العصفور المراهق! |
* الخطوات الأولى في عمر ((فارس)).. بدأها في شهره الثامن، والأسرة من حوله تنظر إليه في إعجاب! |
((جدته))- أم والده- تأخذه إلى حضنها، و ((تحصّنه)).. تقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، وتنفخ في شعر رأسه، تلتفت إلى ((خالد وإلهام)) محذرة، وهي تقول: |
ـ أوصيكم.. لا أحد يعرف أن ((فارس)) باسم الله عليه، مشى في شهره الثامن، حتى لا يحسدوه! |
تضحك ((إلهام)) من فزع حماتها، وتجيبها في صيغة تساؤل: |
ـ وليه ما يكون ((فارس)) طبيعي يا ماما.. بياكل وبيتغذى بشكل جيد؟ وهناك أطفال بيمشوا في الشهر الثامن بالفعل؟! |
لكن حماتها لم تهضم هذا الرد. أرادت أن تحاور، وتؤكد وجود الحسد والخوف من العين: |
ـ لكن الناس يا بنتي عيونهم فارغة. تعرفي جارتنا ((أم نعيم)).. قاست يا حسرة من العين. ولدها الطفل مشى من بدري، وكان شكله حلو.. أبيض، ومتختخ، وعيونه ملونة، وإيه؟.. حدق ما شاء الله عليه! |
ـ سألتها إلهام: خير.. حصل إيه؟! |
ـ جابوا خبره.. عيون ما تصلي على النبي يا بنتي.. وعنها، تشوفي هذا الطفل البريء وهو يتلوى من المغص، وبعدين صار يتألم من آلام في مفاصله.. تصوروا طفل يشتكي من المفاصل؟! |
تدخل ((خالد)) في الحوار. لم يحتمل، فقال لأمه: |
ـ هذا الألم ليس من العين.. يمكن شلل أطفال، ويمكن جهاز التكييف بارد جداً ولا يحتمله طفل، ويمكن ما أعطوا فرصة للطفل يجري ويلعب.. يعني أسباب متعلقة بالمرض، أو بالرفاهية والتدليل! |
ـ ردت على ابنها: رفاهية إيه اللي طالعين لنا بها؟ دي عين ما تصلي على النبي، وعلى فكرة.. أنا كدة بصراحة ما أرتاح من جارتكم. ما نزلت لي من زور.. دي ما جابت أطفال في حياتها، ولازم تكون عينها واحدة بواحدة! |
ـ قالت إلهام: يعني يا ماما راح نخبي ((فارس)) فين؟.. ما هو لازم يمشي ويجري والناس تشوفه! |
وانفلت ((فارس)) من حجر جدته، وأخذ يمشي، ويسقط، ويقف ويصفق بيديه! |
كان ((فارس)) مرحاً، مبتسماً.. تبدر منه حركات متعجلة، ويحاول أن يقفز كأنه يقلد الأطفال في التلفاز، وتصرخ جدته هلعاً: |
ـ باسم الله على ولدي.. تاتي خطوة خطوة.. تاتي عدِّي العتبة! |
ويضحك ((خالد وإلهام)) وهما يقولان للجدة: |
ـ ما هو بيمشي.. تاتي دي خلصنا منها. |
ـ ترد: هس.. لازم ما تقولوا كده! |
ويتنقل ((فارس)) داخل الغرفة ليثبت لهم قدرته على المشي.. وفي تنقلاته تمتد يداه إلى أثاث وأشياء الغرفة.. تارة يحاول الإمساك بفازة فتصرخ أصواتهم: لا. وتعبث يده بسماعة الهاتف ويسحبها إليه ليسقط الجهاز على الأرض. وتصرخ أمه مؤنبة له: |
ـ يا ولد إهمد.. إنت طالع عفريت من بدري! |
ـ ترد عليها حماتها التي تقتنص كل كلمة: الله أكبر على عينك يا شيخة.. ما يحسد المال إلا أصحابه، لا تعقّدي الولد! |
ـ قالت إلهام: إنه يبحث عن العصفور. |
ـ سألها خالد: عصفور إيه؟! |
ـ أجابت: عصفور ملون.. ما أدري من فين بيجينا.. كل يوم في الصباح يوقف على سياج البلكونة ويزقزق، و((فارس)) ينبسط، ويحاول يجري إلى البلكونة حتى يمسك به. |
ـ قال خالد: بسيطة، وليه ما اتكلمت من بدري؟ بكره أشتري له عصفور ملون.. تعرفي؟ الطفل يتمنى إنه يمسك العصفور علشان يشوف كيف يقدر يطير، وكيف يزقزق. |
ـ قالت إلهام متخابثة: والكبار.. ليه يمسكوا العصافير؟! |
ـ الكبار يفكروا في المكان اللي حط عليه العصفور، ويتساءلوا: ليه الإنسان ما يقدر يمتلك المكان اللي يريده؟! |
ـ فلسفة دي.. والا ((فضفضة))؟! |
ـ خليط.. الأطفال أيضاً بيصعدوا إلى أسطحة العمائر ويشوفوا العصافير والطيور، لكن الكبار يمتنعوا عن هذا الفعل |
ـ ليه يا مفلسف كل حاجة؟! |
ـ يمكن.. علشان لا توجه إلى الكبار تهمة الرؤية من فوق! |
ـ قالت أمه بعد متابعتها للحوار: والله ماني فاهمة حاجة من اللي بتقولوه.. عن إذنكم أرجع لبيتي قبل مايرجع أب إلهام! |
* * * |
في المساء.. كان ((فارس)) يلعب بجانب والده، ويعبث كعادته بكل ما تصل إليه يده! |
حاول ((خالد)) أن يمنعه، ونهرته ((إلهام)) عن تحطيم الأثاث.. دون جدوى! و ((فارس)) يضحك، ويستمر في ممارسة أجمل عمل لمن كان في سنه. وفجأة.. امتدت يد ((فارس)) إلى مجلة وضعها والده بجانبه لقراءتها، وتناول ((فارس)) المجلة بيديه في غفلة من أبويه، وأخذ يمزق صفحاتها.. بينما ((خالد وإلهام)) يتابعان أحداث مسلسل التلفاز، فلم يشعرا بما كان يفعله.. ولعلهما كانا في غبطة، لأن هذا الطفل العفريت قد تلهى بشيء شغله عن الحركة والعبث. |
وبعد أن نفذ فارس، تمزيق صفحات المجلة.. أخذ ينثر قصاصاتها على أبيه! |
وتنبها في هذه اللحظة. اغتاظ ((خالد)) لأنه لم يقرأ حرفاً من المجلة، ودفع قيمتها سبعة ريالات! |
وأمسك بيد ابنه الصغيرة، وضربه عليها. بكى ((فارس)) واحتجت ((إلهام)) غاضبة من زوجها ومنفعلة: |
ـ إنه طفل لا يفهم.. مين العاقل اللي يحط مجلة في متناول طفل؟ هذا جزاء من يهمل أشياءه! |
كادت تنشب معركة كلامية بين الزوجين.. بينما ((فارس)) قد كف عن البكاء وجلس يتفرج على خصام أبويه مندهشاً! |
غير أنه لم يواصل تلك الفرجة، بل عاد إلى المجلة، مقتنصاً فرصة خصامهما وواصل تمزيق صفحاتها. |
ونظر ((خالد)) بعد أن هدأت زوجته، ووجد كومة من القصاصات. كان قد نفث غضبه، وانفجر بعد ذلك ضاحكاً. و((فارس)) يتطلع إلى وجه أبيه، ثم ما لبث أن شاركه الضحك. |
ـ سأل خالد زوجته: هل تعتقدين أن الولد عدواني؟! |
ـ أجابت: بالعكس.. إنه من أنصار السلام. كل طفل هو من أنصار السلام. |
ـ قال: ولكن.. كيف يكون من أنصار السلام، وهو يحطم ويمزق كل شيء؟! |
ـ قالت: الطفل فضولي بطبعه، ثم هو عمل إيه؟.. مزق مجلة، لو قرأتها فلا بد أن يرتفع الضغط عندك من أهوال الكلام في السياسة والحروب والمجاعة وتشريد الأطفال، ومن قراءة الكوارث والفجائع! |
ـ قال: يا ساتر عليك.. إنما هناك أشياء جميلة أخرى في المجلة: الأدب والفن ومعرفة الحياة، والتاريخ، يعني بنستفيد، ثم إنه هذا عالمنا وعصرنا، ومن الضروري نعرف ما يجري حولنا! |
ـ قالت: المهم أنه أراحك من المنغصات، ولعله شاهد صورة شامير فانفعل ومزق المجلة! |
ـ قال: لكنه لا يعرف حتى الآن من هو شامير أو بيغن، أو أي طاغية آخر! |
ـ قالت: الإحساس يا حبيبي، وتضامن الطفل مع طفل آخر قتله واحد من الطغاة.. ملامح المجرم تنعكس من بواطن الشخصية، وتتضح بالإحساس! |
ـ قال ضاحكاً: تحليل.. ما شاء الله عليك! |
ـ قالت: لا تسخر كعادتك.. أتمنى أن لا يرى أطفالنا وجوه ساسة العالم، حتى لا يسقطوا في الخوف في سن مبكرة.. كفاية الكبار بيخافوا! |
ـ قال: أنا عكسك.. لا بد أن يعرف أطفالنا وجوه أعدائهم، حتى لا يخافوا منهم لما يكبروا، ويتضخم الهلع، أو ينزرع الجبن! |
ـ قالت: لكن مشكلتنا ما هي في الخوف، ولكني أعتقد إنها في الضعف وفي الخلافات. |
ـ قال: خرجنا من الموضوع، و ((فارس)) نام. الآن لا بد أن نناقش أسلوب توعية أطفالنا.. فكيف ننجح؟! |
ـ قالت ساخرة: بالكرتون.. أفلام الكرتون بتعلمهم العنف! |
ـ قال: وتعلمهم أيضاً القدرة على استخدام الخيال لو أحسنّا اختيار المادة، وفي هذا تفتيق لمداركهم. |
ـ قالت: تفتيق.. صح! يا حبيبي أنا دارسة علم نفس واجتماع وقارئة في كتب التربية. |
ـ قاطعها: ما هو أنا عارف إنك مثقفة! |
ـ قالت: استمر في سخريتك، لكني أبحث عن إيصال التخيل اللي تتجسد فيه ومنه توقعات المستقبل بالنسبة للطفل القادم إلى هموم الحياة ومشكلاتها. لكن.. هادا الخيال يضخم الفزع بالطريقة اللي بيوصلوا الخيال أو التخيل عن طريقها، ويضخم الخوف والعنف. |
ـ قال: وإذن.. ماذا نقدم لأطفالنا.. ما هو دا هو واقع عمرنا؟! |
ـ قالت: بتتكلم بالفصحى أيها المحاضر، وجوابي عن سؤالك: بلى! |
ـ قال ضاحكاً: بلى.. بالفصحى، والا بالعامية؟! |
ـ قالت: بالاتنين، وراح تلاقي ((فارس)) لما يكمل عامه الأول، يضطرك أن تشتري له دبابة، أو مدفع رشاش، أو مسدس، لأنه- بكل أسف- الطفل أصبح يعتقد أن العالم غابة، وأن الحرب شاملة، وأن القوة والعدوان والتفوق.. أشياء موجودة في العنف وبس! |
ـ قال يناكفها: جميل.. وزعلانة ليه؟ لازم يعرف طبيعة عصره حتى يقدر يدافع عن نفسه، وعن حقوقه.. فلا يأكله من هو أقوى منه! |
ـ قالت: حلو.. إنه منطق الغاب، أو على رأيك: منطق العصر، إنما.. بجانب كده، لازم نزرع في نفوس أطفالنا الحب والخير والتسامح والأمل. |
تثاءب ((خالد)) وهو ينظر إلى وجه زوجته المنفعل، و((فارس)) يوسِّد رأسه فوق فخذه، ويغط في نومه. وتنبهت ((إلهام)) واعتذرت أنها انفعلت. قالت لزوجها: |
ـ آسفة.. النقاش مثير، ومتعب! |
ـ بالعكس... كلامك حفزني أن أقدم للمستقبل رجالاً. تعرفي ليه؟.. لأن ((فارس)) وحده لا يكفي.. نفسي في مجموعة فرسان! |
ضحكت.. وانحنت على ((فارس)) تحمله إلى سريره، وهي تقول لزوجها: |
ـ نام فارس وارتحنا من عفرتته، وبقيت أنت العفريت الأكبر! |
ـ أنا.. ليه؟! |
ـ لا تزعل.. إنت العصفور المراهق!! |
|