التخيُّل |
* تسلم ((خالد)) تذكرة السفر، وعليها الحجز المؤكد لموعد سفره إلى الرياض بعد الساعة الثامنة مساء، وكان اقتراح مديره أن يسافر في المساء ليبكر منذ صباح الغد في الذهاب لإنجاز مهمته مع بدء الدوام الرسمي، وخوفاً من أن تتأخر الرحلة في الصباح. |
وعندما دخل إلى بيته بعد الظهر.. كانت ((إلهام)) مقطَّبة منذ كانت يوم أمس. |
حاول أن يضحك معها، فلم يجد استجابة، وبحث عن ((فارس)) فوجده يجلس في وسط غرفته قرب سريره، ومن حوله أشكال الألعاب، وهو يعبث بها، منشغلاً عن كل ما يجري في الدنيا! |
أخذه إلى صدره وضمه، وقبَّله، ورفعه إلى أعلى وتلقَّفه، و ((فارس)) يقهقه سعيداً بمرح والده معه، ولكن صوت ((إلهام)) من غرفة الطعام أفسد عليهما هذا المرح، فقد كانت تنادي على ((خالد)) بصوت متوتر وجاف، ليحضر ويأكل. |
ومازال ((خالد)) يتجاوز توتر زوجته، ويتغاضى عن أسلوبها غير الودي منذ اختلفا في صباح الأمس، لكنه لم يجد تفسيراً واحداً لهذا الانقلاب ((الداخلي)) في أعماقها نحوه، وهو يحاول أن يسترجع موقفاً قد يكون أساء فيه إلى ((إلهام)) أو أغضبها. |
حمل طفله بين ذراعيه، وجلس إلى مائدة الغداء.. ينتظر التي نادت عليه دون أن تأتي، ورفع صوته يستعجلها: |
ـ يا الله يا إلهام.. أنا حضرت، والأكل برد. |
ـ قالت تجيبه من غرفة نومها: لا تنتظرني.. ما عندي نفس. |
ـ قال بصوت مرتفع: أنتِ آخده موقف من إيه؟ |
لم ترد عليه، ولم ينتظرها أكثر.. ومد يده ليأكل، وبجانبه ((فارس)) يحاول أن يمد كلتا يديه، ويزحف إلى المائدة.. يريد أن يعبث ويدلق. ونظر إلى ابنه يعاتبه كأنه يفهم: |
ـ وبعدين يا ((فارس)) راح أزعل منك.. أنا أعطيك الأكل. |
((فارس)) يفتح فمه على آخره.. دون أن يعرف والده إن كان يضحك، أو يطلب الأكل. |
ومد ((فارس)) يده نحو ملاعق الأكل، ووضع ملعقة أمامه، ومط جسمه قليلاً يحاول أن يتناول سكيناً. |
اضطرب ((خالد)).. فهو لا يعرف كيف يتعامل معه، وكيف يعطيه الأكل.. هذه مهمة الأم. |
إنه يعرف أن طعام ((فارس)) المفضل هو الحليب.. وفي الصباح عندما تتأخر أمه عن إعطائه وجبة الفطار، فهو يحبو ويزحف حتى يجد علبة الحليب التي أحضرتها أمه، ويتناول العلبة بيديه، ويحاول بكل ما فيه من قوة أن يفتح العلبة.. حتى يصيبه اليأس، فيعمد إلى وضع علبة الحليب على الأرض، ويدق عليها بيديه الصغيرتين ليشعر أمه أو والده بأنه جائع! ولكن الآن.. لا بد أن ((إلهام)) قد أعطته غداءه، فهو يريد أن يلعب فقط. |
لم يتناول ((خالد)) غداءه الكافي.. لقد عكرت زوجته مزاجه، وحمل ((فارس)) بين يديه، وأخذه إلى غرفة النوم، ووضعه بجانب أمه. |
ـ قالت له إلهام: أعمل لك شاي؟ |
لم يجبها، واتجه إلى الحمام ليغسل يديه، وعاد ليغفو كعادته بعد الظهر إغفاءة القيلولة التي تعود عليها برغم أنه حاول التخلص من هذه العادة دون أن يفلح، وغطَّى وجهه بفوطته الصغيرة، وتهيأ للنوم. |
استلقت ((إلهام)) بجانبه، وقد افتعلت حركة غير عادية وهي تستلقي، ولم يعرها التفاتاً. وشعرت أنها فشلت في استفزازه، وملأت يدها إلى كتفه، وهزته، ثم حاولت أن تسحبه إليها ليلفت وجهه نحوها. نظر إليها مغتاظاً. قال: |
ـ نعم.. أوامر السيادة؟! |
ـ أنت ما تنام، لأني أنا ما عندي نوم! |
ـ يا سلام.. أحكام (( قراقوش))، والا فاكرة نفسك ((شجرة الدر)) وأنا ((عز الدين أيبك))؟! |
ـ مين أيبك ده؟ |
ـ دا زوجها يا شجرة الدر.. أحكي لك حكايتها؟ |
ـ أنت عدواني! |
ـ أنا؟.. و ليه، وكيف؟ أ |
ـ أنا زعلانة منك؟ |
ـ أيوه.. وصلنا إلى مربط الفرس. |
ـ أنا ماني فرس.. أنا امرأة! |
ـ آسف.. انت مهرة جميلة، ولكنك أحياناً ((تبرطعين))! |
ـ إيه تبرطعين دي؟.. ألفاظ وحشة! |
ـ أوه أيتها ((الليدي))، معليش. أمرك.. زعلانة ليه، ومن إيه؟ |
ـ زعلانة منك، وليه؟.. لأنك قلت كلمة زعَّلتني، حسيت إنك كنت قاسي عليَّ، وعنيف في المخاطبة، وأنا ما أحب المعاملة اللي تشعرني بها أنك السيد والقوي! |
ـ عجيب وأنا في رأيك لا أستحق أن أكون سيد البيت؟! |
ـ تستحق.. لكن بشرط ما تحاول إنك تمحي شخصيتي! |
ـ أنا؟.. اشرحي لي. |
ـ لما صحَّيتني من النوم، قمت مفزوعة وعاتبتك، وإنت تعرف لما الواحد يقوم من النوم، وانت صعَّدت الخلاف، وأخذت تتكلم معايا بجفاف، وبعدين خرجت وصفقت الباب بشدة. |
ـ صح.. لكن، ما سألت نفسك أنا عملت كده ليه.. مين فينا اللي اضطر الآخر يتكلم بجفاف.. مين اللي بدأ! |
ـ بس الرجل يتحمل. |
ـ إنما الموضوع مختلف.. أصدقيني ما هو السبب؟! |
ـ في الأول.. انت عندك شك إني أحبك؟ |
ـ أبداً، وهذا سبب دهشتي واستغرابي من تصرفك.. صدقيني أنا ما عرفت أعمل في مكتبي. ملّيتيني نكد وغم، وعلشان إيه.. كلمة؟ إذا كان كل واحد فينا يجلس للآخر على كل كلمة، ترى ما راح نعمِّر مع بعض.. راح تدب الخلافات بدون انقطاع! |
ـ تقصد إيه بكلمتك: ماراح نعمِّر، تعني إنك ناوي على نيَّة؟! |
ـ شوفي تحميل الكلام أكتر من معناه يعمل إيه.. هذا أفظع من سوء الظن. |
ـ حقيقي أنا زعلت منك بسبب شيء آخر. |
ـ حلو.. أحبك وإنت صريحة، ونقيَّة.. أفهم؟ |
ـ قبل ثلاثة أيام قلت لك حكاية عن ولدنا ((فارس)).. كنت لاحظت عليه إنه أحياناً يشرد بأفكاره بعيداً عني. |
ـ أفكاره إيه.. هو عنده أفكار في الشهور الأولى دي؟! |
ـ معليش.. أقصد كأنه يتأمَّل، يفكِّر، ولما سألتك في الليل، أجبتني بكلمة خلتني أفكر فيها بقلق! |
ـ أذكر بالفعل، وقلت لك: الطفل في السنة الأولى يفكر ويتخيَّل أشياء لا نعرفها، ويتبلور عنده التفكير كلما كبر.. وقرأت مرة أن الطفل من ثلاث سنوات إلى حوالي السابعة من عمره يستغرق في تخيلات، والمهم أن الأبوين يلاحظان أن هذا التخيُّل ليس بسبب مرض، أو تخلف عقلي لا سمح الله. |
ـ جميل.. وقلت إيه كمان؟! |
ـ فقط.. لم أزد على ذلك، إلا.. لو كنت أمزح معك! |
ـ مزح لما تقول: الطفل يتخيل في السنوات الأولى دنيا الكبار الغريبة عليه، ولما يكبر يتخيل امرأة لو كان ذكراً، ورجلاً لو كانت أنثى؟! |
ـ صح.. وفيها إيه؟! |
ـ فيها إنك بتوحي لي إنك بتتخيَّل شيء،بالإضافة إلى أني ملاحظة سرحانك في الأيام دي! |
ـ بالله انت سخيفة للدرجة دي؟ |
ـ لأ.. إنما كنت شارد الذهن لعدة أيام ليه، بتفكر في مين، وأعصابك في خشمك! |
ـ لأن الرجل بعد أن يتزوج، وبالذات لما يختار زوجته، أو يوافق على اختيار الأهل لها.. فمعنى ذلك أنه ارتضاها وأحبها، وبعدين.. ليه أفكر في امرأة أخرى وأنت جميلة، وواعية وذكية، أما السرحان.. على رأيك فشيء طبيعي أفكر في العمل، في المستقبل، في قضية فلسطين!! |
ـ خلاص.. انت اعترفت. |
ـ ما كنت أنكر قبل ما تفصحي عن أفكارك الأخيرة! |
ـ من حقي أن أغار عليك. |
ـ من حقك لو عرفت أي شيء حقيقي، لكن تتخيَّلي تماماً مثل طفلك ده، تبقى كارثة... إلاَّ قولي لي فين فارس، ما هو في الغرفة؟ |
ـ صحيح.. هو راح فين. فارس... فارس. |
ـ قفز ((خالد)) من فوق سريره يركض في أرجاء ((الشقة)) بحثاً عن ((فارس)).. ولحقت به ((إلهام)) قلقة، ووجدت ((خالد)) يقف أمام باب الحمام ويضحك. مدّت رأسها لترى ((فارس)) قد أغرق نفسه وملابسه بالماء، بعد أن فتح صنبور الماء، وتناول صابونة كانت موضوعة على حافة المغطس، وأخذ يمرِّرها فوق بلاط الحمَّام حتى ملأ الأرض بالماء والصابون، وهو يحاول أن يتزحلق، وقطعة أخرى من الصابونة في فمه! |
خفَّت إليه أمه تحمله، وهي تضربه على أصابع يده حانقة: |
ـ عملت إيه أيها الشقي؟! |
((فارس)) رفع صوته بالبكاء، محتجاً على انتزاعه من هذه اللعبة التي استهوته. بدَّلت له أمه ملابسه وجفَّفَته وهو يواصل البكاء. |
نظر إليها ((خالد)) وهو يبتسم ساخراً: |
ـ مبسوطة كده.. حوار بيزنطي وفارغ، نسَّانا الولد، والحمد لله ما عمل حاجة تانية. |
ـ الولد الشقي.. يعني إنه حيوي! |
ـ أفادكم الله.. فين حقيبتي حتى ألحق الطائرة. |
ـ راح تغيب كم يوم يا خالد؟ |
ـ كم يوم إيه.. لو خلصت العمل بكره.. أرجع إن شاء الله، |
أنا رايح فين.. المكسيك؟! |
ـ راح توحشني. |
ـ والله؟.. الآن أوحشك، ولما كون في وجهك تبحثي عن المشكلات! |
ـ حاول ما تتأخر.. أحسن فارس ما يطيق غيابك يوم واحد. |
ـ فارس لوحده؟ |
ـ لأ.. وأم فارس في الأول! |
* * * |
|