الليل.. يصحو! |
جلس ((خالد))يتأمل زوجته ((إلهام)) وهي تسرِّح شعرها. |
كانت تبدو بسيطة وهي ترتدي قميصاً أبيض، وقد مال جسدها إلى الاكتناز قليلاً. وجمعت شعرها الأسود الكثيف بعد أن صفَّفته، وحزمته من الخلف.. ليبدو وجهها متألقاً ببياضه، بدون أن يضفي عليه الشعر الأسود إطاراً يبرزه. |
فجأة... قهقه ((خالد)) وهو يتأمل زوجته حين اقتربت منه، لتسترخي بجانبه على السرير، وتتهيأ للنوم. |
حدقت في وجهه مندهشة، تقول: |
ـ باسم الله علينا.. فيه أحد يزغزغك؟! |
استمر ((خالد)) يضحك، وهو ينظر إلى مقدمة شعرها، ويشير بأصبعه. |
ـ قالت له: وجهي يضحك، والا إيه؟! |
ـ قال: أضحك على أول شعرة بيضاء تتوِّج رأسك يا حبيبتي. |
ـ قالت: يا سم!.. ما هو رأسك مليان شعر أبيض.. يا راجل يا عجوز! |
ـ قال مستمراً في الضحك: ذكريني.. اشتري لك ((حناء)) من الأصلي، والا أجيب لك صبغة شعر! |
ـ قالت: شكراً.. شايلتك للعوزة. دمك ثقيل، نام أحسن. |
ألقت برأسها على الوسادة.. وهي تهمهم قائلة له: |
ـ إذا ما هو عاجبك.. روح اتجوز صبية عندها سبع عشرة سنة، ترد لك شبابك، ويكون شعرها أسود صافي. |
وضع يده على شعرها، وتخلَّلت أصابعه في كثافته وسواده، وقد اتكأ بساعده الآخر على الوسادة، وهو يتأمَّل صفاء وجهها الذي عكَّره الغيظ من ضحكاته. |
ـ همس في أذنها: إنت في نظري تلك الصبية، الحب.. هو الذي يجعل كل واحد منا في عين الآخر شباباً، وحيوية، أنت رفيقة عمري.. فلا تقولي مثل هذا الكلام أرجوك. |
ـ يمكن تزوغ عينك، الرجال كده.. دائماً عينهم فارغة. |
ـ شفوي والله، لكن ((التحريري)) بالنسبة لي هو أنت، وبعدين.. لا داعي لأن يسمع ((فارس)) أو تسمع ((عهد)) مثل هذا الكلام. |
ـ تقصد إيه؟! |
ـ أقصد أن ((فارس)) حكى لي الليلة عن مخاوفك أن أتزوج.. |
لأن فلوسي كترت! |
ـ لكن إنت اتغيَّرت يا ((خالد)) كثير! |
ـ لازم أتغيَّر، وإنت كمان اتغيَّرتِ، لا تنسي أننا نكبر في العمر، أنتِ اهتمامك أصبح للولد والبنت، وللبيت. |
ـ ما شاء الله.. تبغاني أجلس عروسة طول العمر.. أقابلك، وابتسم لك؟! |
ـ هذا فهم خاطىء للرجل.. أنا لا أطالبك بمرح الشباب، وشقاوة البنات، وأوقات كلها غزل.. بالعكس، أطالبك بشيء من الرِّقة.. من الحنان.. من الابتسامة النقيَّة.. من الاهتمام بالرجل في كياني. |
ـ لكني لم أهملك.. كل طلباتك، وشؤونك.. أقوم بها على أكمل وجه. |
ـ صحيح.. إنت ست بيت ممتازة، لكنك نسيت أنوثتك، المقولة القديمة التي تقول: مفتاح قلب الرجل في معدته.. مقولة قديمة يا سيدتي، لأن الرجل في هذا العصر لم يعد يهتم كثيراً بمعدته، نحن في عصر ((الساندوتش))، ولكن الرجل يبحث عن المرأة التي تستقبله في بيته، وتنسيه همومه خارج البيت.. تستقبله بابتسامة، بعطرها الجاذب، بكلمة رقيقة، بلمسة دفء وحنان! |
ـ تصفيق، رائع، المفروض أن تعمل محامياً، فأنت طليق اللسان ما شاء الله. |
ـ تسخرين من مطالبي البسيطة؟! |
ـ أنا لا أسخر، ولكن هذه الأشياء كلها أقوم بها، وأنت لا تلاحظها، طبعاً.. صرت امرأة قديمة، مليت مني، وترغب في التجديد.. تحلم بفتاة مثل ((لوليتا)) علشان تصبغ لك شعر رأسك الأبيض. |
ـ اللَّهم طوِّلك يا روح، إلى متى سيستمر هذا الموَّال.. ألا ننام؟! |
ـ نام.. خلاص صعت من الأذن اليمين، وأخرجت الكلام من الأذن اليسار! |
ـ تصبحي على خير. |
ـ وننام متخاصمين كده؟! |
ـ اعملك لك إيه.. يعني لازم الموشَّح ده فوق السرير؟! ما كان فيه موشَّح أحلى! |
ـ حضرتك تعبان.. يا عيني مهلوك من الشغل! |
ـ تعالي.. أوريكي شغلك! |
وتعالت ضحكاتهما ((تصحي الليل))! |
صحت ((إلهام)) على قرع باب الحمَّام بجانب غرفة نومهما. كانت ((عهد)) تخبط على الباب، وهي تستعجل ((فارس)) أن ينتهي بسرعة. |
ـ قالت لها أمها: ما هو الحمَّام الثاني فاضي.. روحي هناك. |
ـ قالت عهد: لا.. دا حمَّامي، أقصد أنني أرتاح فيه. |
ـ قالت أمها ضاحكة: ترتاحي في الحمَّام؟! |
ـ قالت عهد: طبعاً.. الحمَّام مثل غرفة النوم، بعدين فرشة أسناني هنا، وروبي هنا، قلة أدب أولاد يدخلوا حمام ستات |
ـ قالت أمها: طيب.. وأشياء ((فارس)) هنا أيضاً، خذي حاجاتك إلى الحمَّام الثاني، وبلاش صراخ في الصبح. |
واستمرَّت ((عهد)) تقرع باب الحمَّام، حتى أطلَّ عليها وجه فارس مغتاظاً، وهو يقول: |
ـ يعني ما استحمى.. ما أحلق ذقني؟! |
ـ لا.. قول ما أشرب سيجارة على الرِّيق. |
ـ بس يا بنت.. أكسر فمك. |
ـ طيب أمي تعرف.. اشمعنى ما تخاف من أمي وتشرب قدَّامها.. أبويا يعني اللي بعبع؟! |
ـ والله لأقول لأمي على التليفونات. |
ـ ما بأعمل حاجة غلط.. باتكلم مع صاحباتي، ما هو مع..... |
ـ تقصدي إيه؟! |
ـ إنت عارف.. لما ينام بابا وماما بتعمل إيه بالتليفون اللي تاخده لغرفتك |
ـ أنا راجل.. والله! |
ـ وأنا ست! |
ـ عيب يا بنت.. دي التربية والأخلاق؟! |
ـ والله أنا متربية أحسن منك، وأرجوك ما تلبِّخ ولا تتهمني في سلوكي. |
ـ يا ماما.. تعالي شوفي بنتك! |
وفوجئا- معاً- بوالدهما يقف أمامهما عابساً: |
ـ وبعدين في نقاركم الصباحي.. كل يوم صوتكم يرتفع. |
ـ قالا معاً: يا بابا.. ما هو..... |
ـ يا الله.. كل واحد يروح يلبس علشان نفطر مع بعض. |
نظر كل منهما إلى الآخر بغيظ، واتجها إلى غرفتيهما. |
كان ((فارس)) قلقاً جداً على إكمال تسجيل بقية المواد، تناول فنجان شاي، واستأذن في الذهاب إلى الجامعة. |
وهناك... وقف في الطابور المعتاد، تصك سمعه أصوات الطلبة المنادية على موظف التسجيل. |
رأس الموظف يتراجع قليلاً عن الفتحة التي أعدت ليقف أمامها الطلبة من أجل استلام استمارات يملؤونها، ويذهب كل واحد منهما إلى رائد المادة التي يرغب في تسجيلها. |
واستلم ((فارس)) الاستمارة الجديدة لمادة يريد تثبيتها، وأخذ يركض في الممرات نحو حجرة المشرف، أو الرائد. |
سأل عنه، فلم يجده، قالوا له: |
ـ انتظر.. سيأتي بعد قليل. |
طال انتظاره، ذهب إلى ((الكافتيريا)) وتناول قدحاً من الشاي، وعاد إلى غرفة ((الأستاذ))، وطرح عليه عدة أسئلة، قال له بعد ذلك: |
ـ آسف، لقد انتهى العدد! |
ـ ولكن.. ماذا أفعل، ستكون هذه المادة من رئيسيات تخصصي. |
ـ ما هو شغلي، اتصرَّف، سجل مادة أخرى. |
ـ ولكنك رائد، وموجه، قل لي ماذا أفعل.. ما زلت جديداً!؟ |
لم يظفر بنتيجة تعينه. |
قذف الاستمارة في المقعد الخلفي للسيارة، واتجه إلى منزله. حاولت أمه أن تعرف سبب عبوسه، تلاحقت أسئلتها، صرخ. |
انزلقت دمعة من عيني الأم، وهي تقول: |
ـ أنا قلقة من أجلك، أريد أن أطمئن ماذا فعلت في الجامعة، وتصرخ في وجهي يا فارس.. أنا أمك؟! |
عانقها، وهو يقبلها معتذراً، والدموع في عينيه. |
روى لها حكاية التسجيل، والدوَّامة التي يعيشها. |
ـ قالت له: احتمل.. هذه بداية المشوار.. كيف بدك تصير راجل؟! |
ـ قالت عهد: يا وعدي.. يا وعدي، أجل أنا البنت راح أعمل إيه لما أنجح، وانتقل للجامعة، وأروح أسجل؟! |
ـ قال فارس: أروح معاكي |
ـ قالت عهد: ده بُعْدك.. ليه، علشان تشوف البنات؟! ممنوع دخول الرجال، آسفة.. وممنوع دخول الأولاد كمان. |
ـ قال فارس: أنا راجل.. عيب كده. |
ـ قالت إلهام: إنتظر لما يرجع أبوك وأحكي له. |
ـ قال فارس: والسيد الوالد حيعمل إيه يعني؟! |
ـ قالت أمه: يمكن يعرف أحد كبير.. يعطيك خطاب توجيه تمشِّي أمورك! |
ـ قال فارس: أنا أرفض هذه الطريقة. |
ـ قالت أمه: وتخسر المادة يعني؟! |
ـ قال: لازم أتصرف... لازم. |
ـ قالت: تعمل إيه يعني؟! |
ـ قال: بعدين تعرفي يا أمي.. بعدين! |
* * * |
|