كوارث في ثلاجة |
* رن جرس الباب في منزل أسرة ((إلهام)).. كان القادم هو ((خالد)) بعد غياب ثلاثة أيام في الرياض. قذف بحقيبة يده فوق مقعد في الصالة.. بينما أسرعت إليه ((إلهام)) وقد لاحظت الإرهاق بادياً على وجهه: |
ـ مالك.. أنت مريض؟ |
ـ لأ.. إنما هلكان من التعب، ومن نوع موجود في الوظائف الصغيرة، هوايته تعذيب الناس.. تعال بكره. معاملتك ما وصلت.. إنما ((فارس)) فين، وحشني جداً؟ |
ـ فارس نايم.. المرة دي بيحلم ما بيتخيل! |
ـ وإنت طبعاً بتتخيلي؟ |
ـ وحشتني.. حالاً نروح بيتنا، أنا جاهزة. |
في الطريق إلى منزلهما، كان ((فارس)) قد استيقظ من نومه، ولم تهدأ حركته في حضن أمه، والتفتت ((إلهام)) نحو زوجها ضاحكة: |
ـ تعرف.. فارس بيرسم! |
ـ حلو.. موهبة مبكرة في العام الأول! |
ـ وجد مجموعة أوراق وقلم رصاص بجانب التليفون عند أمي، وجلس يشخبط، ويلتفت لي ويردد: ماما.. ماما، ويشير إلى الخطوط اللي بيرسمها. |
ـ لازم رسم وجهك! |
ـ خالد؟!.. أنا وجهي شخبطة يعني؟ |
ـ ما أقصد يا حبيبتي.. لكن الطفل في هذه السن لا يعرف إلا أمه، وهي أقرب إليه من والده، والأم عظيمة كما تعرفي، والا إيه؟! |
ـ أحسنت.. لبق ودبلوماسي! |
ـ وعمل إيه كمان؟ |
ـ كان مبسوط مع الورق والقلم، ولما يزهق يتمسك بالأرنب صديقه! |
ـ علماء النفس بيقولوا إن الطفل يعبر عن طاقاته المخزونة من خلال اللعب والرسم أو الشخبطة، وممكن تلاحظي سلوكه عن طريق تصرفه مع اللعبة أو الدمية! |
* * * |
عندما بلغا منزلهما، كان الإرهاق قد نال كثيراً من ((خالد)) فأغفى دون أن يتناول عشاءه، وتركته زوجته ينام ليرتاح حتى الصباح.. ليستيقظ على ندائها: |
ـ الحقني يا خالد.. أرجوك كفاية نوم! |
قام فزعاً، ولكنه كان قد أخذ كفايته من النوم والراحة، غير أن صوتها دفعه ليركض حيث كانت تقف في المطبخ، و((فارس)) يجلس عند قدميها: |
ـ حصل إيه.. فزَّعتيني؟! |
ـ شوف ولدك.. خلاني أدخل الحمَّام، وتسلل إلى المطبخ، |
وحاول الوقوف ليأخذ السكين، وجلس على الأرض يلعب بها حتى جرح أصبعه.. شوف الدم. |
ـ بسيطة.. أعطيني ((المكركروم))! |
ـ بيقولوا البن واحدة بوحدة.. يوقف الدم. |
ـ بن إيه.. أسرعي. |
سكت ((فارس)) عن البكاء، وهو في حضن أبيه. |
وخرج ((خالد)) إلى عمله.. بينما التقت ((إلهام)) مع بداية يومها الجديد لتنظم بيتها، أجلست ((فارس))، في عربته، وأوثقته، ووضعت أمامه أرنبه، وألعابه، وانشغلت بمهمات بيتها. |
واندمج ((فارس)) مع ألعابه.. حين رن جرس الهاتف، فأفزعه، وبكى. |
أسرعت إليه أمه، وحملته، وتناولت سماعة الهاتف.. ثم ما لبثت أن انشغلت عن ((فارس)) بالحديث التليفوني: |
ـ أهلاً سعاد.. والله البارح رجعت البيت بعد أن عاد خالد. |
ـ تعرفي.. انشغلت عند أمي، ونسيت أكلمك، هو موعد البروفة. عند الخياط متى؟ |
ـ .......... |
ـ إن شاء الله يطلع فستانك وفستاني أحسن من فستانها، يا باي عليها.. مغرورة ومقنزحة.. تصوري الفستان اللي كانت لابسته في السهرة الأخيرة قبل شهر، كانت تقول إنها اشترته من باريس، وبعدين نزلت السوق مرة، ولقيت فستان طبق الأصل منه، وقيمته يا ستي ألف ريال، جاهز.. لكن لما تاخده قماش وتخيطه يكلفها أقل! |
ـ .............. |
ـ إيوه صحيح.. الخياطين ما عليهم رقابة، وكل يوم يرفعوا أسعارهم، بس تعرفي بصراحة إحنا اللي بنطمعهم فينا.. يعني لما الخياط يقول: أخيط الفستان بألف ما نعارض، والله إحنا فلوسنا عرق جبين ما هي حجارة! |
طالت المحادثة.. أكثر من ساعة، وفي أثناء هذا الوقت الطويل، تسلل ((فارس)) من جديد إلى المطبخ، وأخذ يحاول أن يفتح الثلاجة، حتى نجح، وبدأ في تفريغ ما خف حمله، وقذف به إلى الأرض، وسكب زجاجة ماء، وعلبة لبن، وأصرَّ أن يسحب إليه صحناً مليئاً ب ((الكرميلا)) وسكبه على ملابسه، وفوق الأرض، وأدخل أصابعه في كل ما انسكب محاولاً أن يأكل ويتذوق. |
صحت ((إلهام)) من الدردشة الهاتفية على صوت صحن ((الكرميلا)) وهو يرتطم بالأرض، ويتحطم.. وأسرعت إلى المطبخ، وهي تضع يديها على رأسها مغتاظة ومتوترة: |
ـ عملت إيه يا جني.. يا توم وجيري مع بعض.. أنت إيه؟! |
بحثت عن الممسحة، وأخذت تنظف. خافت أن يكون الصحن المكسور قد جرحه من جديد. حملت بقاياه إلى كيس الزبالة، وهناك اكتشفت أن ((فارس)) قد ألقى بداخله مجموعة من الملاعق وبعض العلب التي كانت في متناول يده! |
كان لابد أن تستقبل ((خالد)) حين عودته من العمل عدة موشحات بصوت زوجته، فجاءه صوتها مع صوت الباب وهو يفتح: |
ـ تعال انقذني.. أنا خلاص ما عدت أحتمل. |
ـ حصل إيه.. إهدئي علشان أفهم! |
ـ تفهم إيه.. كل ما أقول لازم خادمة، ترد بالمماطلة، أقطّع نفسي يعني.. أعمل ست بيت، ودادة، وخادمة، وطباخة، وغسالة؟! |
ـ إهدئي في الأول، واحكي لي حصل إيه؟ |
ـ حصلت كوارث.. فتح المحفوظ ابنك الثلاجة، وعمل غارة ولا إسرائيل! |
ـ وأنتِ كنت فين؟! |
ـ ها.. كنت مكان ما كنت. |
ـ يعني إيه.. رحت الحمام؟ |
ـ لأ.. هيا كلها خمس دقائق كلمتني فيها سعاد، وبس... |
ـ خمس دقائق، والا ساعة وخمس دقائق؟! |
ـ يعني أنا ناقصاك.. ما اتكلم بالتليفون، انقطع عن الناس.. انعزل؟! |
ـ لأ.. إنما المفروض دا طفل، ويده عمياء زي ما بيقولوا. كيف تتركيه، حتى ولا تشعري بغيابه عن الغرفة؟.. لازم كان حديث مهم؟! |
ـ يوه.. لقيت لك حجة يعني؟ |
ـ يعني ((فارس)) غلطان، وإنت صح؟! |
ـ دافع عن ابنك.. خلاص كلامي كله غلط. غيِّر الموضوع حتى ما نتكلم عن الخادمة! |
ـ والله طلبت تأشيرة، ولما تجي.. أروح بنفسي وأختار لك خادمة، حتى لو طلبتيها من واق الواق.. خلاص، ليه نتخانق كل يوم؟! |
ـ قول لنفسك.. ارحمني قليلاً لو كنت تحبني. |
ـ أحبك.. أموت فيك، إنما ما أحب توترك وعصبيتك، ومغالطاتك! |
ـ أمري ليه.. جبت معاك خبز؟! |
ـ يوه.. والله نسيت في زحمة العمل، وحرصي أني أرجع في موعدي. أروح أشتري!! |
ـ انت كده.. بسيطة، عندي في الثلاجة، نحميه وناكل. |
ـ انت زوجة عظيمة. |
ـ وأنت بكَّاش! |
ـ بكَّاش حاف كده؟! |
ـ بكَّاش... وحبيبي |
* * * |
|