فارس.. ((يرطن))! |
* كان ((خالد)) يراقب المراحل التي ينتقل فيها ابنه ((فارس)) سنة بعد أخرى! |
إنه في بعض اللحظات يتأمل ابنه، ويشرد بتفكيره بعيداً، وهو يطرح سؤالاً يفترض أن ابنه سيسمعه: |
ـ ترى.. كيف سيجيء عصرك يا بني عندما تدخل المعركة الحقيقية مع الحياة وتصبح رجلاً.. هل سيكون مثل عصر أبيك.. هل سيكون أكثر سوءاً.. هل سيأتي أفضل؟! |
وفي لحظات أخرى كان يرقب ابنه ((فارس)) وهو يتقافز أمامه كفراشة تحوم حول النار. إن الإنسان مثل الفراشة في بدء طموحاته، والمغريات نيران تجذبه ليسقط فيها. |
ويهمس في نفسه كأنه يخاطب ابنه: |
ـ إلعب، واقفز.. هذا وقت المرح والصفاء، فلن تجد هذه النفس النقيَّة عندما تكبر، وتعرف، وتكتشف، وتصطدم، وتتحدى.. إلعب، فأجمل عمر الإنسان في طفولته! |
وفي وقت آخر.. كان يرى ((فارس)) وهو يتسلل إلى مهد أخته الوليدة في شهورها الأولى: ((عهد)).. كأنه يريد أن يقرصها، أو يشد أنفها، ولعله أحس أن حنان أمه أخذ يتحول إلى أخته الأصغر، وأن رعايتها تركزت باهتمام شديد نحو ((عهد))! |
يسترجع ((خالد)) الآن.. جانباً من أيام لم تبعد كثيراً: |
لقد ولدت ((إلهام)) طفلة جميلة بعد ((فارس)) الذي أخذ يتكلم، ويرفض، ويحتد، ويركض. |
يومها.. وقف ((فارس)) أمام أمه، وعلى مسمع من أبيه، يفجر سؤاله المفاجئ مخاطباً أمه: |
ـ ماما.. ماما.. أنا بدي أم ثانية غيرك! |
دهشت ((إلهام)) من هذا المطلب، والتفتت إلى ابنها تسأله باهتمام: |
ـ ليه يا حبيبي.. ما هو أنا أمك؟! |
ـ قال وهو مقطب حاجبيه: لأ.. إنت كنت أمي. لكنك دحين أنت أم ((عهد)) بس! |
وتبادل ((خالد)) وزوجته النظرات، وكأن ((خالد)) يلومها، وينبّهها إلى خطأ خطر وقعت فيه دون أن تقصد. ولكن ((خالد)) بادر ابنه، يجيبه قائلاً: |
ـ ماما يا حبيبي.. هي أمك وأم ((عهد))، وإنت وعهد أخوان. |
ـ رد فارس يومها بعفوية: دا كلام ما هو صحيح. |
ـ قالت أمه بغضب: عيب يا ((فارس)) تقول لبابا كده. |
ـ قال خالد: أتركيه يتكلم! |
وجذب إليه ابنه بحنان، ووضعه في حجره، وسأله: |
ـ ليه كلامي ما هو صحيح؟! |
ـ قال فارس: لأن ماما بتنوِّم ((عهد)) جنبها على السرير، وأنا تشخط فيَّ وتقول لي: روح نام في سريرك وإلا أضربك. |
ـ قال خالد: تحب تنام جنبي؟ ما عندي مانع، لكن انت صرت راجل كبير، ولك سرير خاص، وبعدين ((عهد)) لسة طفلة صغيرة بترضع وانت بتاكل بالملعقة! |
ضحك ((فارس)) وخبط بيده على ذقن أبيه، وقال له: |
ـ يعني أنا راجل زيك كده.. وراح تطلع لي ذقن؟! |
ـ قال والده: بالضبط.. بس لما تكبر راح تحلقها! |
ـ قال فارس: طيب.. ليه ماما ما تطلع لها ذقن زيك يا بابا؟ |
ـ أجابته أمه: الرجال بس هم اللي تطلع لهم ذقن، لكن ماما يا حبيبي ست، والستات غير الرجال! |
ـ قال والده ضاحكاً: يمكن الذقن يا حبيبي من أهم الحاجات اللي تميز الرجال من الستات في عمرنا.. بس بعض النساء عندهن ذقون! |
ـ قالت إلهام: خالد!.. وبعدين معاك. الحمام يلقط الحب. الواد يفهم.. ده جيل كمبيوتر يا حبيبي! |
ـ قال فارس: طيب.. ليه يا بابا ما تربي أنت شعر طويل كده زي ماما؟! |
ـ قالت إلهام: وبعدين في الأسئلة اللي ما راح تخلص؟ |
ـ أجابه خالد مبتسماً: فيه يا حبيبي رجال عندهم شعر طويل زي ماما.. بس ما يعترفوا برجولتهم، وما هم قادرين يصيروا ستَّات! |
ـ قالت إلهام: وبعدين يا خالد؟ |
ـ قال خالد: ولا قبلين.. لما يوصل ((فارس)) لسن المراهقة يا عالم راح يلاقي إيه، وأصناف إيه من البشر. على أيامنا شفنا الهيبيز، والجنس الثالث، والرجل يتحوَّل إلى امرأة بعملية جراحية بسيطة، والمرأة تتشبَّه بالرجل بدون عملية!.. يعني عمر العجائب! |
* * * |
ابتسم ((خالد)) وهو يستطرد في تذكر بعض المواقف مع ابنه وزوجته، وفجأة ارتفع صوته مقهقهاً كما مجنون، وهو يقتعد كرسياً هزازاً في شرفة البيت.. فقد تذكر ذلك اليوم الذي اغتاظت فيه ((إلهام)) من ابنهما ((فارس))! |
كانوا قد انتقلوا منذ عشرة أيام إلى هذه ((الفيلا)) الواسعة، بعد أن تركا تلك ((الشقة)) الصغيرة، وبعد مولد ابنتهما ((عهد)).. وقد حرص ((خالد)) على السكنى في هذه ((الفيلا)) ليفسح مجالاً أرحب لابنهما ((فارس)).. يجد فيه هذا الفناء الكبير الذي يلعب فيه الكرة، ويركب دراجته ذات العجلات الثلاث. |
وحين كان ((فارس)) يلعب في فناء ((الفيلا)) شاهد سيارة والده تقف أمام الباب، ومع والده رأى امرأة شابة في يدها حقيبة ملابس.. فقذف بدراجته بعيداً، وأخذ يركض إلى داخل ((الفيلا)) منادياً على أمه: |
ـ ماما.. ماما. بابا جاء. بابا معاه ماما تانية علشاني! |
وأسرعت ((إلهام)) إلى مدخل ((الفيلا)) لتجد زوجها ((خالد)) وخلفه الخادمة الأندونيسية التي أحضرها من المطار. ابتسمت، ولعلها لم تكبت فرحتها بقدوم الخادمة حتى ترتاح من أشياء كثيرة ترهقها. وجذبت إليها ((فارس)) سعيدة، وهي تقول له: |
ـ دي ما هي ماما يا حبيبي. دي الخادمة اللي راح تساعدني في شغل البيت. |
ـ قال فارس: راح أنام معاها في غرفتها. |
ـ قالت تزجره بغير عنف: لأ يا حبيبي.. أنت تنام في غرفتك وسريرك. |
ـ قال: بس أنا بدي ماما. |
ـ قالت: وأنا يا حبيبي رحت فين؟.. أنا ماما! |
ـ قال: لأ.. إنت ما مت ((عهد))! |
وحمله والده بين ذراعيه، وقبَّله، وهو يقول. له: |
ـ لا تخاف.. دحين ماما تتفرغ لك أنت وعهد، والخادمة دي تغسل ملابسك، وتطبخ لك الأكل، وتنظِّف غرفتك. بعدين ((ماما)) تزعل لما تقول مرة تانية كدة. |
ـ قال فارس: يعني ماما تجلس معايا؟! |
ـ قال والده: أيوه يا حبيبي، وتلعب معاك كمان.. بعدين الإنسان ماله غير واحده ماما وبس. فهمت؟! |
ـ قال فارس: بس دي قد ماما.. صغيرة وحلوة! |
ـ قال والده: يا ولد.. خلاص عيب كده! |
ـ قالت إلهام وكأنها تنبَّهت: والله صحيح.. إنت اخترتها صغيرة ليه يا خالد؟! |
تطلع إليها زوجها مغتاظاً، وقال: |
ـ أنا اللي اخترتها، والا المكتب؟. بعدين دي المواصفات اللي حضرتك طلبتها.. ما بدي واحدة عجوزة ((كركوبة)) بدي شابة علشان تخدم زي الساعة الجديدة. |
ـ قالت إلهام: خلاص: ما هو إنت أجوبتك جاهزة ما شاء الله. |
ـ قال خالد: إذا ما هي عاجبتك نرجعها. ما هي المكاتب على حسابنا، وحلني على ما يختاروا لك واحدة تانية نص عمر! |
* * * |
اقتربت ((إلهام)) من الشرفة.. حيث يجلس زوجها في شروده وتذكره، ووقفت تتأمله متعجبة لشروده، ومن ضحكاته التي انطلقت قبل قليل. هزته من كتفه وهي تقول: |
ـ لا بأس.. عندك بوادر جنون لما تضحك لوحدك مع نفسك؟.. ضحكنا معاك يا سيد! |
ـ قال لها: تذكرت بعض مواقف ((فارس)) لما جاءت الخادمة. |
ـ قالت: على فكرة.. ((فارس)) أصبح يحب ((عائشة)) بشكل عجيب. |
ـ قال: عائشة مين.. بنت الجيران؟! |
ـ قالت: جيران إيه يا أبو عين زائغة إنت.. نسيت؟ عائشة الخادمة. |
ـ قال: أوه.. صح، طيب عال.. علشان تهتم به، وهي عندها ولد وبنت في بلدها، يمكن ((فارس)) يعوِّضها شوية عن فراقها لهم. |
ـ قالت: يا خالد.. ده ((فارس)) بدأ يتكلم أندونيسي! |
قفز من داخل مقعده، ونظر إلى زوجته كملدوغ. وهو يقول لها: |
ـ يتكلم إيه؟.. دي لسه ما لها شهر، أنا كنت فاكر أننا نعلمها العربي! |
ـ قالت: اللغة العربية صعبة.. لأنها لغة أصيلة! |
ـ قال: يوه.. اعملي محامي عن اللغة. نحن في ولدنا، يعني بعد سنة يرطن أندونيسي ويكسّر في العربي؟! |
ـ قالت: طيب نعمل إيه؟ |
ـ قال: نعمل إيه؟.. أنت المسؤولة، ما صدقتي الخادمة وصلت، رميتي الولد عليها، وتخلَّيتي عن مسؤوليتك. ده حتى ألعابه كلها في غرفتها.. ويأكل عندها. وينام عندها، ويتفرج على التليفزيون معاها.. وإنت كنت فين يا ست هانم؟! |
ـ قالت: اسمع عاد... أنا في إيه والا إيه.. مشغولة يا أخي في ((عهد))! |
ـ قال: ويضيع فارس يعني؟ |
ـ قالت: يضيع ليه.. إنت مكبِّر الموضوع كده بدون لزوم! |
ـ قال: مكبِّر إيه.. الموضوع فعلاً خطير، شوفي علَّمته إيه، وفهَّمته إيه؟! |
ـ قالت: تكون علمته إيه يعني.. دي مسلمة، ومن مجتمع قريب! |
ـ قال: إنت عمرك شفتيها تصلي؟! |
ـ قالت: والله ما أدري.. يمكن في غرفتها. |
وجرى ((خالد)) نحو غرفة الخادمة، وهو ينادي على ((فارس)).. يردد بصوت مرتفع: |
لا حول ولا قوة إلا بالله.. أمهات إيه في هذا الزمن؟! |
* * * |
|