شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السؤال الصعب!!
* استرخى ((فارس)) على سريره، وقد انتصف الليل.
أفكاره تتجاذبه.. وهو يحدِّق في سقف الغرفة، كأنه يحاول أن يتخلص من تلك الرعشة الخفيفة التي انتابته.. أفكاره تتكثف في رأسه.
لقد بدأ مرحلة جديدة من العمر، لا يعرفها.. ولكنه- في البدء- يفرح بها، وهي تدخله إلى قدرة الرجولة والنضوج.
هذا هو العام الدراسي الأول له في الجامعة..
زهو الشباب في شرايينه يدفعه إلى تجارب جديدة، وإلى انطلاقات يريد أن يؤكِّد بها قدراته ورغباته.. يفكر كثيراً في هذه البوابة المغايرة التي يدخلها بعمره الفتي.
أشياؤه الصغرى ستكبر وتتسع، وربما تحوَّلت- فيما بعد- إلى قضايا! وحاصره السؤال المفاجئ، والمنبعث من كثافة أفكاره:
ـ كيف تبدأ القضايا.. صغيرة؟!
حتى النظرة إلى المستقبل.. تبدأ من تلك النقطة الصغيرة.. والمستقبل يشغله كثيراً من الآن... لقد نضج، وأصبح شاباً.. مشكلات عديدة ستنشأ في هذه المرحلة من العمر!
ليست لقمة العيش- وحدها- هي التي تلح على تفكيره، فقد كانت أفكاره تأخذه إلى تأمل ((حالة)) الغد.. عندما يكبر أكثر، ويتخرج من الجامعة، ويخوض معترك الحياة!
((حالة)) الغد بالنسبة له.. لا بد أن تتبلور في سؤال آخر، يأتي مرادفاً للسؤال الذي سبقه:
ـ كيف ستكون فرص العمل أمامه، وأمام جيله كله؟!
يسأل هذا السؤال من الآن.. لأنه يتلفت حوله، فيجد أعداداً من الخريجين الجامعيين الذين درسوا في الكليات النظرية.. يكادون لا يجدون أعمالاً، وإذا وجدوها.. فلا بد أن يخضعوا لتخفيض الدخل الشهري العائد لهم من أعمالهم.
إنها الوقفة الأصعب التي تلوح الآن في شكل صدمة، أو إفاقة.. بعد سنوات قليلة، أطلق عليها المجتمع والمنظِّرون اسم ((فترة الطَّفرة)).. حين كانت الفلوس تتمتع بسيولة مغرية، ودفعت الكثير من الناس إلى الجري والتسابق، ودفعت الكثير من الموظفين في الإدارات الحكومية إلى تقديم استقالاتهم والاتجاه إلى الشركات التي كانت تمنح مرتبات عالية، أو دفعتهم إلى المتاجرة في بيع الأراضي للإثراء السريع وإنشاء شركات صغيرة.. لعل ((الطَّفرة)) أغرتهم بأن هذه الشركات ستكبر مع الربح والدخولات السريعة!
كأن تلك ((الطَّفرة)) كانت حلماً.. لم يستمر طويلاً، فأفاق منه الناس بمبررات مختلطة.. أهمها: ما حدث من خلخلة في سوق بيع النفط، ولعبة الدولار ما بين صعود وهبوط!
ثم... ما كان من تدفق هائل لأعداد ((العمالة)) التي تجمعت من أنحاء العالم، وبالتخصيص من جنوب شرقي آسيا.. حتى انعكس ذلك التدفق داخل البيوت، وفي كيان الأسر!
وأوغل الليل ب ((فارس)).. يسرع به إلى انبلاجة الفجر.. ومازال النوم يجافيه، والقلق يعتوره ويجذبه إلى الحيرة، والأسئلة!
واسترجع حواراً مع صديقه الحميم ((ماجد)) الذي صاحبه في هذا المشوار من العمر.. فقد تصاحبا وتزاملا في المدرسة الابتدائية، وتواصلا في المرحلتين: الإعدادية، والثانوية.. دون أن يعثر صداقتهما غبار الأيام والخلافات.
لقد سأله صديقه قبل أيام، وبشكل مفاجئ وجاد:
ـ قل لي يا ((فارس)).. ما هي قضيتك؟!
يعترف الآن أن السؤال كان صدامياً له، ولعله يقفز به فوق سنه، الغض، فهو سؤال ضخم.
اضطرب في اللحظة الأولى. حذق في وجه صديقه. سأله بعد لحظة صمت:
ـ لماذا تسألني الآن؟!
ـ خطر السؤال على بالي.
ـ فقط؟!!
ـ لا أدري.. أحسست بدوافعه، ربما لأننا لم نحاول مرة أن نستفتي أنفسنا في شيء. ترانا هذا الشباب الناهد الذي يعدو نحو الشمس، والبهجة، والضحكات.. ولعلنا نتسابق، ولكن... لم نسأل أنفسنا: إلى أين، أو ما الذي نتسابق عليه، ومن أجله؟!
ـ كأنك تثير مواجعي الآن!
ـ لماذا... وكيف؟!
ـ تذكرت زميلنا في الثانوية: ((أحمد الواسعي)) الذي كان يمتلئ شباباً وجنوناً بالحياة.. حتى إنه لم يكن يذاكر كثيراً، لكنه في نهاية العام الدراسي يفاجئنا بتفوقه.
كانت الدنيا في نظره: فرصة، وكانت الفرصة: لحظة لا ينبغي أن يتركها، ولم يكن يحدثنا عن طموحاته وأحلامه في المستقبل، ولا ماذا يريد أن يعمل.
ـ سألته مرة: كيف تفكِّر في عطاء علمك ورجولتك يا أحمد؟!
أجابني يومها: لم أفكِّر.. بل لا بد أن أحيا يومي. أيام الشباب لا تعود ولا تتكرر، فإذا كبرنا.. أخذتنا عجلة الحياة ودوامة الانشغال بالعمل والمال وبالمركز.. فلا نجد الوقت لننطلق أو لنضحك!
سألته: ولماذا تقول هذا الكلام؟!
قال: ربما لأنني أرى والدي اليوم أكثر من منشغل.. إنه ينسى نفسه، وراحته، بل وينسانا نحن أبناؤه وبناته. ولو سألته عن السنة الدراسية التي أدرس بها.. لما عرف!
لقد سرقه العمل، والمال، والسفر، والقيمة الاجتماعية.
سألته بعد ذلك: ولكن يا أحمد.. ألا تحلم بشيء؟!
قال ساخراً أو لا مبالياً: أحلم؟!.. إنني لا أعلم ماذا يحدث غداً، فلماذا أحلم؟!
قلت له: تحلم بالمستقبل!
قال: المستقبل يا صديقي بظهر الغيب. حلمي هو لحظتي التي أحياها فقط.. إنها لا تتعوض ولا تعود، كما قلت لك!
ولم أخرج منه بنتيجة، ولكن الفاجعة لنا.. كانت يوم سمعنا خبر ((أحمد))، عندما كان يقود سيارته ((السبور)) وهو عائد من البحر في نهاية عطلة الأسبوع، وكان مسرعاً، وربما كان يغني ويتقافز أمام مقود السيارة كعادته، وانفجر دولاب السيارة الأمامي، وانقلبت به عدة مرات، وودع الحياة في لحظة كان يحياها.. بعد أن عاش عمره الذي مضى بحساب اللحظة فقط!
ـ قال ماجد: ذلك قدره، وقد بكيناه كثيراً، وافتقدنا مرحه وانطلاقته، ولكن سؤالي يخصنا كأحياء.. لم يفقدنا الألم نظرة الأمل إلى الغد.
ـ قال فارس: ماذا تريدني أن أجيب؟.. إننا نتسابق على التفوق والنجاح... لنخوض معاناة الحياة بعد ذلك.
ـ صحيح.. بشكل محدود. ربما في المدرسة، والآن في الجامعة، وبعد غد لي شؤون الحياة وهمومها، ولكن... ما هي قضيتنا؟!
ـ قضيتنا الآن.. تكمن في التفوق.
ـ فقط؟!.. وبماذا نتفوَّق؟!
ـ نتفوَّق بالعلم، ثم بالعمل، من خلال تخصصات علمية نخدم بها بلدنا، وأهلنا.
ـ هذا جميل.. ولكن- أيضاً- ما نوع الخدمة؟!
ـ ماذا تقصد؟!
ـ فكِّر في سؤالي.. وأجبني بعد ذلك!
* * *
لقد خلخله السؤال، وأقض مضجعه.. إنه يفكر في بلده.. في منطقته التي أطلقوا عليها ((الخليج)) بكل خلفيات هذه التسمية.. يفكر في عالمه العربي، وعالمه الإسلامي.. يفكر في العالم كله، باعتباره وحدة مترابطة بالمصالح، وبالحضارة، وبالتقدم.. بلاده تشهد قفزات التنمية، وطموحاتها تصعد باستمرار.. وهناك عراقيل، وأخطاء.. ولكن العجلة تدور، والتطور يفرض نفسه، وأحلام الشعوب واسعة.
((خليجه)) يتعرَّض لتحديات شرسة وضخمة.. ثروات الخليج تتعرض لأطماع وأحقاد.. ربما امتدت مع طول التاريخ.
العالم العربي ممزَّق.. مازال مطحوناً في عجلة الخلافات، والمؤامرات، ولعبة القوى الكبرى.
العالم الإسلامي.. يناضل للتمسك بعقيدته، وتحقيق حلم التضامن القديم.
العالم كله فوق بركان.. صنعته لعبة القوة.
فأين هي ((القضية)).. في هذا التدافع والزحام؟!
ما هي نقطة الارتكاز لتفكير الشباب؟!
هل هي في المحافظة على الثروة، وتنميتها، وصيانتها، وحراستها... أم بعزة هذه الثروة في اللهو، والرفاه، والتبذير؟!
أم هي في حماية الاستقرار الداخلي، وتحصين الأرض والثروة من الطامعين خارجياً، ومن المبذرين والسفهاء داخلياً؟!
أم هي في صد ومجابهة الحرب الخفية والخطيرة التي تستهدف الشباب، والعمل على تجنيب هؤلاء الشباب مزالق الانحراف، وإبعادهم عن المخدرات واللهو القاتل؟!
أم هي في نشر مظلة حرية الحوار والكلمة.. لتكون هنالك رؤية صحيحة؟!
أضنته هذه الأسئلة، وأحسَّ رأسه قد تحوَّل إلى كرة حديدية، ثقيلة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1164  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 105 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج