شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء "حبة" رمل!
(1)
● وحيداً فوق رمل أرجواني، في صحراء رحبة.. بلا زوايا، ولا جدار، ولا حدود!
كان يجلس مع بدء دخول المساء... وقد هرب بنفسه من نفسه.
وحيداً... معلق النظرة في نجمة المساء الحائرة، التي لم تستقر بعد.
شروده... يبعثر خواطره القلقة، وكأنه قد انفصل عن المكان والزمان، وطفق يركض نحو البعيد... هرباً، أو لحاقاً بشيء!
في ذيول نهار ميت الأنفاس، ودخول مساء يعلن عن التأمل والإصغاء.. كان نبضه يعلو، وكان ما حوله صمت يعذبه!
تلفت حوله. المساحة واسعة بلا حدود. الرمل الذي يجلس فوقه ارجواني.
الصمت حوله، وصوت فيروز ينبعث من داخل سيارته. وخيل إليه أن صوت فيروز قد انتحر في هذا الصمت.
فكيف ينتحر صوت أعطاه يوماً الإحساس بأنه يغتسل من كل كدره وغبار نفسه؟! وعلت الظلمة. حدق فيها، وقد اختفى القمر داخل السحب. تعالت أصداء من داخل نفسه تنادي: - أيها الرمل الأرجواني، أيتها الأرض - الأصل. جحد الإنسان أصالتكما، فلم يتعلم منكما فلسفة تمسك الرمل بالأرض. رغم تناهب الريح لها: رغم العواصف والأعاصير. إنه - بهذا الصلب - لا ينعي الإصرار، ولا الوفاء..
إنه - فقط - يتذوق الرمل الأرجواني.. كأن له نكهة.. إنها نكهة الأرض.
إن الأرض لا تلد البشر، لأنهم يجحدون. إنها تضخم البشر رفاتاً، لتبقى الأرض بعد ذلك حبلى بأجسادهم!
(2)
أضاءت وجهه دمعة.. تومض كقطرة الزئبق.
الزئبق.. تمنى أن يغتسل به يوماً، وهو متفائل أن يبرأ من جراح قديمة.
أصبح قلبه ناصع البياض، لكن حدقتيه مجروحتان!
تلفت حوله من جديد، فلم يعد يرى بالتحديد شيئاً... إلا المدى، والنجوم، والقمر، والسحب التي تخطف القمر، وتعيده في لعبة متواصلة.
مازال الصمت حوله، والصدى يرجع إليه من عهد قديم صوت "ثومة" وهو يردد:
ـ "ولا يعرف الحزن مطرحنا، ولا يجينا"!!
حدق في الظلمة أمامه، وقد اختفى القمر في تلافيف السحب.
ليل طويل هذا. بقعة حبر جفت بعد أن استقرت فوقها ريشة رسام.
مازالت اللوحة ناقصة، وهو يبحث عن اكتمال اللوحة!
لابد أن ينفي "الكذب" من عالمه، ولكن... كيف؟!
حتى العواطف تلوثت بالكذب.
في الكذب تختفي الواقعية التي يرتطم بها البشر بدوافع مادياتهم.
أصبحوا يطلقون على "الكذب" اسم وصفة: الواقعية!!
مهما كانت جودة التمثيل... فقد فشل الشيطان أن يوهم البشر أنه لم يكن شيطاناً.
الحب صدق... والكذب "علاقة" تبدأ برغبة، وتنتهي إما بشلل الرغبة، وإما بتفريغها.
إنها لحظة واحدة.. قد يأخذ
الإنسان فيها "ما رغب"... لكن هذه الحصيلة لا تمنح انتصار البهجة على الشجن المزروع في الأعماق. ولا انتصار الصدق على الكذب المتموه!
لحظات الشجن، هي ملامح الحزن المتسامي ... ذلك الذي يعطي التعبير عن المحبة التي لا تموت، ولا تترمد.
إنها استشعار الإنسان لحقيقته، وهو يحب بمعانيه الصافية والأصيلة كحبة الرمل التي تتقاذفها الأعاصير، لكنها تظل متمسكة بما أحبته، والتصقت به، وتفانت فيه : الأرض!
كذلك الحب... معنى يتبلور في هذه الصورة التي قالها إنسان فياض:
ـ "حب بلا وهم، ولا خوف، ولا مبالغة. حب... يشبه قوس قزح ... وقد تحول إلى تاج ... يستقر على قلبين ... يحس كل منهما بالآخر"!
(3)
كان يتوق إلى صوت "فيروز":
ـ "القمر بيضوي ع الناس، والناس بيتقاتلوا.
ع مزارع الأرض الناس ... ع حجارة بيتقاتلوا"؟!
تقبض كفه على الرمل ... فما تلبث حبات الرمل أن تتسلل من بين أصابعه، ويبقى في كفه ذلك الاختراق، والانفعال، والضياع.
كل التجارب والاكتشافات التي أجراها الإنسان على وجه الأرض، وفي أعماقها ... لم تستغن عن ذرات الرمل، ولا عن هذا التراب.
حفر الإنسان التراب، وتوغل في التربة ... زراعة، وقواعد لبيوت ومنشآت.
وعاد الإنسان إلى الرمل ... إلى التراب، ليجعلها أديماً، وغطاء!
في داخل النفوس تكتشف ...
ومن داخلها يأخذنا الفرح، والغرور... فنستزيد منها ونرتطم.
ومن داخلها ... يمتصنا الحزن. والضعف.. فنستزيد من التجارب!
لكن طبيعة النفس تبقى دائما كحبات الرمل.... وتبقى أصالة الإنسان هي نتيجة تلك التجارب.
والأماني لا يمكن أن تتحول إلى تجارب. الأماني مفتاح الحرية.
إننا بذلك نحيل أمانينا إلى "رقيق" يخضع لرغباتنا!!
(4)
تحيا أحاسيسنا - إذن - من موت محقق... بجرعة حب.
تصبح سرمدية حينما تعيش على أديم الرمل النقي، الرافض للكذب.
ويرتبط الرمل - غالباً - بالذكرى:
"كم بنينا من حصاها أربعاً
وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقا الرمل فلم
تحفظ الريح، ولا الرمل وعى"!
وينغمر الإنسان أحياناً في أقنيته المتعددة.
الأقنعة مرهونة بوهن "الخيط" الذي يشدها على الوجه، والذين يرتدون تلك الأقنعة لا يتأكدون من متانة الخيط... من قدرتهم على ما يريدون بهذه الأقنعة!
(5)
كانت أصابع يده تداعب حبات الرمل... وقد طافت به خواطره في هذه النفسية، والشعورية.
وتمطت ساعات الليل. لزجت أنفاس الصمت.
شعر أن الحياة عادت إلى هذا الليل بطيئة.
أراد أن يتأمل نفسه من الداخل. أن يشاهد أعماقه.
لم يعد ذلك الميت في الصمت والوحدة، حين قذف نفسه على الرمل مع بداية المساء.
ربما انتصر الأمل في وجدانه من جديد... وهو يتأمل، ويتوحَّى، ويسترجع... عبر هذه الرحلة.
ربما أعادت أنفاسه المتقدة: الروح إلى الليل.
كثير من أشيائنا التي تموت برفض الآخرين الذين أحببناهم... تحيا من جديد بتسامحنا!
(6)
عاد يتوق إلى صوت "فيروز" وهي تردد:
ـ "يا شعرها الناطر شي إيد تجدلو.
بعدك صغير عالمحبي، والعتاب"!
أفاقت معانيه كلها... كأنها تحادثه:
ـ مستحيل أن يقدر الصمت على قتل الأمل.
(صوت - فيروز - في أحاسيسه: جرعة من وريد الليل... يحييه من جديد).
ـ مستحيل أن تتطاول سلبية الصمت، ووحشية الليل في الوحدة، فتخنق الآهة. وتمنع تجول الخفقة، وتصادر التفاؤل.
لم يكن رومانسياً في مشاعره بالقدر المكثف. كان حزيناً فقط!
كان عاشقاً... وهذا هو منطق الأمل: المبدأ وفاء. لم يكن الوفاء مبدأ!!
منطق الأمل: أن نحب!
لكي نحب... علينا أن نحافظ على مناخ النفس... حتى لا تصيب البرودة قلوبنا!
(7)
امتلأت كفه - هذه المرة - بحفنة من الرمل.
تلاصقت أصابعه.. فتعذر على الرمل أن يتسرب من بينها.
ابتسم في كثافة الصمت، والليل... واشرأب عنقه إلى السماء.
رأى الغيوم تفرج عن القمر، وتطلق سراح ضيائه.
رأى النجوم تطرز السماء... ولمعت حبة رمل فوق كفه.
التقط حبة الرمل التي لمعت، وخبأها في جيبه.
كان أجمل ما كسبه: موعد مع حبة رمل!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :767  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 54 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج