياً! |
ما الذي سيقوله لأبيه؟! |
هل يخفي عنه خطاب الجامعة والإنذار؟! |
هل يقول له الحقيقة... ولا يعرف رد الفعل من والده، ماذا سيكون؟! |
كيف سيتقبل أبوه هذا الخبر... يقرعه، ويصرخ في وجهه، ويحمله المسؤولية؟! |
أم تراه يتلقى الخبر بلا مبالاة.. وهو غارق في أعماله، وصفقاته؟! |
زاحمته كل هذه الأسئلة، ولم يعد يدري ماذا يفعل؟! |
قاد عربته.. وانطلق إلى غير هدى.. فكر أن يذهب إلى شاطئ البحر.. لكن الشمس ساطعة، وعمودية تصب قيظها. |
لم ينتظر صديقه ((ماجد)) حين الخروج من الجامعة، ليعرف تقديراته هو الآخر، ونتيجة حصاد عام جامعي.. كان مضطرباً، وشارداً.. ويداري فضح دموعه.. ربما كان ((ماجد)) يريحه، ويخفِّف عنه.. ولكن أين ((ماجد)) الآن؟! |
اتجه بعربته إلى منزل صديقه.. لعله عاد من الجامعة.. لم يجد ((ماجد)) في البيت، ويكاد يختنق.. يريد أن يصرخ.. أن يجهش بالبكاء.. هل يحاسب نفسه، قبل أن يحاسبه والده أو صديقه؟! ماذا كان يفعل طوال العام الدراسي؟! |
ـ كنت أذاكر، وكنت ألهو في الوقت نفسه.. ولكني لم أكن لا مبالياً بالدراسة، ربما كان تقديري للعام الدراسي الأول في الجامعة.. فيه بعض الاستهانة، فلم أركز. |
لعل انتقالي من مناخ الدراسة الثانوية إلى الجامعة، وعدم خبرتي.. من الأسباب التي جعلتني أخفق!! |
أليس جائراً هذا الفصل، وتعسفياً لطالب في بدء دراسته الجامعية.. يتطلع إلى منحه الفرصة؟! |
لقد منحوني فرصة.. بهذا الإنذار الذي يقضي بحرماني من ((ترم)) واحد. |
ولعل الجامعة تحاول أن تحد من هذا الاكتظاظ الطلابي.. فلا تتهاون مع الضعيف في تقديراته. |
كان ينبغي أن يكون هنالك توجيه من المدرسة، وتعريف من الجامعة.. ليلم الطالب بالمرحلة الجامعية، الجديدة عليه. |
وتبعثرت الأصداء في نفسه.. مع هذا الحوار الداخلي.. الحيرة تضطهده.. والألم يعتصره. |
في البيت... عرف من أخته ((عهد)) أن والده لم يبرح غرفته منذ الصباح!! |
هل يخبر أخته بمصيبته؟! |
حدَّقت في وجهه.. كأنها تفتش ملامحه. سألته: |
ـ ما بك.. تبدو كئيباً؟! |
ـ لا شيء... أرجوك اتركيني وحدي. |
ـ على كيفك.. ولكني أريدك أن ترتاح بالكلام. |
ـ ليس عندي كلام الآن. |
واستلقى على سريره.. يفسح للدموع طريقها من عينيه، لعله يشعر بالراحة قليلاً. وعادته الأسئلة من جديد. |
إنه لا يستطيع أن يخفي عن أبيه الحقيقة.. خاصة وأنه سيبقى نصف عام كامل خارج الجامعة. لم يتعود أن يكذب على أهله.. وفي إمكانه أن يخرج كل صباح، وهو يوهمهم بذهابه إلى الجامعة، ويعود في موعده المعتاد.. خاصة أن والده لا يتعقبه، ولا يسأله عن دراسته. ولكن... لا بد أن يطلع والده على خطاب الجامعة. لا بأس... عليه أن يمتلك شجاعته، ويحتمل غضبة والده وثورته.. وربما تصل الأمور إلى الضرب!! المهم أنه لن يكذب.. واحتار في الطريقة التي يخبر بها والده!! |
بعد الغداء. قبل أن ينام في الليل؟! |
هل يشرك أمه في المهمة.. لتمهد له، وتمتص رد فعل والده؟! |
لو أخبر أمه.. فسوف تصرخ للوهلة الأولى.. ستخبط على صدرها وتولول.. وربما يغمى عليها، ويرتفع الضغط.. نحن في عصر ارتفاع الضغط السريع! |
((عهد)).. هي المدللة عند أبيه! |
ليخبرها.. ويتدارس معها كيف يتم إيصال الخبر إلى الوالدين. طرق باب غرفتها. كانت شاردة الذهن، وجهاز التسجيل يبث أغنية. لا يظن أن ((عهد)) تصغي إلى الموسيقى، أو تتابع كلمات الأغنية. |
ـ سألها: ما الذي يشغلك وتفكرين فيه؟! |
ـ فيك أنت.. حالك لم يعجبني اليوم، وعندما سألتك.. صددتني وأنا أختك. |
ـ اسمعي إذن.. وفكري معي في مصيبتي! |
ـ مصيبة؟!.. أعوذ بالله. ماذا حدث؟! |
ـ باختصار.. اقرئي هذه الورقة. |
شهقت ((عهد))، وكادت أن تجحظ عيناها. سألته: |
ـ كيف حدث هذا؟! |
ـ لا أدري... فوجئت به مثلك، مع أني كنت أذاكر، وأتابع المحاضرات، وأجيب، وأحاول ما استطعت أن أجعل علاقاتي بالأساتذة جيدة، ولكن... جاءت هذه النتيجة! |
ـ لعلك كنت مشاكساً مع الأساتذة.. وأستاذ الجامعة يعتبر نفسه ((فوق)) كل شيء.. والبعض منهم يحلو له إذلال الطالب! |
ـ بالعكس.. أعرف هذه النقطة بالذات قبل أن أدخل الجامعة! |
ـ وماذا ستفعل؟! |
ـ لا مجال لأية محاولة. هذا قرار لا رجوع فيه. |
ـ وأبوك؟! |
ـ آه... هذه هي المعضلة. |
ـ كيف ستخبره.. وكيف ستراه يتلقى الخبر، وهو في حالة لا تسمح له بأية هزة؟! |
ـ ماذا به أبي.. هل يشكو من شيء؟! |
ـ طبعاً... فهل تدري أنت عن أي شيء في البيت؟!.. دائماً طائر، إما في الجامعة، والله أعلم، يا ما في السيارة، أو مع أصحابك. |
ـ من فضلك.. من غير تقريع. أنا ناقصك؟! |
ـ وماذا تريد؟! |
ـ خدمة منك... فكري معي كيف في أبي؟! |
ـ نخبر... أو أنت الذي يجب أن تخبر أبي بنفسك؟! |
ـ بل أنت بطريقتك.. وهو يحبك جداً. إنت البنت طبعاً! |
ـ يحبنا أنت وأنا.. بل أنت ولي عهده، أعني: الأمل الذي ينظر إليه كمستقبل، ونجاح، ووقوف بجانبه وهو يهرم ويتعب. |
ـ هل صحيح إن والدي متعب.. ومم يشكو؟! |
ـ مصيبته أكبر... لأن ديونه أصبحت تزعجه، وتهدده بكارثة. |
ـ وكيف لم أعلم بهذا كله؟! |
ـ ليس مجال السؤال الآن.. دعنا نفكر في مصيبتك! |
* * * |
|