شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فارس.. اقتصادي!
لاحظ ((خالد)) أن ابنه ((فارس)) وابنته ((عهد)) لا يتناولان طعام العشاء، وقد ران على وجه كل واحد منهما صمت، ووجوم.
سأل زوجته بنظرة إليها وحركة من رأسه عن خلفية هذا المنظر. أجابته ((إلهام)) بنفس طريقته، وهي تمد شفتها السفلى.
لم يرد ((خالد)) أن يطرح السؤال مباشرة، كان قد حاول أن يثير ((فارس)) بالذات ليتكلم، ولكن ((فارس)) واصل صمته، وهو يعبث بالسكين وبالشوكة.
لكز ((خالد)) زوجته برفق في يدها مشيراً إلى الممتنعين عن الطعام، يريد منها أن تسأل هي.
ـ سألت إلهام ابنها: إنت ما بتاكل ليه؟
ـ شبعان.
ـ سأل خالد ابنته: وأنت يا عهد.. طبعاً متضامنة معاه كالعادة!
ـ أنا زعلانة.
ـ سألها والدها مبتسماً: وزعلان القمر من إيه.. مين اللِّي زعله؟
ـ إسأل فارس يا بابا.
. رد ((فارس)) بعد أن سأله والده، وهو يضخم صوته:
ـ عهد زعلانة من السوق الأوروبية المشتركة!
فوجيء ((خالد)) وزوجته بالإجابة.. فقالا بصوت واحد: إيه؟
ـ قال فارس: طبعاً.. نحن الاثنين، أقصد أنا وعهد، لنا قضية مع السوق إياها.
ـ وقضيتك إنت وأختك إيه؟
ـ قالت عهد: الفلوس.. قال مذيع التلفزيون لما كنا في بلدنا: أوروبا في عصر المادة.
ـ قالت إلهام: والله وعرفت تتكلمي يا شبر ونص إنت.. أصابك فارس بالعدوى واللي كان كان!
ـ قال خالد: وإيه دخل عصر المادة بالسوق المشتركة، وأوروبا.. ما هو كل العالم في عصر المادة؟
ـ نظرت ((عهد)) إلى والدها بتأمل مضحك، ثم قالت له:
ـ الحتة دي مش فاهماها.. أعد من فضلك.
قهقه الوالدان لطريقة ابنتهما في الحديث، لكن ((فارس)) بتر تلك القهقهة بنبرة جادة، وخبط على طاولة الأكل مثل رجل مهاب، وقال:
ـ من فضلكم.. لحظة سكوت، نحن العرب من عيوبنا إننا نتكلم بصوت مرتفع وما نفعل شيء!
ـ ذهل ((خالد)) من حركة وعبارة ابنه. أخذ يحدِّق فيه طويلاً، ثم سأل ابنه:
ـ إنت يا ولد في أي سن؟
ـ قال فارس: ليه حضرتك بتسأل؟
ـ لأن الكلام ده ما يقولوه إلاَّ الكبار. لأ.. إلا بعض الكبار.
ـ خلاص.. أنا كبار، يعني بأغش في عمري؟.. وبعدين دا كلام جرائد وأفلام!
ـ قالت إلهام: يا قليل الأدب.. كده تتكلم مع بابا؟
ـ من فضلك يا ماما.. خلي الرجال يتفاهموا!
ـ قال خالد: أتركيه.. أكمل يا حضرة المثقف اللوذعي.
ـ قال فارس: الموضوع باختصار.. إن السوق الأوروبية المشتركة هي اللي جابتنا باريس!
ـ عجيب. معلومة قيمة. كيف.. نوِّرني؟
ـ يا بابا.. أنت مدير فرع شركة عربية في باريس، والشركة فتحت فرع هنا ليه.. ما هو علشان المصالح الاقتصادية. وفرنسا ما هي عضو في السوق الأوروبية المشتركة؟.. خلاص، افهموها.
وضع ((خالد)) خده على راحة يده يتأمل ابنه للحظات، ثم التفت إلى زوجته باندهاش:
ـ إنتي جبت هادا الجني من فين؟
ـ قالت: أنا عارفة؟.. منك طبعاً، والا يكون من خارج الزمن.. سبق عمره يعني.
ـ قال فارس: أنا ما كملت موضوعي.
ـ اتفضل أيها السيد الفهامة.
ـ شوف يا بابا.. نحن سئمنا من باريس.
ـ أحد يشعر بالملل في باريس يا غبي؟
ـ أنا وعهد خلاص، وصلت معانا، إنت يا بابا يمكن تحب باريس لأنك رجل.
ـ ما هو إنت ما شاء الله زي ما هو واضح.. رجل والرجال قليل.
ـ بس الدراسة هنا فظيعة. الناس. الكلام.. حتى الليل والنهار هنا ما نحبهم. بلدنا أحلى. هناك أصحابنا وأهلنا، والناس بيحبونا، والحر حلو جداً.
ـ وهنا فيه أحد بيكرهكم؟
ـ أيوه.. السوق الأوروبية المشتركة.
ـ يا دي السوق.. إنت من فين اتعلمت العبارة دي؟
ـ واحد عربي زميلي في المدرسة فهمني، وسمعتها من زمان في تلفزيون بلدنا.
ـ قال لك إيه زميلك؟
ـ قال: إن السوق الأوروبية المشتركة تاخذ فلوس العرب.
ـ كلام ما هو صحيح.. لأن السوق دي تعبانة بنفسها وبمشكلاتها.
ـ المهم.. المدرسة العربي اللي بنتعلم فيها.. بتعلمنا فرنسي، وكمان ما تخلينا نحب بلدنا، بس نحب فرنسا.
ـ وإيه كمان.. قول؟
ـ عهد بيعلِّمونا الرقص.. حصتين رقص في الأسبوع.
ـ قالت عهد: أرقص لك يا بابا.
ـ قال خالد: لأ يا حبيبتي.. أرقصي لأمك، والا بالمرة علميها.
ـ قالت إلهام: وأنا مالي لما تلمزني.. قلت لهم علِّموها الرقص؟!
ـ قال خالد: وإنت يا فارس زعلان علشان تطالب بالمساواة.. لازم يعلِّموك إنت كمان الرقص، والا إيه؟
ـ قال فارس: لأ يا بابا.. أنا أعرف أرقص!
انزوى ((خالد)) فوق الكرسي، داخل الصالة، يفكِّر.. شعر أنه مهموم جداً بعد الحوار الغريب والمثير مع طفليه.
لقد تعاقبت الأيام، وتكاد هذه الأسرة الصغيرة أن تكمل عاماً في باريس. مشوار.
أخذت ((إلهام)) مقعداً آخر وجلست بجانب زوجها، تسأله:
ـ بتفكر في إيه؟
ـ في انطباع الولد والبنت.
ـ تعرف يا خالد.. قبل يومين، جات ((عهد)) تبكي. ظنيت إنهم ضربوها في المدرسة، سألتها، وبعد ما تعبتني.. حكت لي سبب بكائها. قالت: لها زميلة عربية في المدرسة من لبنان. كل يوم تشوفها ((عهد)) وتلاحظ عليها أنها تبكي. عقدت صداقة مع البنت. سألتها عهد في يوم: إنت تبكي علشان ما عندك فلوس؟ ردَّت عليها البنت وقالت: لأ.. ما هو علشان هيك. سألتها عهد: طيب.. بتبكي كل يوم الصباح ليه؟ قالت لها البنت: علشان بابا وماما ماتوا في حرب لبنان.
ـ قال خالد: طيب والبنت جالسة مع مين في باريس؟
ـ قالت لعهد: إن خالها أساساً عايش في باريس، ولما ماتوا أهلها، وعرف خالها سأل عن بنت أخته، وبعد ما تعب.. لقيها عند الصليب الأحمر، وسلموه البنت.
ـ قال خالد: علشان كده رجعت عهد تبكي؟
ـ علشان البنت اللبنانية حكت لعهد كيف قتلوا أمها وأبيها قدام عينها، وكيف اتشردت، وكانت تمشي تحت الرصاص والموت.
ـ يا ساتر.. مآساة.
يمكن المأساة تنتهي بالنسبة للكبار، حتى بالنسبة للناس اللي فقدوا بيوتهم، أو حتى أهلهم وثروتهم.. إنما الكارثة الأكبر لما طفلة صغيرة زي دي تفقد أمها وأبوها في لحظة واحدة، وتشوفهم يقتلوا قدامها.
ـ بس يا ((إلهام)).. كفاية أرجوك.
ـ لكن اللي مجنني.. كيف الولد فارس عرف إيه السوق الأوروبية المشتركة؟
ـ لما كنت آخذه إلى غرفته علشان ينام، أعدت السؤال عليه. تعرفي جاوب بإيه؟.. قال: السوق الأوروبية المشتركة بتدفع لإسرائيل.
ـ ضحكت ((إلهام)). قالت لزوجها:
ـ ولا أكبر المحلِّلين السياسيين اللي ما هم فاهمين يقولوا الكلام ده!
ـ قال خالد: أعرف أن اللي في سن ((فارس)) يهتموا بأشياء أخرى كل قد سنهم، لكن الولد ده.. طير برج من عقلي. ما شاء الله.
ـ قالت: أيوه قول ما شاء الله.. حتى لو كان بيقول معلومات خطأ، أو مضحكة، إنما كونه يفكر في السوق المشتركة مثلاً.. هذا لوحده شيء مثير!
ـ قرأت مرة لعالم اجتماع ونفس عربي، بيقول في بحثه: إن الطفل القادم.. طفل ذكي، لأن وسائل المعرفة والإعلام منتشرة، ولأن مستوى الآباء والأمهات التعليمي والثقافي ارتفع في كل المنطقة برغم أن العالم المتحضر بيعتبرنا شعوب نامية.
ـ لكن هناك ضرائب أخرى، أو يمكن أسميها ((التسيب)).. لأن الآباء والأمهات، خاصة في مجتمعاتنا، أخذوا يهملون رعاية أطفالهم، وتوجيههم، والمشكلة في حد ذاتها خطيرة.
ـ صحيح.. لكن الطفل بينطلق مع وسائل المعرفة والإعلام.. أي بيت الآن فيه تلفزيون، وكثير من البيوت فيها فيديو، ومجلات.
ـ هذا لا يكفي.. من الممكن أن يحدث العكس. لكن.. الأهم هو التوجيه الأسري.
ـ طيب.. قولي لنفسك؟
ـ رجعنا للاستفزاز؟.. أنا ما قصرت مع فارس ولا مع عهد.هناك أيضاً المجتمع المفتوح: المدرسة، الرحلات أو السفر، اختلاف البيئة للأصدقاء وزملاء الدراسة.
ـ إنت درست ((الفنون الجميلة)) والا درست علم الاجتماع؟!
ـ لازم الأم تقرأ، وعلى فكرة.. الأم لا تقرأ من أجل تربية أطفالها فقط، لا.. وإنما من أجل...
ـ قاطعها: عارف.. من أجل تربية زوجها أيضاً!
ـ أحبك يا انتهازي!
ـ تحبيني في ((الصالة)) أو في الصالون فقط.. ها؟!
ـ في الصالة، وفي الصالون، وفي العمل، وفي السيارة، و...... آه، فهمت قصدك! تصبح على خير يا سيدي الفايق.. رايحة أنام وتعبانة، فأنا ورايا مدرسة في الصباح وتعلم لغة فرنسية. خليك في الصالة.. تتأمَّل اللوحات الجميلة اللي على الجدار!
ـ معقول؟.. أتأمل لوحة صماء على الجدار، ومعي لوحة متحركة، دافئة، كلها حيوية؟!
ـ معقول جداً.. حتى إشعار آخر!
ـ وفي باريس كمان؟
ـ قصدك إيه؟
ـ لأ.. ولا حاجة. معقول جداً، حتى إشعار آخر... بعد لحظات!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1042  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 97 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج