شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصغار...يسبقون الزمن!
دخل ((فارس)) إلى غرفة الجلوس.. حيث أمه ووالده، والعبوس يطفح على وجهه.
كان يبدو أيضاً مكتئباً.. لا يرغب في الكلام مع أحد، وهو الذي يملأ البيت دوماً بضجيجه، وبتعليقاته، وباستفزازاته أحياناً. تطلعت ((إلهام)) إلى وجه زوجها، كأنها تسأله عن تبدل حال ((فارس))؟!
نظر ((خالد)) إلى زوجته، وهو يمط شفتيه.. يجيبها بصمت:
لا أعرف.
ـ سألت إلهام إبنها: مالك مبوِّز؟!
ـ قال فارس: خلاص.. أنا طقيت من باريس، بدي أرجع لبلدي، أروح عند جدتي وجدو.
ـ سأله والده: ليه.. حصل إيه؟!
ـ أجاب فارس: كده.. علشان وحشوني كلهم.
دخلت ((عهد)) تتراقص، وتتقافز، وهي تشير إلى أخيها ((فارس)) وتضحك.
ـ قالت إلهام لزوجها: عجيب!.. واحد مكشر، والثانية تضحك.. لازم هناك سر!
سأل ((خالد)) ابنته التي واصلت الضحك، بينما ((فارس)) يرمقها شزراً.
ـ قالت ((عهد)): أصل ((فارس)) يا بابا......
ـ قاطعها فارس قائلاً: والله أضربك.
ـ سألت ((إلهام)) ابنتها عن الحكاية. روت ((عهد)) لأمها ما حدث. قالت:
ـ فارس يا ماما ما بيذاكر. بس.. ضربوه اليوم في المدرسة.
انفجر ((فارس)) يبكي.
تساءلت ((إلهام)) بدهشة موجهة إلى زوجها:
ـ غريبة!.. همّ في فرنسا بيضربوا الأطفال كمان؟
ردت ((عهد)) قبل أن يجيب والدها:
ـ إيوه يا ماما.. عندنا مدرّسة تعلّمنا الفرنساوي، ولمّا ما عرف ((فارس)) ينطق ضربته.
ـ سأله والده: وليه يا فارس ما تذاكر؟!
ـ قال فارس: الابله دي يا بابا بتكره العرب!
ـ سأله خالد: أولاً.. دي مدرسة لأبناء العرب، والعرب هم اللي شغلوا ((الابله)) دي، فكيف تكرهك؟!
ـ أجاب فارس: كل الأطفال اللي في المدرسة عرب، لكن هادي ((الابله)) تدخل منرفزة دايماً، وتتكلم بالفرنساوي، والله أعلم كأنها تشتمنا.
ـ قالت إلهام: هيا بلا كذب.. دكي الإنسانية واحدة، والأبله أم قبل كل حاجة، ولا بد أنها خائفة على مستقبلك!
ـ قال فارس: دي بتتكلم عربي مكسركمان، وتقول: الطفل العربي اتعود على الضرب، ولازم أعلمكم بالضرب!
صمت الجميع برهة، ثم كسر جدار الصمت هذا صوت ((إلهام)) يسأل زوجها:
ـ إنت ساكت ليه.. مالك رأي؟!
ـ ساكت لأني لازم أسمع كلام الطرف الآخر.
ـ يعني تروح للمدرسة، وتفهم اللي حصل؟
ـ أروح.. إنما لو كان ((فارس)) ما بيستوعب دروسه، ولا يذاكر.. تبقى مشكلة ((فارس)).
ـ قال فارس: والله بانتبه للدرس، وبأذاكر.. إنما ((الأبله)) دي قاصدتني أنا بالذات. ليه؟.. ما أعرف، حتى أسألوا اللي معايا في الفصل.
التفتت ((إلهام)) نحو زوجها، وقالت:
ـ اتفضل.. المشكلة الأولى.
ـ ولا مشكلة ولا حاجة.. يعني في المدارس العربية بنسمع إن المدرس العربي يضرب الطالب، والطفل بالذات بالعصا وبالمسطرة بشدة، مع أن النظام في المدارس يمنع الضرب.
ـ الغريبة إننا في فرنسا، ولازم ((الابله)) دي تعرف أصول التربية الحديثة، لأنها في بلد متقدم جداً!
ـ يمكن ((الأبله)) معقدة من شيء.. ولا تنسي إن الطفل العربي عفريت، وكثير الحركة، و.......
ـ قاطعته: قول كمان.. ومشاغب، لكن المشكلة ماهي هنا، المشكلة إننا نشهد موجة من الكراهية والحقد على العرب في كل مكان نروح له في الغرب. يعني على سبيل المثال: قبل يومين، وأنا خارجة من المعهد اللي باتعلم فيه اللغة الفرنسية.. كنت ماشية مع شاب عربي، زميلي في الفصل، و.......
ـ قاطعها: إنت قلت إيه؟!
ـ زي ما سمعت.. إيه، فيه غلط؟!
ـ مين الشاب العربي اللي كنت ماشية معاه؟!
ـ قاسم... شاب جاء من الخليج علشان يدرس الفرنسية، ومقعده بجانب مقعدي في الفصل.
ـ ماشاء الله.. صداقة يعني.. والا راح يصبح قاسم مشترك أعظم؟!
ـ صداقة.. زمالة. الشاب مؤدب، وأخلاقه عالية. خليني أكمل لك الحكاية، وبعدين يا سيدي...
وشرد ذهن ((خالد)) بعيداً، وهو يضغط على شفتيه، دون أن يستمع إلى الحكاية التي استمرت زوجته في سرد تفاصيلها، لتؤكِّد وجود موجة عداء ضد العرب!
فاض وجه ((خالد)) بالتوتر والانفعال. قام من مجلسه وما زالت زوجته تحكي.
لاحظت ((إلهام)) تبدل وجه زوجها. لحقت به إلى غرفة النوم، تسأله:
ـ إنت اتغيرت فجأة ليه؟
ـ اسألي روحك!
ـ أنا قلت حاجة غلط؟
ـ إنت ما قلت وبس.. ومن متى ما شاء الله بدأت صداقتك مع السيد قاسم؟!
نظرت ((إلهام)) إلى زوجها بعتب، وقد فهمت سبب ثورته وحدته. قالت:
ـ من يوم ما دخلت المعهد. الشَّاب ما عمل حاجة غلط، مجرد زميل على مقعد الدراسة بجانبي.
ـ والخروج من المعهد، ولا بد تتمشوا شوية، ويمكن رحتوا كافيتريا، أو فندق.
ـ خالد.. ليه بتتكلم بالطريقة دي؟
ـ أجل أتكلم بأية طريقة.. أصفِّق لك، وأقول: برافو؟
ـ بس أنا ما عملت حاجة غلط؟
ـ انتظر يعني حتى يحدث الغلط؟.. وأقول بتتأخري ليه أحياناً!
ـ لكن أنا ما عمري أتأخرت إلَّا مرة واحدة، وبعدين إنت ما تعرف لأنك في عملك، والَّا موظف جواسيس عليَّ؟!
ـ طبعاً.. راح تقلبي الموضوع لصالحك، وأطلع أنا الغلطان في النهاية.
ـ أنا يا ((خالد)) عمري ما اتمشيت مع الشاب، ولا رحت معاه مكان. عيب. أنا متزوجة وأم.. وبعدين.. أنا متربية، وديني يمنعني من الغلط، وفوق كل الأشياء دي أنا باحبك إنت لوحدك.
ـ إذن.. إيه حكاية سي ((قاسم))؟
ـ أبداً.. مفيش حكاية ولا رواية. بعدين إحنا في فرنسا، وأسلوبك هذا بيجعل الحياة جحيم إذا استمرينا كده.
ـ عجيب.. معنى إننا في فرنسا يعطيكي الحق إنك تتمشي مع شاب غريب، وتحكي له، ويحكي لك. وبعد شوية يصير استلطاف، وما نعرف إيه النهاية!؟
ـ يعني إنت يا منضبط اللي ماشي على الصراط. أنا ما أعرف إنت بتعمل إيه، ما هو البنات هنا زي الرز، أكتر من الهم على القلب، وأكتر من عدد الرجال. حاسبتك أنا؟!
ـ والله عال.. ولو افترضنا إني عملت اللي بتفكري فيه.. هل تقارنيه بنفس العمل من الزوجة؟!
ـ سبحان الله.. ليه إنتو يا رجال تعطوا نفسكم الحق لإباحة أشياء كثيرة تحرموها على المرأة؟!
ـ لأن المرأة كنز.. لأنها شرف، وقيمة؟
ـ لكن هذا اضطهاد، وأنانية.
ـ اضطهاد لأني أخاف عليكي؟.. المرأة عاطفية أكثر من الرجل ومن الممكن أن تنخدع بكلام معسول منمّق من رجل لا يريد منها سوى لحظة متعة وبس!
ـ لكن أنا ما عملت كده. إيه.. جريمة إني أتكلم مع شاب يا راجل يا متعلِّم، ياللي عايش في باريس؟
ـ أنا حتى لو كنت عايش في جزيرة عراة.. عندي قيم وأخلاق ودين. خلاص كفاية كلام.
قفز ((خالد)) إلى ملابسه، وارتداها بسرعة، وخرج يصفق باب البيت هائجاً.
دخل ((فارس)) إلى أمه في غرفتها، وقد رآها تبكي. جلس بجانبها يربت عليها.
احتضنته، وصوت نحيبها يعلو أكثر.
سألها ((فارس)) وهي تمسح دموعها:
ـ إنت صحيح يا ماما بتعرفي راجل تاني غير بابا؟!
كان سؤاله مباشراً بلا تنمق، وعفوياً بلا ضوابط، فهو قد استمع إلى جدال أبيه مع أمه من وراء الباب، بعد أن ارتفع صوتاهما إلى أرجاء البيت كله.
ـ قالت أمه: لأ يا حبيبي.. والله حتى لقبه ما أعرفه.
ـ قال فارس: انتو بتتخانقوا حتى في باريس؟
ـ قالت: قول لوالدك. بخون، متهور.
ـ قال فارس: طيب ولما تزعلي هنا تروحي على فين.. بيت جدو بعيد جداً، يحتاج طائرة!
ـ قالت: ربنا معانا. أبوك طيب، إنما عصبي وأحمق.
ـ قال فارس: أحمق يعني إيه؟!
جاءت ((عهد)) تتسلل من باب الغرفة، وهي تخاطب ((فارس)) بحركات لا تريد أن تراها أمها. و((فارس)) يسألها بحركة يده عن ما تريده.
لم يفهم ((فارس)) شيئاً من حركات رأس ويد أخته ((عهد)).
قام باتجاهها، وسحبها إلى خارج الغرفة.. يسألها عن الخبر.
ـ قالت عهد هامسة: بابا في غرفتنا.
ـ قال لها فارس بحدة: أنا عارف هم بيخلفونا ليه؟!
ذهبا معاً إلى والدهما. كان يجلس على حافة سرير ((فارس)) وهو يدخِّن بعصبية. اقترب منه ((فارس)) وطوق رأسه بذراعيه الصغيرتين. قال له:
ـ روق يا سيد. آخر زمن.. الأطفال يحلوا مشاكل الكبار!
ابتسم ((خالد)) لطول لسان ابنه، احتضنه، وسأله هامساً:
أمك فين؟!
ـ قال فارس: تركتها تنشِّف الدمعة الأخيرة. قوم صالحها.
ـ قال خالد: بالبساطة دي؟!
ـ قال فارس: معليش.. نحن الرجال نتحمل، وإنت المخطئ.
ـ قال خالد لأبنه النصف شبر: أنا المخطئ؟!
ـ قال فارس ضاحكاً: خلاص يا سيد، مفيش هنا لا جدو ولا ((تيزه)). صلي على النبي وقوم!
إنطلق ((فارس)) نحو غرفة النوم يسبقه صوته وضجيجه.. ينادي على أمه:
ـ ماما.. ماما. الرجال يعتذرون.
نظرت ((إلهام)) إلى ابنها ((فارس)) مندهشة من ضجيجه، وقد تركها قبل لحظات على وجهه تعبيرات الحزن.
ـ قال لها: خلاص.. لما يعتذر الرجال، لازم النساء تسامح!
ـ إنت قصدك إيه.. بتتكلم عن إيه؟!
ـ قصدي أخلصك من البكاء. وجايب معايا راجل طويل عريض يمسح دموعك.
ـ أنا ما بدي أشوف أحد. إنت كمان إطلع بره.. بره.
خرج ((فارس)) إلى ما وراء باب الغرفة، حيث كان والده يقف منتظراً. تطلّع إلى أبيه قائلاً:
ـ عاجبك كده.. لازم تهزأونا يعني؟
سحبه والده من يده إلى غرفته. قال له:
ـ إنت معجب بشخصية ((عادل إمام)) ليه؟
ـ نحن في شخصية عادل إمام، وإلا في أزمة الشرق الأوسط..
ما هو إنت وماما، كأنكم أكبر من هادي الأزمة اللي دوشنا التلفزيون بها، ودوشتنا الصحف والمجلات.
ـ إنت بتشوف وبتقرا يا مفعوص كمان والسياسة؟
ـ سياسة إيه ياسي بابا.. ده العالم العربي كله يفطر سياسة، ويتغدَّى ويتعشّى سياسة.. لما هلكونا.
ـ وإنت محتج على إيه يا أستاذ فارس؟!
ـ أنا محتج على إهمالكم للأطفال. الأب والأم بيهملوا أطفالهم في البيت.. إما مشغولين، وإما متخاصمين. والدول بتهمل أطفال شعوبها، لأنها مشغولة بالسياسة، وبإسرائيل، وبالسلاح!
ـ وإنت إيه اللي عرفك كل الأشياء دي؟!
ـ قصدك إني طفل صغير ما أفهم؟!
ـ بالضبط يا حصيف!
ـ أنا صحيح هنا في فرنسا ما أعرف اللغة الفرنسية، لكني أفهم من التلفزيون، من الصور يعني.
ـ تفهم إيه!.. هنا ما يتكلموا عن العرب أبداً، ولا عن اليهود، ولو اتكلموا إيه اللي يفهمك؟
ـ شفت أنا أخدتك لموضوع تاني كيف؟!
ـ تقصد إيه؟!
ـ أقصد إننا في المدرسة، مع زملائي العرب يعني، بنتكلم عن بلادنا.
ـ بيقولوا إيه؟!
ـ فيه أولاد لهم فترة هنا، وبيعرفوا فرنساوي، ومع معاشرتهم لأهل البلد هنا عرفوا أشياء كثيرة!
ـ ما شاء الله.. أنا اللي اسمي كبير، ما عملت كل العلاقات دي!
ـ لأنك مشغول في عملك، والأطفال أجرأ من الكبار، ويمكن مشغول في حاجة تانية!
ـ تانية يعني إيه؟!
ـ افهموها يا آباء!.. وكمان تزعِّل ماما؟!
ـ يا ولد... والله لأربيك.
جرى ((فارس)) بعيداً عن متناول يد أبيه وهو يضحك، وأقفل الباب عليه، وذهب إلى حيث تجلس أمه مهمومة.
ـ قال لأمه: خلاص يا ماما.. لقد نجح ابنك فجعل ((الجبلاوي)) يضحك!
ـ سألته أمه: مين الجبلاوي ده؟!
ـ قال: السيد المحترم بابا.. لما يزعل يتحول إلى ((جبلاوي))!
ـ قالت: جبلاوي إيه.. من فين أخذت الاسم؟!
ـ قال: من فيلم.. شفت البطل فيه راجل طويل عريض، يشخط في مراته، وفي الناس اللي حواليه. سموه: ((الجبلاوي)).
ـ قالت: طيب تعرف سموه الجبلاوي ليه؟!
ـ قال: أنا عارف... يمكن من الجبل، لأنه قاسي وما ينهز!
ـ قالت: برافو.. والجبلاوي ما خرج من البيت؟!
ـ قال: خرج نص ساعة ورجع. ما قدر على فراقك يا حسرة!
ـ قالت: يا ولد يا لمض.. وجالس فين؟!
ـ قال: جبناه إلى هنا.. رفضت شهرزاد!
ـ قالت: مين شهرزاد؟!
قال: حضرتك.
ـ قالت: هو أبوك جاء إلى هنا؟!
ـ قال: نعم.. وكان بدو يدخل يصالحك. سمعك تصرخي وترفضي،، ثارت رجولته. رجع إلى قواعده رجلاً!
ـ طيب روح جيبه!
ـ يحنِّن!
ـ إيه؟.. أما قليل أدب.
ـ المرة الأولى وافق. المرة الثانية أنا ما أوافق.
ـ ليه يا حبيبي؟!
ـ كده. غلاسه. تضامن رجالي!
ـ امشي اطلع بره.. قليل الأدب!
أخذ ((فارس)) أخته إلى غرفة ثالثة. طلب منها أن يلعبا معاً، ويتركا أمهما في غرفتها، ووالدهما في الغرفة الأخرى.
ـ قالت عهد: لمتى يجلسوا متخاصمين؟!
ـ قال فارس: ما أدري.. يمكن إلى الليل.
ـ ومين يعشينا؟!
ـ نروح المطبخ، وناكل.
ـ أنا جوعانة. وإنت يا فارس؟
ـ وأنا نفسي مسدودة.. بيت غم، أعوذ بالله!
ـ ما تجي نصالحهم علشان يعشونا؟
ـ لا.. الموضوع معقد.
ـ معقد يعني إيه.. بابا ضرب ماما؟!
ـ يا عبيطة.. أكتر. إنت إيه اللي يعرفك؟
ـ ليه؟.. أنا بافهم أحسن منك.. أنا كبرت.
ـ ما هو كل ما كبر الإنسان يصير ما يفهم!
ـ يعني الصغار بيفهموا أكتر وأحسن؟
ـ يعني لو كان الكبار بيفهموا يختلفوا دائماً ليه؟!
ـ لا يا سيدي.. خلِّيني صغيرة أحسن!
دخل عليهما والدهما، متسائلاً:
ـ إنتو بتعملوا إيه؟
ـ أجابه فارس: نحن مخاصمينك !
ـ قال والده: طيب قوم صالحني على أمك.
ـ قالت عهد: مالنا دخل.. روح صالحها إنت.
ـ قال والدها: حتى إنت يا زهرة يا جميلة؟
ـ وعاد ((خالد)) إلى غرفة ((العزل)) وحده.. يفكِّر: هل أخطأ مع زوجته، أم كان محقاً في ثورته؟!
ستكون الحياة صعبة في هذه الأجواء.. لكنه رضي بهذه الوظيفة من أجل زوجته ليخرجها من مللها، ويمنحها فرصة تنشغل فيها عن التفكير في الوظيفة والعمل. وها هو يصطدم هنا بمشكلة أكثر صعوبة وإحراجاً.
. ـ سأل نفسه: ألا تثق بزوجتك؟!
ـ أجاب: كل الثقة. ولكن... من يدري ماذا تحمل الأيام؟.. إن عاطفة المرأة رقيقة، خاصة الشرقية، والتي لم تختلط كثيراً بمثل هذه المجتمعات المنفتحة على كل شيء.. المعيار الوحيد فيها لقدرة النفس على الصمود.
كان لا بد أن يثور إذن في هذا الموقف، بل ويصعِّد غضبه ليمنع تجاوزات قادمة قد تحدث عفوية، ثم تسقط زوجته في براثنها.
ـ إذن؟!
انه لن يذهب إليها ليصالحها.. فلا بد أن تشعر أنها أخطأت.
ـ ولكنها لم ترتكب شيئاً مشيناً.. مجرد حديث عابر.
حدث نفسه بهذه الخواطر والتصورات. أشعل سيجارة عاشرة وهو يحس أن صدره أصبح يؤلمه من كثافة هذا ((النيكوتين)) الذي يحرق جوفه.
لقد هدأ، ولكن هذا الموقف لا ينبغي له أن يهدأ ببساطة.
تطلع إلى مرآة الحائط. تذكَّر أنه لم يخلع ملابسه، فقام إلى الباب، وخرج مرة ثانية.
سمعت ((إلهام)) صوت باب الشقة يقفل. قامت من مكانها تفتِّش عن ((خالد)) وعن طفليها. سمعتهما يضحكان من وراء باب الغرفة. أطلَّت عليهما متسائلة:
ـ راخ فين أبوكم؟!
ـ قال فارس: يبحث عن شقراء!
زجرته أمه. سألت ((عهد)) من جديد. أجابتها:
ـ زعلان من السمراء!
ـ قالت: إنتو كلكم ضدي. روحوا كلكم في ستين داهية! صفقت ((إلهام)) باب غرفتها، اتجهت إلى المطبخ لتحضر طعام العشاء حتى ينام فارس وعهد.
اقترب ((فارس)) من أمه حين وقوفها وسط المطبخ. قال لها:
ـ نحن اتخاصمنا مع بابا علشانك.. تزعلي ليه؟!
ـ لأنه عيب.. الأطفال ما يخاصموا أبوهم ولا أمهم.
ـ لكنه زعلك؟
ـ ده شيء بيني وبينه. فين النص شبر الثانية اللي قالت إنها جوعانة؟
ـ في الغرفة... مضربة عن الطعام!
ـ إنت بتقول إيه.. ألاقيها من السيد والدكم، والا منكم؟!
ـ خلاص.. ننتظر الجبلاوي لما يرجع، و((عهد)) تنهي إضرابها عن الطعام.
ـ وإنت يا مخطِّط؟
ـ شرحه!
ـ شرحه يعني إيه؟
ـ يعني متضامن مع حزب المعارضة.
ـ الله.. الله، والله لأضربك انت واللي ما تتسمى!
ـ لأ.. دي اسمها ديكتاتورية، وحكم القوي!
ـ يا ولد.. تعال هنا، أنا بدي أعرف اتعلمت هادا كله فين، وكيف؟!
ـ اتعلمناه وخلاص.. الصغار يسبقون الزمن يا ست ماما!
ـ حتى دي كبيرة عليك.. تكون من الأقزام وعمرك في بطنك؟!
ـ ايش عرفني إسألي نفسك؟!
وركض من أمامها يضحك، بعد أن أثارها.. بينما واصلت تحضيرها لطعام العشاء في إنتظار عودة زوجها!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1085  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 95 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج