بطن ((أَلْبِسَّه))! |
* تعود الضحكات تجمعهما حول ((فارس)) الذي لا يعي من دنياه شيئاً.. ولكنه يتطلع إليهما بنظرات غير مستقرة. |
ويطوِّح ((فارس)) بقدميه وبيديه تارةً، ويبتسم لهما تارةً أخرى، ويبكي أحياناً لأنه جائع، أو لأنه يعاني من مغص.. لا يقدر أن يعبِّر عنه، أو يشكو منه! |
وفي تلك الليلة.. ازداد بكاء ((فارس))، والأم حائرة لا تدري ماذا تفعل.. خبرتها في هذا المجال منعدمة. والكتب الذي جاء بها ((خالد)) لتقرأها، ركزت على تربية الطفل.. أما معلوماتها الطبية.. فلا شيء! |
والأب.. يحاول أن يهدئ طفله، ويضحكه، ويلاعبه، دون جدوى. |
والتقطته ((إلهام)).. تدور به أرجاء الغرفة، والبيت... و((خالد)) يتابعها بعينيه حيناً، وهو يشعر بالعجز، ويقف محاولاً إسكات الطفل حيناً آخر! |
وينفد صبره.. فيطلب من ((إلهام)) أن يحملا الطفل إلى المستشفى. |
ـ ترد عليه: أيُّ مستشفى في هذا الوقت المتأخِّر من الليل؟.. سنجد الإسعاف، ولا يوجد طبيب مختص بالتأكيد، والطبيب المناوب سيعطيه مهدِّئاً لا أكثر! |
ـ قال لها: مهدِّئ، مهدِّئ.. لا بأس، فالمهم أن ينام بدلاً من هذا العذاب.. ينتظرني عمل في الصباح، فارحميني أرجوك |
ـ قالت: وهل أنا التي أؤلمه؟ |
ـ قال: أنت لا ذنب لك، ولكن.. لا بد أن نتصرف. |
ـ قالت: ولو كان يشكو من مرض.. أفلا يصح أن المهدِّئ سيؤذيه؟ |
ـ قال: يا حبيبتي.. الطبيب على كل حال أعرف منك ومني، ولن يؤذيه. |
ـ قالت: يا ربي.. ليتني أعرف ألمه وعلاجه. |
ـ قال بإصرار: الطيب سيعرف.. خلصينا. |
وطرأت على ذهن ((إلهام)) فكرة.. فسألت زوجها: |
ـ ما رأيك لو حادثت أمي بالتليفون، أسألها.. فهي مجرِّبة؟! |
ـ وما هو الاعتراض على الطبيب.. إن الطفل يصرخ؟! |
ـ يا سيدي الوقت متأخر. |
ـ ولماذا يفتحون المستشفيات والعيادات المناوبة؟! |
ـ لقد سمعت أمي تقول في مثل هذه الأحوال، تعني عندما يبكي الطفل بشدة: فإن السبب يرجع لألم في أذنه، أو... يمكن من بطن ((الْبسَّة))! |
ـ بطن الأيه؟! |
ـ ((البسَّة)) يا خالد.. القطة يعني، وهذه الحالة معناها أن الطفل يشكو من مغص شديد. |
ـ أفادكم الله.. ولكن، هل بطن ((البسَّة)) أو القطة أو الهرة.. دائماً ممغوصة؟ |
ـ حضرتك بتتريق؟ والله ما أدري.. اسأل الكبار اللي جابونا وربونا! |
ـ والله لهم حكم عجيبة! |
ـ الآن ما هو وقت مزاح وسخرية.. الولد يتألم، وعلى العموم أمهاتنا القدامى وجدّاتنا يعرفون أحسن من بعض الأطباء المتخصصين. |
ـ بالله.. هل هذا كلام واحدة جامعية؟.. ((بسَّة)) إيه يا شيخة؟! |
ـ يا خالد.. الولد يتألم. |
ـ الوقت يا سيدتي تبدَّل، وحتى أنواع الحليب اتغيرت. |
ـ على رأيك.. إنما لو كان كل أم تحرص أنها تغذِّي طفلها في الشهور الأولى على الأقل من صدرها.. كان الأطفال ما اتعرضوا لأمراض متعددة، ولا لتقلبات المعدة! |
ـ حلو.. كلام مثقفين ومتعلمين.. إنما قولي لنفسك! |
ـ قصدك إيه؟ |
ـ قصدي إنك حرمت الولد من الرضاعة الطبيعية. |
ـ ما انت عارف.. صدري ما فيه حليب، وكمان لا تنسى يا فيلسوف الغبرة أن أمهاتنا اللي كانوا يرضّعوا من صدورهم، كان أطفالهم بيتألموا من بطن ((البسّة))! |
ـ يا دي ((البسّة)) وبطنها! |
ـ خلاص.. أنت اللي بتناقش. |
ـ يا ستي ارحميني.. خلينا نروح المستشفى قبل ما يطلع الصَّباح! |
* * * |
وأذعنت ((إلهام)) بعد إلحاح زوجها، وقد تضاعف صراخ ((فارس)).. فحملته على كتفها بعد ارتداء عباءتها! |
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل، والشوارع تبدو خالية وجميلة، بينما ((فارس)) وضع رأسه على كتف أمه ونام.. كأنه لم يكن يريد سوى الخروج من البيت، أو ((الفسحة)) ليستمتع بجمال الهدوء في الليل. |
والتفتت ((إلهام)) إلى زوجها مبتسمة، تقول: |
ـ فارس نام.. باين عليه شقي وعنيد، مثل أبوه! |
ـ قال ضاحكاً: والاّ يمكن ((البسّة)) طلعت من بطنه، لما فتحنا باب الشقة! |
ـ قالت: تعرف يا ((خالد)).. أنا مرة سألت ابن عمي الدكتور ((عصام)) عن حكاية بطن ((البسّة)) هذي.. وأن السبب في الغالب يأتي من تعدد أنواع الحليب المعلب. |
ـ وأفتى الدكتور عصام بإيه، لما سمع عن بطن ((البسّة))؟ |
ـ بلاش تريقة يا خالد.. أنا ما قلت له بطن ((البسّة)).. صحيح سألته عن المغص الذي يصيب الأطفال في شهورهم الأولى، فقال لي: صحيح إن السبب من تعدد أنواع الحليب، أو من إعطاء الطفل أي حليب بدون استشارة الطبيب لتحديد النوع الملائم للطفل.. وقال أيضاً....... |
وصمتت.. كأنها تذكرت شيئاً، وأرادت أن تستدرك. |
ـ فقال خالد: أنا أكمل الذي قاله ابن عمك.. بذمتك، ما قال أن أحسن غذاء للطفل هو من صدر أمه؟! |
ـ قالت: لو كان صدري فيه حليب ما كان بخلت.. إنما أنت ((بتنق)) ليه، ما هو أنتم الرجال لو كنتم كما الستات، وتؤدون واجب الرضاعة.. كان اخترعتم صدراً صناعياً يطلع منه حليب صحي! |
ـ قال: تعترفين إذن.. إن الرجال هم الذين يقدرون على الاختراع؟! |
ـ قالت: يوه... دائماً تخلط الجد بالهزل، ومع ذلك، ومهما فعلتم.. فأنتم في حاجة إلى صدر الأم! |
ـ قال ضاحكاً: صدر الأم فقط؟.. الرجل يا حبيبتي طفل مهما كبر.. لأنه يحتاج إلى صدر حنون، ولا يوجد الصدر الحنون إلا عند المرأة.. سواء كانت أماً، أو زوجة! |
ـ رشوة يعني؟! |
ـ والله أنا تعبان.. واحتاج إلى صدر حنون علشان أضع عليه رأسي، وأنام مطمئناً. |
ـ ويهون عليك ((فارس))، يجلس لوحده من غير صدر؟! |
ـ فارس قام، واحنا قربنا من المستشفى.. تلاقيه بيحلم بحليب حضاري.. أصله طالع ولد عفريت! |
ـ من شابه أباه! |
ـ نعم.. عفريت حضاري، وعفوي، ويبحث عن الله! |
ـ وصلنا للمستشفى.. بطِّل رغي. |
* * * |
وخرجا من المستشفى بعد أن عرضا ((فارس)) على الطبيب المناوب، ولم يكن أخصائياً بالطبع.. وكما توقعت ((إلهام))، فقد أعطاه مسكناً، وطلب منهما أن يعودا به في الصباح ليراه الطبيب المختص. |
ونام ((فارس)) مستغرقاً.. بينما تهيأ ((خالد)) للنوم، وهو يهمس لزوجته: |
ـ الولد كده ارتاح.. شيء أحسن من لا شيء، لو كان وافقتي من بدري؟! |
ـ قالت: لكني قلقة.. ما راح أنام. |
ـ قال: يا ستي.. أكيد أنها بطن ((البسَّهْ))، والحمد لله إنها لم تكن بطن ((ألبس)) تبقى مشكلة! |
ـ قالت: والله أنت فايق.. يا عيني على قلب الأم.. أنا يستحيل أنام، يمكن يصحى من الألم بعد شوية. |
ـ قال مغتاظاً: وأنا عندي شغل من بدري، كده حرام، والساعة حوالي خمسة إلاّ، وبكره نرجع به للمستشفى لتطمئني، وحتى لا يكرر الموشَّح في الليل. |
ـ قالت: الرجال صدورهم واسعة. |
ـ قال: يعني أعمل إيه أكثر من كدة؟ |
ـ قالت: ولا حاجة.. نام يا شيخ.. نام! |
ولم يكد ((خالد)) يستغرق في النوم.. حتى أيقظه بكاء ((فارس)) من جديد. وكانت ((إلهام)) قد استغرقت هي الأخرى في النوم متعبة.. فقام ((خالد)) يحبو، ويقفز من فوقها إلى سرير الطفل. |
التقطه.. وأخذ يدور به في أرجاء الغرفة، وبكاؤه لا يتوقف. وحاول أن يوقظها عدة مرات.. فكانت تهمهم بكلام غير مفهوم! |
ـ وهمس لنفسه: أمهات آخر زمن.. أمهات من الرجال! |
ولم يحتمل بعد مرور وقت من المعاناة مع الطفل.. فأخذه ووضعه بجانبها لتحس به، لعلها تستيقظ! |
ونجح.. فأخذت ((إلهام)) طفلها إلى صدرها، فسكت ونام. وابتسم ((خالد)).. لقد أصبحت مشكلته الآن: كيف ينام هو؟! |
ليس عند ((إلهام)) سوى صدر واحد.. ومنذ مولد ((فارس)).. أصبح ينام وكأنه في صدر معلب!! |
* * * |
|