شيء آخر! |
تعبير مزدوج لمحته ((إلهام)) على وجه زوجها! |
لم تستطع أن تحدِّد من ملامحه، حين عاد إليها بعد الظهر، إن كان هذا الوجه يفيض رضا، وحبوراً، وهو يدخل إليها بهذه الابتسامة.. أم أن هذا الوجه يكثِّف أحزان النفس، ولكنه يداريها بابتسامة.. يكاد لونها يبدو باهتاً إلى حد ما!؟ |
احتارت ((إلهام)) وهي تستقبل زوجها عائداً من عمله.. هل تسأله عن ((المفاجأة)) التي وعدها بها.. هل تفهمه أنها تلاحظ تموج تعبير وجهه.. هل تبدأ الكلام، أم تدعه هو الذي يبدأ؟! |
تركته يبدِّل ملابسه، ومعه ابنتهما ((عهد)) تحاول أن تدخل يدها إلى جيوب ثوب أبيها تبحث عن شيء! |
دخلت إلى المطبخ، وأعدَّت الغداء، وعلى المائدة لم يترك ((فارس)) لهما فرصة الكلام.. إنه يلح هذا اليوم كثيراً على المدرسة. إنه لا يريد أن يبقى في مدرسته الحالية. وحين سأله والده: لماذا ترفض البقاء فيها؟ |
ـ أجابه: عندنا أستاذ هلكني كل يوم، وهو يطلب مني أن أتوسط له عندك لتشغله في الشركة بعد الظهر. لما تأكد من عدم النتيجة أصبح يضطهدني. |
ـ طيب.. روح لمدير المدرسة واشتكي المدرِّس! |
ـ رحت.. مدير المدرسة غائب.. يحضر ساعة واحدة وبعدين فص ملح وداب. |
ـ بيروح فين؟ |
ـ يقول هو إنه يروح لإدارة التعليم، والمدرسين يقولوا عنه إنه مقاول! |
ضحكت الأسرة كلها حول مائدة الطعام، ماعدا ((عهد)).. كانت تبدو شاردة البال، تضع خدَّها على كف يدها. هزتها أمها متسائلة: |
ـ هيه.. إنت، مالك.. سرحانة في إيه، لسه بدري على العريس؟! |
التفتت ((عهد)) إلى أسرتها. ابتسمت، ثم قالت لأمها: |
ـ نظام إيه ده.. مدرسة، وكتب، والبابا مدير، وانت ماما، كل يوم ماما، وبابا كل يوم هو بابا. |
ـ سألها والدها: وإنت رأيك إيه.. بتطالبي بإيه؟! |
ـ أجابت عهد: يعني... بلاش مدرسة. بلاش تروح العمل إنت يا بابا.كمان ماما بتعاملني زي طفلة، مع إني عندي أربع سنوات! |
ـ قال لها والدها: لما ما أحد يروح المدرسة، ما فيش حد يتعلم ويفهم، ولما ما أروح العمل ما فيش فلوس، ولما.... |
تدخل ((فارس)) في النِّقاش، قافزاً أمام والده، وهو يقول: |
ـ بنات آخر زمن.. بدها كل يوم فستان وعشرين مراية! |
جرت ((عهد)) نحو أخيها بقامتها الصغيرة، وهو يركض أمامها ضاحكاً، وتفرقت الأسرة الصغيرة. بعد انتهاء تناول الغداء. ((فارس)) أدخل شريط ((فيديو)) في الجهاز، وانبطح على صدره ورفع قدميه خلفه إلى الأعلى، واندمج في مشاهدة الفيلم.. بينما اتخذت ((عهد)) ركناً محبباً إليها في غرفتها وقد وضعت في حجرها عروستها اللعبة تمشط لها شعرها. وهدأت حركة البيت الصغير إلَّا من أصوات أطباق الأكل المنبعثة من. المطبخ، وقد استغرقت الخادمة في غسلها وتنظيف أدوات المطبخ. |
استلقت ((إلهام)) فوق السرير بجانب زوجها، صامتة، تنتظره أن يبدأ الكلام ليعلن عن المفاجأة وهي تشعره أنها لا تهتم كثيراً بمعرفتها، ولكنها في داخلها قلقة. |
وطال الصمت.. و((خالد)) يمسك بصحيفة يومية يتصفحها بلا مبالاة. لم تحتمل ((إلهام)) مرور الدقائق، ولا حتى الثواني. سألته في الصمت المنتشر: |
ـ يعني لازم أسألك، والا أنت أجَّلت موعد إعلان المفاجأة؟! |
ـ لا كده ولا كده.. الموضوع باختصار.... |
صمت قليلاً وهي ترتقب بأعصابها، ثم ابتسم قائلاً: |
ـ في الأول.. ما رأيك لو تركنا بلدنا، وسافرنا إلى بلد آخر لنعيش فيه؟ |
تلقت السؤال كالرمح المفاجئ. أخذت تتطلع إلى وجه زوجها، ثم سألته: |
ـ تقصد إيه بالضبط؟.. بلاش ألغاز! |
ـ جاوبي على سؤالي في الأول. |
ـ يعني... أعرف الأسباب. اقتنع بمعقوليتها، أو على الأقل بضرورتها! |
ـ إيه رأيك لو نعيش في باريس؟! |
ـ باريس دفعة واحدة.. ليه، نزلت عليك ثروة؟! |
ـ لا.. ظروف! |
ـ طيب.. قول في ((كان)) أو في ((نيس)) إسمنا بنقلد الكبار! |
ـ أنا ما بأمزح من فضلك.. باتكلم جد. |
ـ طيب ليه.. السبب.. التفاصيل.. الدواعي؟! |
ـ باختصار.. شركتنا قرَّرت افتتاح فرع في باريس، واختاروني مديراً للفرع! |
مفاجأة... دار لها رأس ((إلهام))، ولم تعد تدري ما تقول! |
خيل إليها أن نفس التعبير المزدوج الذي لمحته على وجه زوجها حين دخوله إلى البيت، قد انتقل إلى ملامح وجهها. ليت مرآة كانت أمامها لترى وجهها المتموه ما بين الرضا والحزن. |
جاءها صوت زوجها.. كأنه يصعد إلى سمعها من قرارة بئر، وهو يسألها: |
ـ رأيك إيه.. مبسوطة، والا عندك كلام تاني؟! |
ـ قالت: ما أدري.. يمكن أكون مبسوطة، لأننا ننطلق إلى حياة مفتوحة، وإلى بلد حضاري.. لكني لازم أشعر بالحزن. |
ـ سألها: ليه الحزن؟! |
ـ قالت: لا بد أن يحزن الواحد لما يفارق بلده، وأهله، وذكرياته! |
ـ قال: لكن إنت كنت متضايقة، وبتشتكي من الملل والوحدة والحبس في البيت.. جاتك الفرصة الآن، فكيف تحزني؟! |
ـ قالت: لا أدري.. خايفة أفقدك هناك. |
ـ قال ضاحكاً: لأ.. دي إطمئني فيها.. أبصم لك بالعشرة إني باحبك وما أستغني عنك! |
ـ قالت: أعرف.. حب البيت غير، وعبث الحرية شيء آخر. |
ـ قال مندهشاً: لأول مرة أعرف أن في الحرية عبثاً! |
ـ قالت: الحرية إذا ما رشَّدناها، وألزمناها بالسلوك وبالعرف وبالمباديء، تتحول إلى عبث! |
ـ قال: أحب الفلسفة الحريمي! |
ـ قالت: مفيش فلسفة حريمي، ورجالي.. بلاش السخرية، أنا بأتكلم بجد. |
ـ قال: طيب، ومالك حزينة كده، كنت متوقع إنك تفرحي وترقصي.. خصوصاً وأنت امرأة تحب الانطلاق!! |
ـ قالت: أنا أحب الانطلاق، لا العبث! |
ـ قال: ومين قال عبث؟! |
ـ قالت: أفهم ما ترمي إليه. على أي حال، مبروك! |
ـ قال: وليه بتقوليها بحزن؟.. يمكن تلاقي وظيفة هناك !! |
ـ قالت: أعرف أنك تهزأ بي.. أنا أردت أن أعمل في بلدي. |
ـ قال: تعملي إيه.. مهندسة ديكور، دا منطق والا فاصوليا؟! |
ـ قالت: خلاص يا خالد.. يبدو إننا مختلفين في فهم النقطة دي بالذات. على أي حال.. هناك نقطة أهم الآن في خط حياتك الجديد. |
ـ قال بتوجس: إيه.. ناوية على إيه؟! |
ـ قالت: أبداً.. لا تخاف. بس خلِّينا نتناقش بموضوعية.. |
ـ قال: نتناقش.. من فين نبدأ؟! |
ـ قالت: ما هي مبارزة يا خالد، ولكن.. أولاً، أنت فكرت في دراسة ((فارس)) و((عهد))؟! |
ـ قال: يا ستي.. ((عهد)) لسه صغيرة، ويمكن ندخِّلها هناك روضة. |
ـ قالت: روضة بالفرنساوي؟.. طيب و ((فارس))؟! |
ـ قال: توجد مدرسة لأبناء الجالية العربية، وبرضه يتعلم فرنسي. |
لفهما صمت طويل.. كل واحد منهما يتطلع الى وجه الآخر. أغمضت ((إلهام)) عينيها لكنها متيقظة. |
ـ سألها خالد: بتفكري في إيه؟! |
ـ أنت يا خالد ما بتتكلم فرنسي.. كيف تشتغل إذن في باريس؟! |
ـ بسيطة.. أنا أتكلم اللغة الإنجليزية، ووجودي في فرنسا يمكنني خلال شهور من تعلم اللغة الفرنسية.. لا تخافي، زوجك لبلب! |
ـ وأنا يا خالد؟! |
ـ أنت تدرسي اللغة الفرنسية، وإن أردت تتعاوني مع مؤسسة للديكور! |
ـ إنت بتمزح أكيد!.. بعدين الديكور هناك في كل مكان، يمكن حياتهم مليئة بالديكور، أو بالمظاهر، لكن.... |
ـ لكن إيه؟! |
ـ الأعماق.. داخل الإنسان؟! |
ـ سؤالك، ولا بد تضعي إجابة عنه، لكن ((الإنسان)) الطبيعي موجود في كل مكان، حتى في أدغال أفريقيا.. سلوك الخير والشر.. عاطفة الحب والكراهية. بعدين إحنا رايحين بلد الثقافة والفنون! |
ـ كنت أفضل لو كلفوك بإدارة فرع في بلد عربي.. علشان ما يصير الاختلاف شاسع. |
ـ إنت متشائمة ليه؟! |
ـ لا أدري.. يمكن ما هو تشاؤم، بقدر ما هو خوف! |
ـ خوف ليه، ومن إيه؟! |
ـ برضه ما أدري. المهم.. الله يستر. |
ـ تحبي تجلسي؟ هنا في بلدنا، وأنا أتردد عليكم؟! |
ـ أيوه.. علشان ما عاد نشوفك أبداً. |
ـ بدي أعرف.. ليه المرأة في غيرتها على الرجل اللي بتحبه تصبح محدودة، أو أسيرة لهاجس خيانة الرجل لها؟! |
ـ دا يا حبيبي ما هو هاجس، ولا أسر.. دي حقيقة، فالرجل ضعيف أمام المرأة الجميلة، وانزلاقه سهل جداً! |
ـ خطأ.. الرجل إذا أحب امرأة بعينها.. يخلص لها، المهم أن يحبها وتحبه. |
ـ (ضاحكة): وتحب ناقتها بعيري!.. دي عهود قديمة، ومنقرضة.. خصوصاً بعد أن أصبحت المرأة في العالم الغربي مباحة! |
ـ لكن.. أنا شخصياً باحبك فعلاً، ليه- إذن- أعبث.. خصوصاً إنك بتعطيني الحب والحنان وحتى الجنون أيضاً! |
ـ حبي لك.. يخليني أخاف. أعذرني! |
ـ وحبي لك.. ما يخليكي تثقي؟! |
ـ خلاص.. اللي ربنا مقدره علينا يصير! |
ـ طيب.. أحتاج الآن إلى جرعة حنان. |
ـ والله ((فارس)) أعقل منك بكل جنونه! |
ـ إنما لو عقلت أنا.. بعدين تتهميني بشيء آخر! |
ـ إنت من الجن! |
ـ وإنت حورية من أعماق البحر.. أحب أمواجك جداً! |
* * * |
|