الشرخ! |
أربعة أيام مرَّت، و ((خالد)) لم يطرق باب أهل زوجته ((إلهام)).. وطفلاه يلحان في السؤال عنه. ((فارس)) يتوتَّر مع كل سؤال يطرحه. وهو يقول: |
ـ يسافر كيف وما يقول لنا.. ما يسألني عن الهدية اللي أبغاها؟! |
((عهد)) تسأل عملياً بواسطة دموعها.. فهي امرأة صغيرة تتدرب على ما تفعله أمها دائماً، وكل النساء.. فلم تكف عن البكاء احتجاجاً، ومناداة لأبيها. |
ضاقت الساعات والدقائق في وجه ((إلهام)). لم تعد تدري ماذا تصنع، لكنها تحاور نفسها بعتاب غاضب لزوجها الذي لا يسمعها: |
ـ كده يا خالد.. ما صدَّقت أخرج من البيت وما سألت ولا حتى بالتليفون؟! |
ويضيع سؤالها العاتب في صمت الليل، ويتلاشى في حرارة النهار وزحامه، وينقضي يوم آخر.. دون أن يأتي ((خالد)). |
اتصلت به هاتفياً في عمله لمجرد أن تسمع صوته ولا تحادثه، فلم يرد، وحتى في بيته أيضاً لا يرد! |
ـ ترى.. أين ذهب، هل سافر؟! |
أشركت والدها في السؤال، فلم تجد عنده ما يطفئ غلتها... بل أجابها أبوها قائلاً: |
ـ قلت لك من يوم ما خرجت من بيتك: عودي.. أنت المخطئة، وما سمعت كلامي! |
ـ قالت لأبيها: هادا ما هو وقت التقريع والعتاب.. يكون جرى له شيء؟! |
ـ قالت أمها: يمكن سافر لعمل، ما هو دائم السفر؟! |
ـ قالت لنفسها هامسة: هل هان عليه ((فارس)) و ((عهد)).. لا يسأل عنهما، ولا حتى يسمع صوتيهما؟! |
جاءها ((فارس)) يركض لاهثاً. ارتمى في حضنها، وهو يردِّد: |
بابا.. بابا! |
انتفضت فرحاً وهي تسأله: فين.. جاء؟ |
ـ لا يا ماما.. أنا شفته. بابا ما هو مسافر، لكن إنت وهو إتنين متعبين لنا. |
ـ ليه يا حبيبي تقول كده؟ |
ـ خلاص.. أنا كبرت.. عندي الآن خمس سنوات. الله الغني عنكم، أروح اشتغل أحسن من نقاركم إنت وأبويا اللي ما يخلص. |
ـ أبوك فين شفته، وبلاش لماضه؟ |
ـ وحشك يعني؟.. خارجه من البيت ليه.. تتعبونا وبس؟! |
ـ قالت له: إنت مسحوب من لسانك زي أبوك.. عيب، أنا ماما! |
نظر إليها متأملاً. وضع يده على خده، وصمت. قالت له أمه: |
ـ إنت سكت ليه.. فين شفت. أبوك؟ |
ـ في السفر، ما هو إنت قلت أن بابا مسافر.. شاور لي من الطيارة! |
ـ يا واد.. عيب كده! |
ـ بابا طلعت له ذقن كبيرة على وجهه. |
ابتسمت ((إلهام)).. بما يعني أن زوجها قلق، ويفكِّر فيها. وأهمل حلاقة ذقنه. ولكن... إنها تخاف لو أهمل عمله أيضاً، خاصة وأنه لا يرد على الهاتف في مكتبه. |
ـ سألت ابنها: إنت كيف شفت بابا، وفين؟! |
ـ رحت له البيت. |
ـ لوحدك يا جني؟! |
ـ أخذت فلوس من جدي من غير ما أقول له، وركبت تاكسي ورحت لبابا البيت علشان أضربه! |
ـ ومين اللي قال لك إن ((أبوك)) في البيت |
ـ ما حد قال لي. سعتك تتكلمي مع جدي وجدتي. عرفت إنك بتكذبي عليَّ. |
ـ عيب يا ((فارس)) تقول عن ماما كذابه! |
ـ وليه عيب.. ما هو إنت كذبت عليَّ. بس ياست ماما.. أخدت من الشارع اللي قدام بيتنا عصا كبيرة. وضربت جرس البيت.. فتح بابا. |
ـ ها.. وبعدين؟! |
ـ رفعت العصا علشان أضربه وأنا أقول له: إنت طردت ماما من البيت ليه.. إنت زعَّلتها ليه. أخدني في حضنه وباسني بقوة، وشفت دموع في عيونه. |
ـ سألك عني؟ |
ـ لأ.. سألني عن ((عهد))! |
ـ يا ولد؟! |
ـ هو قال لي بعدين لا تقول لماما إني سألتك عنها. لكن هو سألني.. أنا ما أحب الكذب زيك! |
ـ المهم.. ليه ما جبته معاك؟ |
ـ أما كانت عصا كبيرة يا ماما.. كنت رايح أخرج الدم من راس بابا علشانك، وكنت رايح أظلمه. |
ـ وإنت كمان تعرف الظلم؟! |
ـ الظلم في كل مكان.. ما شفتي الأطفال في لبنان؟ |
ـ يا ولد يا سياسي؟! |
ـ إيوه.. الدم رجع في وجهك لما قلت لك بابا هنا في البلد. |
بس يا ماما إنت ليه دايماً تزعِّلي بابا؟! |
ـ هو قال لك كده؟ |
ـ تعرفي يا ماما.. إنت وبابا زي الأطفال! |
ـ يا فارس.. إنت لسانك طويل، بعدين أضربك! |
ـ لما تزعلي إنت مع بابا.. دا أكتر من الضرب.. كأني أنا وأختي مسافرين. |
ـ طيب.. خلاص. ما قلت لي ليه ما جبت بابا؟! |
ـ بابا راجل ما يجي.. إنت لازم تروحي له. |
ـ إشمعنى.. هو اللي زعَّلْني؟ |
ـ وإنت تركت البيت.. هو ما قال لك أخرجي! |
ـ ما شاء الله.. درّسك ولقّنك وإنت كده مفعوص؟ |
ـ مفعوص إيه.. وتلقين إيه؟ حرام عليكم. قومي نروح بيتنا. |
ـ وإذا ما قمت؟! |
أجيب لك العصا! |
كيف؟.. ولد قليل الأدب! |
دخل والدها وهو يستمع إلى نهاية الحوار بين ((إلهام)) و ((فارس)).. يقهقه سعيداً. |
ـ قالت إلهام لوالدها: أنت كمان مبسوط من تهزيء ابني لي؟! |
ـ دا ما هو تهزيء.. ما شاء الله على فارس، ذكي، ولبلب. أنا مبسوط منك يا فارس. |
ـ قال فارس: يعني ما إنت زعلان يا جدو علشان ركبت تاكسي ورحت لبابا؟ |
ـ لأ.. إنما المفروض تعطيني خبر.. على الأقل كان رحت معاك. |
ـ وليه ما رحت قبلي، والا كان أخدت بنتك ورجعتها لبيتها؟! |
صرخت ((إلهام)) في وجه ابنها مؤنبة: أنت فعلاً قليل أدب! |
ـ قال والدها: بالعكس.. فارس معاه حق. |
قرع جرس الباب في هذه اللحظة. قام ((فارس)) يركض وخلفه ((عهد)) تردِّد: |
ـ بابا جا.. بابا جا! |
انزلقت دمعة من عيني ((إلهام)) وهي ترى ابنها وابنتها يتشوقان لرؤية والدهما. |
عاد ((فارس)) يقول لجده ووالدته: |
ـ دا السواق معاه أكل! |
جاءت ((عهد)) ووقفت في مواجهة أمها. ثم وضعت يدها في خصرها تتوعد: |
ـ أنا قال لي فارس عن مكان بابا.. أنا وهو رايحين عنده، وإنت على كيفك. |
نظرت ((إلهام)) نحو أبيها، ووالدها ما بين حالة الابتسام والتأنيب لابنته. قامت ((إلهام)) من مجلسها إلى غرفة أخرى. |
ـ سألها فارس: أنا وعهد رايحين لبابا مع جدو. |
ـ قالت بحدة: روحوا.. أنا لا يمكن أرجع له، إلا إذا جاني بنفسه، واعتذر، ووافق على طلبي. |
اختفت ((إلهام)) في غرفة أخرى تنتحب. لحقت بها أمها تهوِّن عليها، وتقنعها بالعودة إلى بيتها دون أن تفلح. قالت لها أخيراً. |
ـ إحنا عملنا اللي يرضي ضميرنا، اللي بتعمليه غلط، ورايحة تتحملي نتيجة وخيمة بعدين! |
ومضى النهار كله.. دون أن يعود إليها فارس، وعهد، وحتى والدها لم تره.. فهي لم تبارح غرفتها، حتى خيَّم الليل.. فشعرت بالقلق. خرجت تسأل أمها. قالت لها: |
ـ أبوك اتكلم بالتلفون، وبعد شوية راجع مع فارس وعهد. |
ـ قالت: أحسن.. بس أنا بدي ورقتي.. لازم يطلقني. |
خبطت أمها على صدرها فزعة، وبكت، وهي تقول: |
ـ يا بنتي اتعوذي من الشيطان.. فين يروحوا الأولاد من غير أبوهم؟ |
ـ قالت: مكلَّف إنه يصرف عليهم. |
ـ قالت أمها: وإنت؟.. تتزوجي الديكور أفندي؟! |
ـ قالت: بلاش سخرية يا ماما.. لو كان ((خالد)) يحبني.. ما رفض طلبي. |
ـ قالت أمها: وهو عمره ولد الناس رفض لك طلب؟.. لكن طلب مجنون زي هادا لازم يكون مرفوض. |
ـ قالت: ما هو طلب مجنون.. من حقي إني أعمل.. أجل أخدت الشهادة ليه؟ |
ـ قالت أمها: يا بنتي ما قلنا حاجة.. إنما بالتفاهم، لو كان مرتب زوجك ما يكفي معليش.. بعدين، فين يروحوا أولادك.. عند مين.. الخادمة؟! |
ـ قالت: أنا ملِّيت يا ماما من قعدة البيت. و((خالد)) طاير طول النهار. |
ـ قالت أمها: عجيب والله.. ما هي طبيعة الرجل وعمله.. من فين تاكلوا؟ ويجلس معاك يعمل إيه؟! |
كان الحوار يرتطم دائماً بين الأم وابنتها بجدار صلب من التشبث والعناد والإصرار. |
ودخل ((فارس)) وخلفه ((عهد)).. دون أن يكلما أمهما. توجست منهما شيئاً. صرخت في وجه ((فارس)). |
ـ إيه.. مبلِّم كده ليه؟ |
ـ قال فارس: إنتوا تجيبونا، ونحن اللي نتعذب.. تجيبونا ليه؟! |
رفعت ((إلهام)) كفها، وصفعت ((فارس)) على وجهه قائلة: |
ـ أنت زوَّدتها.. لسانك طول ولازم تتربىَّ. |
تلقفت ((فارس)) جدته.. بينما أخرجت ((عهد)) لسانها لأمها، وركضت تجري إلى جدها، خوفاً من صفعة تلحق وجهها مثل أخيها. وانخرط ((فارس)) في البكاء. |
لأول مرة تصفع ((إلهام)) ابنها بهذه العصبية والقسوة. تحدَّرت الدموع من عينيها ندماً.. فهرعت إلى ابنها تحتضنه وتبكي، وهو يرفض أن تلمسه، وقد اختلط صوته بنحيبه قائلاً: |
ـ ابعدي عني.. ما أحبك، وكمان ما أحب بابا.. إنتو الاثنين مجانين. أنا بدي أسكن هنا مع جدو!! |
|