العدل.. فقط!! |
* لم يحضر العريس في الموعد الذي حدَّده أهله لخطبة ((عهد)) أو رؤيتها. وتعلق سمع ونظرات ((خالد)) وزوجته ((إلهام)) بالباب، وبالجرس. |
كل البيت كان في حالة طوارئ.. حتى ((فارس)) اكتشف أنه حبيس البيت، ليستقبل مع أبيه: العريس ووالده وأهله. |
عقارب الساعة تزحف ببطء.. وقد شارفت على التاسعة، دون أن يقرع الجرس، أو يحضر حتى من يعتذر! |
تمتمت ((إلهام)) بكلمات.. كأنها تصبِّر زوجها ونفسها، فقالت: |
ـ الغائب حجته معه.. سبحان الله، مين يدري! |
((خالد)) ظل صامتاً بهدوء عجيب، وهو مندهش في داخله.. |
فقد كان متحمساً للعريس، ولعائلته الكبيرة، وكان ينظر في عيني ابنته.. فيستشف عدم الرضا، وشعورها بالإرغام على تقبل الأمر! |
كأنه يقول لنفسه الآن: لقد انتصرت ((عهد)) علينا. |
ولكن... ما الذي منع العريس وأهله عن الحضور، وحتى عن الاعتذار؟! |
و ((عهد)).. بقيت في غرفتها، لا تطيق أن تشمت بوالديها، وقد حدثاها طويلاً عن العريس: عراقة أسرته، وجامعيته، وتعليمه، وحتى وسامته! |
تريد أن تضحك الآن.. ولكن ليس على أبيها وأمها. |
إنها تضحك من هذه العادات التي لم تتطور وتتبدَّل.. فإذا كانت ((العائلة)) كبيرة، وذات صدى في المجتمع، فإنها تصبح مطمعاً، وشرفاً، وفرصة! |
غير أن القلق أصاب ((عهد)) هي الأخرى، ورددت نفس السؤال: |
ـ لماذا، تأخَّروا؟! |
إنها تخاف على مشاعر أمها وأبيها، وأيضاً.. تخاف من ذلك الرذاذ الذي سيتطاير فيما بعد.. فقد عرف الأقرباء، والجيران، والأصدقاء.. أن((العريس)) سيزورهم الليلة لخطبتها.. بل وعرف أولئك كل شيء عن عائلة ((العريس)) وعن صفاته، وعمله. |
تُرى... كيف سيكون شكله؟! |
هل يبدو أملس، ناعم النظرة، بارعاً في الكلام؟! |
أم سيكون جريئاً، مقتحماً، وربما وقحاً في النظرة والحوار؟! |
إنها لا تميل إلى الصفات الأولى، ولا إلى الصفات الأخرى.. ولكنها تريده رجلاً وسطاً: ليس أملس ولا ناعماً.. بل صلباً وقوياً في كلامه وشخصيته، ولا تريده وقحاً ومقتحماً.. بل شجاعاً، وكريماً، وصادقاً بكل الوضوح. |
ـ قالت لنفسها بغيظ: ((فصِّليه)) إذن! |
وسمعت طرقاً على باب غرفتها، وانفرج الباب عن وجه أخيها، وهو يجذّ على أسنانه، متوتِّراً، مغتاظاً! |
ـ سألته: ما بك؟! |
قال: لا شيء.. البركة في حضرتك! |
ـ قالت: آه.. عرفت. لا بد عندك نفس الموعد المهم، ولكن... من هي هذه المرة؟! |
ـ قال: من فضلك.. أنا ناقصك؟.. أعرف أن العريس يكون متلهفاً على رؤية المرأة التي ستشاركه حياته، وموعدهم معنا الساعة الثامنة، وها هي الساعة العاشرة.. فسِّري لي ما يحدث؟! |
ـ قالت: هل أنا التي أفسِّر.. كنت معاهم يعني؟! |
ـ قال: حضراتهم جايين للكشف والمعاينة.. أجل كيف لو كان زواج؟ يمكن يشرِّفوا في الصباح! |
ـ قالت: أرجوك يا ((فارس)) بدون تجريح. أنا إنسانة ولي كيان، وأختك.. عيب لما تقول: الكشف والمعاينة، لأنني ماني سلعة، أو نعجة! |
حضنها ((فارس))، وقبِّل رأسها، وهو يضحك قائلاً: |
ـ الله.. الجميل زعل. نحن بنمزح.. بعدين على إيه كل هذه الاستعدادات، والانتظار، مادام في الآخر ستقول ((السنيورة)): لا... غير موافقة |
ـ قالت: ومين قال لك إني ماراح أوافق... يمكن أوافق!؟ |
ـ قال: الله... رجعنا في كلامنا.. إذن ليه التعصيب والنرفزة مع السِّت الوالدة، والإصرار على الرفض، وألا... يكون السيِّد القادم، هو... فتى الأحلام؟! |
ـ قاطعته صارخة: فارس... كفاية كده، لا أسمح لك، وإنت تعرف سلوك أختك، ولا يمكن أن أتصرف في الخفاء، وبطريقة غير مسؤولة. |
* * * |
ربت ((فارس)) على كتف أخته، وأقفل الباب وراءه، وخرج إلى الصالون.. حيث يجلس والده وهو ينظر إلى ((إلهام)) صامتاً. |
ـ وبعدين في هذا التوتر، وهذا السجن؟! |
خاطب نفسه، وهو يرى أمه تكاد لا تستقر في مقعدها. |
وتبادل النظرات مع أبيه دون حوار.. إلا أسئلة تلك النظرات القلقة. والدقائق تمر كسلى. |
وتكلم والده.. يسأله عن أخته ((عهد)) ماذا تفعل في غرفتها؟! |
ـ أجابه: جالسة.. تقرأ في كتاب! |
ـ قال: ما شاء الله. فرحانة طبعاً!؟ |
وقرر ((فارس)) أن يفجِّر هذه القنبلة غير الموقوتة، فتكلم قائلاً لوالديه: |
ـ يا جماعة حصل إيه يعني... خيرة! |
ـ قالت أمه: خيرة إيه، والناس، والكلام؟! |
ـ تكلم خالد بهدوء: فارس معه حق. صحيح ((خيرة)).. |
لعل الله أراد لنا الخير، من يدري. روح يا ((فارس)) غرفتك، أو إذا أردت الخروج.. فلا بأس. |
ـ قالت إلهام: يا كسوفي من الناس.. أقول لهم إيه؟! |
ـ قال خالد: الناس.. الناس. دي حياتنا، بعدين أنا أعرف السبب! |
قفزت ((إلهام)) من مقعدها ثائرة.. تكاد تمسك بتلابيب زوجها. |
ـ قالت: إنت إيه؟ عارف السبب، وساكت كل هذا الوقت؟! |
ـ قال: بدون انفعال... ممكن تسترجعي كلامنا في آخر ليلة أمس؟! |
صمتت ((إلهام)) وشردت كأنها تتذكَّر، أو تتألَّم، وحدَّقت في وجه زوجها، وسألته: |
ـ تقصد......؟!! |
ـ قال: محتمل... في الأول، كنت صاحب ثروة لا بأس بها، أما الآن... فأنا مهدد بالإفلاس، وربما السجن.. فلا بد أن يعيدوا حساباتهم. |
ـ قالت: صحيح... محتمل، والعمل؟! |
ـ قال: هدئي من روعك. أنت الآن في كامل زينتك، ولا بد أن ((عهد)) مثلك.. وإذن، لنخرج ونتفسَّح، ونخلص البنت من أفكارها.. لقد ضغطنا عليها كثيراً، ولم نكن نعلم أننا نسقطها في الوهم. |
ـ قالت: وهم إيه؟.. ألف من يتمناها، ولا تنسَ أن البنت مصمِّمة على دخول الجامعة، والحصول على الشَّهادة، والمستقبل أمامها. |
ابتسم ((خالد)) وهو يهم بالقيام، وقال لزوجته ساخراً: |
ـ عجيب... !! اقتنعت الآن؟! |
* * * |
وقفوا ثلاثتهم أمام البحر.. يتأمَّلون بياض الموج الهادئ الذي يرتطم برمال الشاطئ في وداعة لا يتصف بها البحر دائماً! |
خالد: يحدِّق في الظلام الكثيف الذي يغطي زرقة البحر في مداه البعيد.. حيث الأسرار، والأعماق، والمجهول، وثورة الموج وارتداده بعد ذلك.. كأن البحر أمامه الآن: بشر يتحرك ويتصرَّف! |
إلهام: تحتوي بيدها كتفي ابنتها، وتضمها إليها في حنان بالغ.. وهما ينظران إلى الأضواء التي تلوح من الجانب الآخر، مثل نقاط متناثرة على صفحة الماء! ودمعة.. تكفكفها الأم بسرعة، قبل أن تلحظها ابنتها. |
عهد: ترسم ابتسامة على شفتيها البكر.. فمازال ((الحلم)) بعيداً يتبلور، ويتشكل في رحم الغد... لكنها تلملم حزناً عفوياً، وهي ترى والدها شارد الذهن، منقبض النفس، تائه النظرات.. كأنه يركض بذلك كله خلف أمل جديد، أو يهرب من لهب المشكلات والهموم. |
حاولت أن تفعل شيئاً يكسر رتابة هذا الجو.. ركضت إلى أبيها تحتضنه، وتدلِّله.. وهي تقول ضاحكة: |
ـ إيه.. سكتم بكتم. نحن بنتفسَّح يا أمم. خلوها على الله. |
ـ قال والدها: ونعم بالله.. أريدك أسعد إنسانة على وجه الدنيا. |
ـ قالت عهد: معك، ومع أمي وأخي.. تأكد أننا نصنع السعادة.. فهل تناقشني أيها السيد الكبير ((بابا))؟! |
ـ قال: أناقشك... ولكن في إيه؟! |
ـ قالت: في الحياة، والعمل، والكفاح، والرزق، والحظ، والفرصة، والنجاح. |
ـ قال ضاحكاً: ياه... كل فقرة منهم تحتاج إلى كتب فلسفة! |
ـ قالت: بالعكس.. عندما نفلسفها، نكتشف أننا نصعّبها، ولكن عندما نبسّطها.. فلا أحلى منها، وتبدو الأمور حين تبسيطها منطقية، وربما كانت عادلة. |
ـ قال: عادلة... كيف؟! |
ـ قالت: أنت يا أبي خبرتك وتجربتك أعظم وأكبر.. ولكن العدل في رأيي، هو في صدق الإنسان مع نفسه، ومع الناس.. أن لا نخون أنفسنا، ولا نخون الناس.. وبعد ذلك، كل شيء يصبح عادلاً، ونقدر أن نتقبَّله.. حتى لو كان يفيض بالألم! |
ضم ابنته إلى صدره.. ومد يده الأخرى إلى زوجته، وقال لهما: |
ـ لقد تأخَّر الليل.. لنعد إلى بيتنا الأجمل!! |
* * * |
|