الشكل الأول! |
* ارتدى ((خالد)) ملابسه في وقت مبكر عن موعد عمله. كانت الساعة لم تتجاوز السابعة صباحاً. وزوجته لم تزل تختفي تحت الغطاء فوق سريرهما.. فلم تتعود منه أن يستيقظ قبل الساعة الثامنة صباحاً، بعدها يتناول إفطاره، ويتجه إلى عمله في حوالي التاسعة. فكر أن يوقظ ((إلهام)) لتحضر له الإفطار، وتردد قليلاً.. ثم كتب لها ورقة صغيرة وضعها بجانب رأسها على الطاولة: |
ـ ((خرجت مبكراً فلا تقلقي.. إلى اللقاء))! |
حين أفاقت ((الهام)) من نومها لم تجد زوجها. اندهشت.. فهو لا يستيقظ في العادة إلا في الثامنة، وتمارس معه كل النداءات، والتربيت على كتفه، والاحتجاج على كثرة نومه، وعلى ثقل نومه.. فلا يستيقظ حتى ينفد صبرها، ويضطرها أحياناً أن تزأر، وأن تتوعده بتركه نائماً حتى يفوت عليه موعد حضوره للعمل. |
ـ ولكن... أين ذهب هذا الرجل منذ هذا الصباح الباكر؟! تساءلت ولم تجد الإجابة.. وبعد أن أفاقت جيداً، وخرجت من الحمام.. لفتت انتباهها تلك الورقة الصغيرة التي تركها لها. تطلعت إلى الساعة. اكتشفت أنها نامت هذا الصباح أكثر من المعتاد.. فبرغم معاناتها وسهرها مع ابنهما ((فارس)) إلا أنها تحرص أن تستيقظ من نومها قبل زوجها لتجهز له الإفطار، ولتقوم بالمهمة الصعبة معه كل يوم، وهي مهمة انتزاعه من الاستغراق في النوم إنه يقول لها دائماً: |
ـ الله.. ما أجمل النوم في الساعات الأولى من الصباح.. إنه مريح، ومطرز بالأحلام الجميلة! |
كانت تسخر منه في كل مرة، وترد عليه: |
ـ طبعاً.. تسهر إلى ما بعد منتصف الليل، وتحلم في النهار، والصباح المبكر عندك يا أستاذ يوافق كده يعني الساعة الثامنة، وأحياناً التاسعة، بعد ما تكون الشمس سخنت، وأنا معاها! |
ابتسمت ((إلهام)).. فمثل هذه ((البهارات)) في عش الزوجية تجعل الحياة ((حادقة))! |
ـ ولكن أين ذهب في هذا الصباح، ومتى استيقظ، وكيف.. وما هي حكاية ((لا تقلقي))؟! |
أعادت السؤال على نفسها، ورأت الساعة قد شارفت على التاسعة والنصف. |
طرأت عليها فكرة.. وتناولت سماعة الهاتف، وطلبت ((خالد)) في مكتبه. أخبروها أنه حضر، وبقي ساعة في العمل، ثم خرج! |
ـ عجيب.. وأين ذهب، ولماذا.. إنه لم يخبرني في الليل بشيء؟! |
حدثت نفسها بهذه الحيرة. وحاولت أن تجيب: |
ـ الرجال لا يقولون لزوجاتهم كل شيء.. لأن تفسيرات الزوجات فوق الحدث! |
ابتسمت ثانية وهي تتذكر هذه العبارة.. لقد قالها لها ((خالد)) ذات ليلة، وهو يمازحها، وهي كانت تصر عليه أن يخبرها بكل شيء يفعله وسيفعله، لأنها شريكة حياته وتخاف عليه! |
يومها.. قال لها متخابثاً: |
ـ هل تشعرين بالشك فيَّ؟! |
ـ أجابته: لا أشك فيك، لأني أثق في حبك لي.. فقط أخاف عليك! |
تخاف عليه فعلاً.. أم تراها لا تستطيع أن تتخلص من طبيعة المرأة في الغيرة على زوجها؟! |
وتناهى إليها صوت ((فارس)) يبكي. توقيت جيد.. لعلها تنشغل بولدها عن هواجسها. |
وأسرعت إلى ولدها. أدخلته الحمام وأبدلت له ملابسه. أحضرت له طعامه وجلست تؤكله. |
ـ لن أطبخ اليوم.. لدينا في الثلاجة خضار.. سأطبخ الرز في الظهر قبل حضور ((خالد)). |
أقنعت نفسها بذلك، ولكن سؤالها عن ((خالد)) لم يغب عن ذاكرتها. |
ـ لعله ذهب في عمل للشركة. دائماً هو يخرج وينهي عملاً لشركته في شركات وإدارات أخرى.. صحيح، ولكنه خرج مبكراً، ولم يتناول إفطاره.. لماذا، وأين ذهب؟! |
مازالت تحدث نفسها. تطلعت إلى الساعة من جديد.. كانت قد بلغت الثانية عشرة. |
ـ لو عاد.. كان قد اتصل، فمن المؤكد أنهم أخبروه. وليه من المؤكد.. يمكن لم يخبره أحد. هل أعيد الاتصال به؟! |
استفتت نفسها.. ولكنه يقول لها دائماً: |
ـ أرجوك لا تتصلي بي في العمل إلا للضروري... إنني مشغول، فلا تحرجيني ولا تعطليني! |
ـ قالت لنفسها: ولكني أنا الآن منشغلة عليه.. ألا يعرف خوفي عليه؟ |
وأدارت قرص الهاتف، وطلبت زوجها. سمعت صوته هذه المرة، وهو يردد: آلو.. آلو. وكأنها وجمت في تلك اللحظة، وأعادت سماعة الهاتف إلى مكانها.. ولكن السؤال تفرع إلى عدة أسئلة: |
ـ متى عاد، وأين كان، ولماذا لم يتصل بي، ولماذا لم يكتب لي في الورقة وجهته؟! |
ولم تستطع أن تقوم بأعمالها في البيت.. كانت بين لحظة وأخرى تهم بأن تطلب زوجها، ثم تتراجع. |
ـ ما هي الحكاية يا ((إلهام)).. حب هذا، والا عشق. أم هو خوف فقط، أم شك؟! |
ولم تجد إجابة عند نفسها. واتجهت إلى المطبخ لتجهز طعام الغداء. |
* * * |
شارفت الساعة على الثالثة بعد الظهر، و((خالد))لم يعد إلى بيته. نظرت إلى ((فارس)) ابنهما، وكان يجلس على الأرض وهو يمد ساقيه بشكل منفرج ويحتوي مجموعة من ألعابه، وبين فترة وأخرى يتطلع إليها كأنه يتساءل، وهو يردد: بابا.. بابا! |
ـ قالت له: بابا في الطريق.. طبعاً اتأخر عن العمل في الصباح، ولازم يكمل عمله على حسابنا! |
وسمعت باب ((الشقة)) يفتح، ورمى ((فارس)) بلعبه، وقام يتطوح وهو ينادي: |
ـ بابا.. بابا! |
ـ قالت له وهو يطالعها بوجهه: حمد الله على السلامة.. بدري، كان لازم نتعشى بدل ما نتغدى! |
ابتسم في وجهها، واتجه إلى غرفة نومه ليبدل ملابسه، وهي تمشي خلفه متحفزة! |
ـ قال لها وهو يبدل ملابسه: بدك نتغدى أكل.. والا نتغدى خصام؟! |
ـ شوف إنت بدك إيه.. خارج من الفجر من غير ما أعرف أنت رحت فين، وراجع لعملك بعد منتصف النهار، وداخل بيتك في وقت العصر! |
ـ يعني كنت فين.. عند الزوجة الثانية في ظنك؟! |
ـ ولا ظن ولا حاجة.. بلاش أقلق عليك. |
ـ شكراً يا حبيبتي.. نتغدى والا لأ؟ |
ـ نتغدى.. إنما الأكل بايت. الله يجازيك، ربَّطت عزيمتي كلها. |
ـ لما أقول لك الخبر راح تفرحي. |
ـ خبر؟!.. خبر إيه؟! |
ـ على مائدة الطعام البايت.. يصير فيه تعادلية: أكل بايت، وخبر طازج. |
ـ ما نخلص من سخريتك أبداً.. هادا الرز جديد وطازج..كل. |
ـ وأنت.. مالك نفس؟! |
ـ ما هو ما راح آكل حتى تقول لي فين كنت؟! |
ـ كنت هناك. |
ـ هناك فين.. لغز؟! |
ـ هناك.. انفِّذ أوامرك. |
ـ أوامري أنا؟! |
ـ نعم.. رحت ياستي إلى مكتب الاستقدام، وقدمت طلب باستقدام خادمة.. تريحك، وتهنيك، وتخليكي تلتفتي شوية لزوجك، وتبطلي زن كل صباح ومساء! |
ـ صح يا حبيبي؟! |
ـ حبيبك؟!.. خلاص وجهك انفرد، والابتسامة رجعت، وحصلت المساواة بينك وبين أختك وجارتك.. ما فيش حد أحسن من حد.. كله عنده خادمة! |
ـ يا حبيبي.. أنا عارفه إني ما أهون عليك.. ها، قل لي.. متى موعد حضورها؟! |
ـ أبلعي ريقك.. إيه، صاروخ؟.. لما تروح الأوراق، وينظروا في أحقيتنا للطلب، وتتحول إلى وزارة الخارجية، وبعدين للسفارة في أندونيسيا. |
ـ ياه.. مشوار طويل. أنا عندي زواج واحدة صاحبتي بعد شهر، والخادمة مفيدة هنا علشان تهتم بابننا ((فارس)) تشيله، وتنتبه له. |
ـ حيلك.. الطلبات كثيرة. وحتى ما تزعلي وتخليني أكمل أكل.. أوعدك إني أخلي ((فارس)) عندي وتروحي إنت الزواج.. أصل أهل صاحبتك ما هم أصحابي. |
ـ والله أحبك.. إنت عظيم! |
ـ عظيم لمدة دقايق.. وبعدين؟! |
ـ يا خالد.. يا حبيبي، أنا بس قلقت عليك، وإنت يا مسكين رحت تعمل طلب استقدام للخادمة علشاني؟! |
ـ حتى تشوفي.. فين ((فارس)) وحشني اليوم جداً. تصوري ما بسته في الصباح وأنا خارج! |
* * * |
استيقظ ((خالد)) من إغفاءته التي تعود عليها بعد الظهر. تمطَّى، وترك سريره، وهو ينادى على زوجته: |
ـ الشاي يا إلهام.. أنا صحيت! |
وجاءه ((فارس)) يشده من يده، ويشير بأصبعه الصغير إلى التليفزيون، وهو يردد: |
ـ سمسم.. سمسم! |
ضحك ((خالد)) وقام معه يفتح له جهاز التليفزيون، وهو يقول له: |
ـ عاجبك، ((افتح يا سمسم))؟! |
ـ قال فارس ضاحكاً وهو يطوح بيديه ويصفق: سمسم.. سمسم. |
((فارس)) تستهويه مقدمة هذا البرنامج.. يحدق في الأطفال وهم يتقافزون ويرقصون، ويرددون: افتح.. ياسمسم، ويحاول أن يقلدهم بقدراته المحدودة.. يحاول أن يتقافز، ويغني، فيسقط! |
ولكن ((فارس)) لا يلبث أن يمل.. تعجبه شخصية ((نعمان)) و ((أنيس وبدر)).. ثم يذهب إلى جهاز التليفزيون، ويصر أن يعبث بمفاتيحه وأزرته، ويغير القنوات.. حتى تمسك به أمه، وتجلسه بجانب أبيه، وهو مازال يردد: سمسم.. سمسم، كأنه لا يريد إلا المقدمة لهذا البرنامج! |
في المساء تعنى أمه بعشائه، وإبدال ملابسه، وتهيّئه للنوم، و((فارس)) يقاوم رغبة أمه.. إنه يريد أن يجلس بجانب أبيه حين مشاهدة المسلسل اليومي. |
ـ قال خالد: شفتي.. جيل آخر زمن.. جيل تلفزيونجي. تلاقيه فاهم أحسن منا! |
ويعيد ((فارس)) حركات يديه، ويصفق ضاحكاً.. ثم يستقر في حضن أبيه، وما يلبث النوم أن يسرقه.. لتبدأ سهرة الكبار: أمه ووالده!! |
|