سطر...بدفء "كف"! |
(1) |
● أعلنت المضيفة عن إطفاء إشارة ربط الحزام. |
ضغط على زر كرسيه ليدفع بظهره إلى الوراء. أسند رأسه على وسادة صغيرة. ألقى بساقيه إلى الأمام، متخذاً وضع النوم... |
حتى تمر ساعات الرحلة الطويلة دون أن يشعر بها، ويريح عينيه وجسمه من سهر الليلة الماضية. |
ـ قال لصديقه بجانبه: ألا تنام قليلاً؟! |
ـ بل أريد أن أقرأ...فرصة أن نعوض وقت الأرض بوقت ما بين السماء والأرض. |
ابتسم وهو يغمض عينيه، ثم همس لصديقه: |
ـ لكن... أيقظني عند إحضار المضيفة للطعام، فأنا جائع! |
ـ سأله صديقه: جائع للطعام؟! لكن المضيفة لم تمهله وقتاً طويلاً ليستغرق في النوم. كان قد أغفى.... فإذا به يشعر بيد ناعمة تربت على كتفه. حدق في وجهها وهي تسأله: |
ـ هل تريد أن تأكل، أم تنام؟! |
ـ أجابها ساخراً: لقد أيقظتني.. فلا بد أن آكل! |
التفت إلى صديقه بجانبه، وكان مستغرقاً في قراءة كتاب معه. سأله: ألم تشاهد المضيفة.. ابتسامتها صافية جداً كنبع ماء. |
ـ أيها العجوز الأصلع.. انهد يا شيخ، إنها فتاة عادية جداً. |
ـ أبداً... ابتسامتها تفيض بألوان من المعاني، كأنها قوس قزح. |
ـ إنها تمنح هذه الابتسامة للجميع... هذا هو الاشتراط الرئيسي في عملها. |
ـ ابتسامتها دخلت قلبي.. |
ـ بل دع هذه الابتسامة تتزحلق من فوق صلعتك...هذا أفضل لك! |
(2) |
حملت المضيفة إليه طبق الأكل.. وهو يعاود التحديق في نفس تلك الابتسامة التي خيل لصديقه أن كل مضيفة تلبسها وقت الشغل لئلا يغضب منها الركاب! |
ـ سألها: أنت عربية... ها؟! |
ـ قالت: أظن ذلك، فلا بد أن تعرف من لغتي معك. |
ـ قال: لكن شعرك أصفر، ولست سمراء، وعينيك ملوَّنتان! |
ـ قالت أمي يونانية، وأبي عربي. |
ـ قال: ومتزوجة... ربما قريباً، فليس عندك أطفال فيما أعتقد. |
تطلعت إليه باهتمام، افترشت ابتسامتها وجهها كله. سألته: |
ـ وكيف عرفت؟! |
ـ أجابها: فراسة! |
ـ قال صديقه للمضيفة: إحذري منه... إنه متعدد المواهب، ويقرأ الكف أيضاً! |
ـ قالت بفرح: صحيح... هل تقرألي كفي؟! |
ـ قال: إذا أردت. |
ـ قالت: سأعود إليك بعد أن أنهي عملي. استعد! |
وخيل إليه من انطلاقتها كأنها تركض... لتخلص من عملها بسرعة وتعود إليه. |
نظر إلى صديقه مغتاظاً، وقد رآه يداري ضحكة ستفلت منه. |
قال له: |
ـ اضحك يا سيدي. خلاص.. أوقعتني وجلست تتفرج. أنا أقرأ الكف، وكيف سأقرأه لها بعد قليل... ماذا أعرف عنها لأقوله لها؟! |
ـ تستاهل... حاولت أن تحدثها وتلاطفها، هاهي بعد قليل ستضع يدها في يدك.. يا بختك ياعم! |
ـ لا بأس... سأنادي على مضيفة أخرى، وأسألها عن زميلتها، فأستفيد! |
ـ هل تتغابى؟ ستقول لها زميلتها إنك أخذت معلومات عنها. |
ـ صحيح.. فماذا أفعل؟! |
ترك الأكل أمامه، ونام!! |
(3) |
مرة أخرى.. شعر باليد الناعمة تهز كتفه، توقظه هذه المرة بلطف أكثر. |
شرع جفنيه، وأحس كأنه يغرق في اتساع عينيها. استوى في مقعده باهتمام، وقال لها: |
ـ أهلاً... هل جئت؟! |
ـ قالت: لقد أغريتني. أنجزت عملي بسرعة، وجئتك. |
أمسك بيدها. وسدها راحة يده الضخمة، فبدت يدها مثل عصفور يرتجف من البرد. اضطرب قليلاً، كأن يده تحضن يد أنثى لأول مرة. قال لها وهو يمرر إصبعه على خطوط كفها: |
ـ لديك مشكلة تؤرقك! |
ـ قالت: كل إنسان لا يخلو من مشكلة. |
ـ قال: ولكن مشكلتك ترتبط بقرار في حياتك. |
ـ قالت صحيح... ها... وماذا سيحدث؟ |
ـ قال: كيف تعيشين مع زوجك؟ |
ـ قالت: إنني أحبه جداً... مازلنا عرساناً، لم نكمل العام بعد! |
ـ قال: واضح، واضح. لكنه يريد طفلاً، وأنت لا تريدين الآن! |
ـ قالت: يبدو أن الخطوط "تلخبطت" عليك. بالعكس يا أستاذ. هو لا يريد الآن، وأنا أريد. |
ـ سألها: عجيب... أنت تعملين في الطيران. كل يوم مسافرة، فالطبيعي أن ترفضي أنت! |
ـ قالت: هذه هي المشكلة، أنا تعبت من السفر والرحلات، وأريد طفلاً لأستقر في بيتي، وأهتم بزوجي. |
ـ قال: وما هي أسباب اعتراضه هو؟! |
ـ قالت: الظروف كما يقول... فلابد أن نبني أنفسنا أولاً، ونكسب أكثر، ونجمع مالاً، ونؤمن سكناً، حتى نقدر على تربية الطفل، أو الأطفال! |
ـ سألها ولكن.. لابد أن يكون هناك سبب آخر؟! |
ـ قالت: هذه هي المشكلة. يقلقني رفضه. |
ـ قال: آه... فهمت. هل تستعملين مانعاً للحمل؟ |
ـ قالت: أبداً يا أستاذ. |
ـ قال: إذن دعيه يذهب إلى الطبيب، وأنت معه أيضاً، ليرتاح كل منكما. فلا بد أنه متردد. |
ـ قالت: ها أنت تؤيدني، وتفكر بنفس ما يشغلني. وما ظننته. |
ـ قال: تقصدين أنه يعلم بعجزه عن الإنجاب، ويطلب ذلك منك؟! |
ـ قالت: وإلا... لماذا يمانع، خاصة وإن مورده لا بأس به، مع موردي نعيش في بحبوحة. |
جاءت زميلتها تطلبها باستعجال. استأذنت منه، وستعود إليه بعد قليل. |
قال له صديقه:حرام عليك ..زرعت الشكوك في نفسها ! |
ـ قال: لم أكن أعلم أن الحديث سيتطور ليصبح مشكلة حقيقية. كنت أمزح. |
(4) |
عادت إليه مسرعة. ناولته كفها من جديد، وهي تقول: |
ـ ها.. وماذا بعد؟! |
ـ قال: زوجك يحبك جداً. |
ـ قالت: أعرف... على الأقل الآن، لأننا - كما قلت لك - مازلنا في سنة أولى زواج وحب. |
ـ قال: لكن أهله لا يرتاحون إليك! |
ـ قالت: آه... هذه نقطة ضعف حبنا وحياتنا، فهو لا يريد إغضابهم، ويجاملهم دائماً على حساب حقوقي، أخاف أن تضعف هذه النقطة حبنا؟! |
ـ قال: إنهم يضغطون عليه باحتجاجهم على طبيعة عملك، وسفرك الدائم! |
ـ قالت: صحيح والله، ولكن هذه مهنتي من قبل أن أتزوجه، وقد رضي بها. |
ـ يخاف عليك كثيراً... |
ـ قالت: بل يشك في من كثرة حبه لي. |
قال: معذور.. فأنت جميلة جداً ويخاف عليك. |
ـ قالت: صدقني إنني أعاني من حيرة كبيرة، فأنا أريد الطفل ليهدأ أبوه، وأستقر أنا. |
وقفت مضيفة أخرى تبتسم، وتتابع الحوار. قالت له: |
ـ أريد أن تقرأ لي كفي أيضاً! |
ـ قال له صديقه: مهنة جديدة... افتح لها مكتباً! |
(5) |
توقفت الطائرة، ونفر الركاب من فوق مقاعدهم يتسابقون نحو الباب كالعادة! |
حمل حقيبة يده. رآها تقف عند باب الخروج... تبتسم بنفس تلك الابتسامة. |
ـ قالت له: شكراً... أتمنى أن نراك في رحلة أخرى. |
ـ قال لها: أتمنى أن أراك فوق الأرض. |
قالت: المشكلة الأخرى التي لم أقلها لك: أنك لا تستطيع أن تطير، وأنا لا يمكن أن أقع!! |
|