الرحلة |
* إتكأ ((خالد)) على الوسادة بعد أن تناول مع زوجته وجبة ((السحور))، وقد بدا عليه الشرود بعيداً عن ((إلهام)) وعن ((فارس)) الذي نام في بداية الليل، واستيقظ بعد منتصفه، يشاركهما ((السحور)) وما تبقى من الليل. |
لمست ((إلهام)) فنجان الشاي الذي وضعته أمام زوجها من فترة طويلة، دون أن يرشف منه رشفة واحدة، فوجدته قد برد، حدَّقت في وجه زوجها، ورأته لا يعي بما حوله. |
إنها تعرف شروده ((الأحياني)).. لا بد أنه يفكر في العمل، أو في أمور الدنيا، كما يحلو أن يقول لها دائماً. حادثت نفسها قائلة: |
ـ هل هذا الشرود من أمور الدنيا أيضاً؟! |
هزته برفق، وهي تشد انتباهه، وتقول له: |
ـ فنجان الشاي برد، وأبدلته بفنجان ساخن.. لا يبرد التاني. أنت سارح في إيه؟! |
التفت نحوها، بعد أن تنبَّه. ابتسم في وجهها. قالت له: |
ـ إيه.. مدفع الإمساك ما ضرب علشان تصوم عن الكلام كمان. |
عاود الابتسامة الفاترة. وبعد. صمت.. سألها: |
ـ ها.. إيه رأيك، نروح المدينة في الأيام الأخيرة من رمضان؟! |
ـ يا ليت.. إنت عودتنا من يوم ما...... |
ـ (قاطعها): يوم إيه.. إحنا رحنا مع بعض رمضان واحد، وهذا الثاني؟ |
ـ صح.. لكني بجد أحس أني عايشه معاك عمري كله. |
ـ وبعد ما نرجع من المدينة؟! |
ـ يعني.. إذا كان عندك إجازة، نروح برَّة! |
ـ برَّة فين.. ما عندي فلوس كتير. |
ـ خلاص.. نروح تونس، أهو أنت بتحبها، وأنا ما عمري رحت لها. فرصة. |
ـ والخادمة اللي جاية بعد العيد؟! |
ـ يا أخي.. حبكت يعني بعد العيد؟! |
ـ هذا موعد قدومها زي ما أخبرني المكتب. |
ـ طيب.. ناخدها معانا! |
ـ ناخدها فين.. إنت قلتي إيه؟! |
ـ يعني التذكرة غالية قد كده؟! |
ـ التذكرة، والغرفة في الفندق، و.... |
ـ خلاص.. نخلِّيها عند أمي، حتى نرجع. |
ـ أيوه.. قولي كده. |
ـ ولا كده ولا تطلع فيها حاجة.. خليها عند أمك. |
ـ ما أقصد كده.. لكن دي جديدة، ولازم تدخل من البداية على الشغل اللي مستقدمينها علشانه. بعدين تفتكر.... |
ـ يا أخي إحنا راح نغيب سنة يعني، كلها زي ما تقول كده شهر! |
ـ لأ.. نص شهر، لأني لازم أرجع وأخلص أعمال خاصة بي، ما تخص عمل الشركة. |
ـ على كيفك.. المهم الخادمة تجي، وأرتاح شوية. |
ـ بس حاسبي.. أهم شيء الولد، لا تهمليه وتتركيه لها. |
ـ لأ يا شيخ، أنا مجنونة، بعدين ما شاء الله ((فارس)) كبر، وفتح عينه، ويعرف! |
ـ يعرف إيه.. هذا طفل، ممكن يتشرَّب من الخادمة أشياء كثيرة. |
ـ ما هو أنت تقول إنها مسلمة من أندونيسيا؟! |
ـ ما هو المسلمين كتير.. إنما المعاملة تختلف، والعادات تختلف، والنفسيات تختلف. الدين المعاملة! |
ـ يوه.. إنت عملتها مشكلة عويصة. |
ـ فعلاً عويصة.. إذا أهملت ولدك.. أنت ما تسمعي عن حكايات الخادمات؟! |
ـ هيا لا تخوفني! |
ـ أنا أنبِّهك، وبس. |
ـ الشاي برد مرة ثانية. |
ـ إشربيه أنت! |
* * * |
في الطائرة المتجهة بهم إلى ((المدينة المنورة)).. كانت ((إلهام)) تحكي لزوجها حكاية ((فارس)) والموقف الذكي حدث منه في مساء يوم أمس. |
كانت تقف في المطبخ، تعد طعام ((السحور))، وقد استيقظ ((فارس)) من نومه، وجاء إليها بنظرات لم تستطع أن تفهم منها أي معنى. كان ((فارس)) يبتسم، ثم سألها عن والده أخبرته أنه سيعود بعد قليل، وغاب عن عينيها بعض الوقت.. ثم عاد إليها عارياً تماماً. فوجئت بمنظره.. سألته وهي تضحك مندهشة: |
ـ أنت ليه عملت كده؟! |
كان يضحك سعيداً، وأمسك بيدها، وسحبها معه إلى دولاب ملابسه! |
هناك.. اكتشفت ((الكارثة)).. فقد أخرج كل ملابسه من الدولاب، ونثرها في أرجاء الغرفة. |
ـ سألته: إيه ده.. إنت مجنون؟! |
ـ قال لها وهو مستمر في ضحكه: العيد.. العيد. |
ـ قالت له: العيد ما هو الليلة! |
جرى إلى أرضية دولاب الملابس، وأخرج حذاءه الجديد، وحاول أن يدخل فيه قدميه. ووجد ((عقالاً)) قديماً لأبيه، رمته ((إلهام)) في قاع الدولاب.. أخذه ووضعه على رأسه! |
أمسكت به، وضربته على يديه حانقة، قائلة: |
ـ أنا أمس رتَّبت دولابك.. حرام عليك يا معذبني. |
ركض ((فارس)) إلى غرفة المعيشة يبكي، وهو يصيح: بابا.. بابا. |
ـ قال لها خالد: حرام عليكي.. فرحان. |
ـ قالت: هو يفرح، وأنا أتعذب بترتيب الملابس دايماً.. أنت إيه على بالك، بتتعب؟! |
ـ قال: ناوية نتخانق في الطائرة كمان.. أنت بتحكي لي علشان نتخانق؟! |
ـ قالت: لأ.. أنا بأحكي لك، وتقول لي الخادمة ومسؤوليتي نحو ابني معاها. |
ـ قال: أنا على حق.. لما تحضر الخادمة ترتاحي من أشياء كثيرة، وتركزي اهتمامك على ابنك، وعل اللي جاي في الطريق! |
ـ قالت: أسكت يا خالد.. أنا خايفة أولد في تونس! |
ـ قالت: وفيها إيه.. إذا جاء ولد نسميه ((هانيبعل))! |
ـ قالت بغيظ: هاني إيه.. ليه خلصت الأسماء؟! |
ـ قال: دا اسم تاريخي! |
ـ قالت: إنما تعرف يا خالد.. أمي متشوشة كتير من سفرنا لتونس؟ |
ـ قال: ليه.. رايحين واق الواق إحنا؟! |
ـ قالت: ما أقصد.. لكن رغبتها إني أولد عندها.. قدَّامها يعني، وبعد الولادة نسافر؟ وتكون هي مطمئنة علينا. |
ـ خلاص.. بلاش سفر بالمرة.. علشان لا تتعبي من الرحلة، وأمك لا تقلق! |
ـ أنت ما صدقت يا سيد؟! |
ـ بالعكس.. أنا بدي أسافر وأغير جو، وأرتاح.. إنما يعني.. ظروفك صعبة! |
ـ يعني أنا جبت اللي في بطني من بيت أبويا؟ |
ـ وبعدين في الغلط.. إحنا داخلين على المدينة المنورة. أدعي وانشرحي. |
ـ لكن السفر مهم.. نروح تونس. يعني نروح. |
ـ على فكرة.. ((هيَّا)) أختك مسافرة فين؟! |
ـ يا خبيث.. عارفة خلفية سؤالك. |
ـ بريء والله.. يعني خطر على بالي. |
ـ أختي مسافرة مع زوجها إلى أمريكا. |
ـ ول.. حته واحدة كده؟! |
ـ ليه.. زوجها مبسوط، وعاش في أمريكا سنوات الدراسة. |
ـ وأنا برضى مبسوط.. بس مبسوط لأني اتجوزتك.. أنت ثروتي. |
ـ خالد... لا توسعها كتير، واسعة دي! |
ـ والله العظيم أحبك.. إيه، ما عندك خبر؟! |
ـ ولما أنا ثروتك.. تزعلني ليه؟ |
ـ أنا أقدر أزعلك؟ أنت أحياناً تستفزيني، وأحياناً تختبري حبي لك؟ |
ـ يمكن... أصدقك. إنما الأغنياء اللي عندهم ثروة، يعدّو ثروتهم دايماً والا لأ؟! |
ـ تقصدي إيه يا حبيبتي؟! |
ـ أقصد أن الرجل لما يعتبر زوجته ثروة.. يحرص إنه يزيد ثروته بالحب لها. |
ـ ونسيتي أن الزوجة لما تحب زوجها وتعتبره ثروتها.. تحاول تزيد رصيد الحب بالأولاد! |
ـ يا خبيث.. تحسبها بالقروش! |
ـ تعرفي؟.. أثمن ثروة في حياتنا الاثنين: الولد الشقي ده ((فارس))! |
ـ بتحبه أكتر مني؟! |
ـ أحياناً.. لسبب واحد، وهو إنه منك أنت! |
ـ لأ شاطر.. أربط الحزام، وصلنا! |
ـ الواحد لما يوصل يفك الحزام! |
ـ أربط الحزام يا فيلسوف.. إحنا في المدينة المنورة، لازم تكون متوضِّي!! |
* * * |
|