| سطر...بدفء "حبة" رمل! |
| (1) |
| ● وحيداً فوق رمل أرجواني، في صحراء رحبة.. بلا زوايا، ولا جدار، ولا حدود! |
| كان يجلس مع بدء دخول المساء... وقد هرب بنفسه من نفسه. |
| وحيداً... معلق النظرة في نجمة المساء الحائرة، التي لم تستقر بعد. |
| شروده... يبعثر خواطره القلقة، وكأنه قد انفصل عن المكان والزمان، وطفق يركض نحو البعيد... هرباً، أو لحاقاً بشيء! |
| في ذيول نهار ميت الأنفاس، ودخول مساء يعلن عن التأمل والإصغاء.. كان نبضه يعلو، وكان ما حوله صمت يعذبه! |
| تلفت حوله. المساحة واسعة بلا حدود. الرمل الذي يجلس فوقه ارجواني. |
| الصمت حوله، وصوت فيروز ينبعث من داخل سيارته. وخيل إليه أن صوت فيروز قد انتحر في هذا الصمت. |
| فكيف ينتحر صوت أعطاه يوماً الإحساس بأنه يغتسل من كل كدره وغبار نفسه؟! وعلت الظلمة. حدق فيها، وقد اختفى القمر داخل السحب. تعالت أصداء من داخل نفسه تنادي: - أيها الرمل الأرجواني، أيتها الأرض - الأصل. جحد الإنسان أصالتكما، فلم يتعلم منكما فلسفة تمسك الرمل بالأرض. رغم تناهب الريح لها: رغم العواصف والأعاصير. إنه - بهذا الصلب - لا ينعي الإصرار، ولا الوفاء.. |
| إنه - فقط - يتذوق الرمل الأرجواني.. كأن له نكهة.. إنها نكهة الأرض. |
| إن الأرض لا تلد البشر، لأنهم يجحدون. إنها تضخم البشر رفاتاً، لتبقى الأرض بعد ذلك حبلى بأجسادهم! |
| (2) |
| أضاءت وجهه دمعة.. تومض كقطرة الزئبق. |
| الزئبق.. تمنى أن يغتسل به يوماً، وهو متفائل أن يبرأ من جراح قديمة. |
| أصبح قلبه ناصع البياض، لكن حدقتيه مجروحتان! |
| تلفت حوله من جديد، فلم يعد يرى بالتحديد شيئاً... إلا المدى، والنجوم، والقمر، والسحب التي تخطف القمر، وتعيده في لعبة متواصلة. |
| مازال الصمت حوله، والصدى يرجع إليه من عهد قديم صوت "ثومة" وهو يردد: |
| ـ "ولا يعرف الحزن مطرحنا، ولا يجينا"!! |
| حدق في الظلمة أمامه، وقد اختفى القمر في تلافيف السحب. |
| ليل طويل هذا. بقعة حبر جفت بعد أن استقرت فوقها ريشة رسام. |
| مازالت اللوحة ناقصة، وهو يبحث عن اكتمال اللوحة! |
| لابد أن ينفي "الكذب" من عالمه، ولكن... كيف؟! |
| حتى العواطف تلوثت بالكذب. |
| في الكذب تختفي الواقعية التي يرتطم بها البشر بدوافع مادياتهم. |
| أصبحوا يطلقون على "الكذب" اسم وصفة: الواقعية!! |
| مهما كانت جودة التمثيل... فقد فشل الشيطان أن يوهم البشر أنه لم يكن شيطاناً. |
| الحب صدق... والكذب "علاقة" تبدأ برغبة، وتنتهي إما بشلل الرغبة، وإما بتفريغها. |
| إنها لحظة واحدة.. قد يأخذ |
| الإنسان فيها "ما رغب"... لكن هذه الحصيلة لا تمنح انتصار البهجة على الشجن المزروع في الأعماق. ولا انتصار الصدق على الكذب المتموه! |
| لحظات الشجن، هي ملامح الحزن المتسامي ... ذلك الذي يعطي التعبير عن المحبة التي لا تموت، ولا تترمد. |
| إنها استشعار الإنسان لحقيقته، وهو يحب بمعانيه الصافية والأصيلة كحبة الرمل التي تتقاذفها الأعاصير، لكنها تظل متمسكة بما أحبته، والتصقت به، وتفانت فيه : الأرض! |
| كذلك الحب... معنى يتبلور في هذه الصورة التي قالها إنسان فياض: |
| ـ "حب بلا وهم، ولا خوف، ولا مبالغة. حب... يشبه قوس قزح ... وقد تحول إلى تاج ... يستقر على قلبين ... يحس كل منهما بالآخر"! |
| (3) |
| كان يتوق إلى صوت "فيروز": |
| ـ "القمر بيضوي ع الناس، والناس بيتقاتلوا. |
| ع مزارع الأرض الناس ... ع حجارة بيتقاتلوا"؟! |
| تقبض كفه على الرمل ... فما تلبث حبات الرمل أن تتسلل من بين أصابعه، ويبقى في كفه ذلك الاختراق، والانفعال، والضياع. |
| كل التجارب والاكتشافات التي أجراها الإنسان على وجه الأرض، وفي أعماقها ... لم تستغن عن ذرات الرمل، ولا عن هذا التراب. |
| حفر الإنسان التراب، وتوغل في التربة ... زراعة، وقواعد لبيوت ومنشآت. |
| وعاد الإنسان إلى الرمل ... إلى التراب، ليجعلها أديماً، وغطاء! |
| في داخل النفوس تكتشف ... |
| ومن داخلها يأخذنا الفرح، والغرور... فنستزيد منها ونرتطم. |
| ومن داخلها ... يمتصنا الحزن. والضعف.. فنستزيد من التجارب! |
| لكن طبيعة النفس تبقى دائما كحبات الرمل.... وتبقى أصالة الإنسان هي نتيجة تلك التجارب. |
| والأماني لا يمكن أن تتحول إلى تجارب. الأماني مفتاح الحرية. |
| إننا بذلك نحيل أمانينا إلى "رقيق" يخضع لرغباتنا!! |
| (4) |
| تحيا أحاسيسنا - إذن - من موت محقق... بجرعة حب. |
| تصبح سرمدية حينما تعيش على أديم الرمل النقي، الرافض للكذب. |
| ويرتبط الرمل - غالباً - بالذكرى: |
| "كم بنينا من حصاها أربعاً |
| وانثنينا فمحونا الأربعا |
| وخططنا في نقا الرمل فلم |
| تحفظ الريح، ولا الرمل وعى"! |
|
| وينغمر الإنسان أحياناً في أقنيته المتعددة. |
| الأقنعة مرهونة بوهن "الخيط" الذي يشدها على الوجه، والذين يرتدون تلك الأقنعة لا يتأكدون من متانة الخيط... من قدرتهم على ما يريدون بهذه الأقنعة! |
| (5) |
| كانت أصابع يده تداعب حبات الرمل... وقد طافت به خواطره في هذه النفسية، والشعورية. |
| وتمطت ساعات الليل. لزجت أنفاس الصمت. |
| شعر أن الحياة عادت إلى هذا الليل بطيئة. |
| أراد أن يتأمل نفسه من الداخل. أن يشاهد أعماقه. |
| لم يعد ذلك الميت في الصمت والوحدة، حين قذف نفسه على الرمل مع بداية المساء. |
| ربما انتصر الأمل في وجدانه من جديد... وهو يتأمل، ويتوحَّى، ويسترجع... عبر هذه الرحلة. |
| ربما أعادت أنفاسه المتقدة: الروح إلى الليل. |
| كثير من أشيائنا التي تموت برفض الآخرين الذين أحببناهم... تحيا من جديد بتسامحنا! |
| (6) |
| عاد يتوق إلى صوت "فيروز" وهي تردد: |
| ـ "يا شعرها الناطر شي إيد تجدلو. |
| بعدك صغير عالمحبي، والعتاب"! |
| أفاقت معانيه كلها... كأنها تحادثه: |
| ـ مستحيل أن يقدر الصمت على قتل الأمل. |
| (صوت - فيروز - في أحاسيسه: جرعة من وريد الليل... يحييه من جديد). |
| ـ مستحيل أن تتطاول سلبية الصمت، ووحشية الليل في الوحدة، فتخنق الآهة. وتمنع تجول الخفقة، وتصادر التفاؤل. |
| لم يكن رومانسياً في مشاعره بالقدر المكثف. كان حزيناً فقط! |
| كان عاشقاً... وهذا هو منطق الأمل: المبدأ وفاء. لم يكن الوفاء مبدأ!! |
| منطق الأمل: أن نحب! |
| لكي نحب... علينا أن نحافظ على مناخ النفس... حتى لا تصيب البرودة قلوبنا! |
| (7) |
| امتلأت كفه - هذه المرة - بحفنة من الرمل. |
| تلاصقت أصابعه.. فتعذر على الرمل أن يتسرب من بينها. |
| ابتسم في كثافة الصمت، والليل... واشرأب عنقه إلى السماء. |
| رأى الغيوم تفرج عن القمر، وتطلق سراح ضيائه. |
| رأى النجوم تطرز السماء... ولمعت حبة رمل فوق كفه. |
| التقط حبة الرمل التي لمعت، وخبأها في جيبه. |
| كان أجمل ما كسبه: موعد مع حبة رمل!! |
|
|