شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء سحابة!
(1)
● هذه الليلة له!!
كان هذا منتهى أمله، وحلمه.. البقية من أنفاس التفاؤل المجهدة!
كان "صوته".. وقد جمع فيه عواطفه، ونثرها بذوراً في رحم هذه الليلة.. حتى تلد له الحلم.. فيكون حقيقة، وحياة!
واحتضن شجنه، وهدهده..
هذه الليلة يبقى وحيداً.. تحت نسمة رطبة مبللة بالطل.
يريد أن يوقف تجواله قليلاً.. فقد تعب من تجوال أفكاره، وظنونه!
ـ قالت له في تلويحة النهار بالوداع: انتظرني هذه الليلة. سأراك، ستراني.. أود أن أروي ظمأ الشوق لك!
ـ قال لها: هل تجِدِّين؟!
ـ قالت: أنا جادة جداً في وعودي.. سيكون منتصف الليل: بيتنا، وقمرنا، وهمستنا!
كان يريد أن يلم أنفاسه لحظتها.. أن "ينيخ راحلته" بعد ذلك التجوال الممض وهي بعيدة متغربة.. وهو واقف عند بوابة الوقت يرتقب طلوعها كنجمة.. كنسمة.. كهمسة.. كمهرة تطوي أصعب الدروب وأطولها إليه.
ـ مشتاقة تسعى إلى مشتاق"!
ابتسم، وهو يتذكر شطر بيت الشعر هذا.
(2)
كان الوقت حينذاك في بداية المساء..
مازال الوقت يمر بطيئاً، ممعناً في توتره، وحنينه إليها.
ـ ما أطيب فنجان شاي ساخن الآن!
قال لنفسه هذه الأمنية، وقام يخطو في بيته الصغير إلى المطبخ. سينجز الشاي، والوقت حينئذٍ يمر.
ألذ فنجان شاي.. لابد أن يستكنهه ويستطيب بطعمه.
كان يدير "ملعقة" الشاي في الكوب، وهو شارد خلف وجهها.
خلف أصداء صوتها وضحكتها!
ـ ترى.. متى تعود. متى ينتصف هذا الليل الأخرس، المشلول؟!
وضع الشاي أمامه.. واختلطت نظراته بدخانه المتصاعد.
أطل من الشرفة.. السيارات تعبر، وبعضها يمر بجنون!
ـ هل هذه.. كلها مواعيد؟
إلى أين يذهب كل هؤلاء الناس.. في ليلة الإجازة؟!
النساء مدعوات إلى أفراح تقام في الفنادق الكبيرة. تزداد نسبة الإضاءة هذه الليلة.
قام من مقعده، وأطفأ ضوء الشرفة.
ـ هكذا أجمل، جو رومانسي، وأضواء الشارع تتلصص على هدوئه، وسرحته وانتظاره.
ـ ياه.. بداية الليل طويلة، ومملة.. خاصة في إحساس إنسان يجلس وحده.
أيام كثيرة مرت.. كان فيها وحده.
خيل إليه أنه انتهى إلى كوخ. كان الكوخ. وكان الظلام فوق المسافة كلها، ويئد التفاؤل، ويمنح الريح وحدها!
(3)
لم تصبح قصة بعد...
إنها - رغم تعاقب الأيام وامتدادها - مازالت بداية القصة!
خمسة أشهر في تاريخه "العمري"، أو تاريخ عُمْر خفقته الحقيقية.. حين أكتشف أن قلبه يخفق بشدة.. كأنه يعاني من أول حب!
تراها.. هل تبلورت في حياته، لتكون هي وحدها بالفعل الحب الأول.. لأنها الحب الأقوى، والحب المعذب الذي احتوى كل مشاعره؟!
يقولون: إن البدايات تبدو سهلة دائماً.. أما النهايات، فهي الصعب والمرهق!
لكن البداية هنا.. كانت عنيفة، مقتحمة، ركضت به وبها مسافات طويلة في وقت قصير!
ـ ماذا جرى.. وكيف؟!
البداية حوار متردد، وربما كان مملاً في مدخله!
كانت "هي" لا تطيقه، ولا تكرهه.. لكنها ترى فيه الرجل الصلف، والضبابي.
وكان "هو" لا يعرفها طبيعة ووجداناً.. لكن خيطاً واحداً شده إليها: طموحها، وفكرها، وقدرتها على اقتحام الصعب.
سمع عن مميزاتها هذه كثيراً. واستطردوا وهم يحدثونه عنها:
ـ قد تراها تضحك لك.. لكنها من الممكن أن تعبس، وأن تتخذ نبرة صوتها أسلوب الحدة والصفع.
ـ مغرية هذه الأنثى!!
لكنه تردد، والتردد خوف!
أن نبدأ بالخوف.. فلن ننتهي إلى أزلية الصدق، والشجاعة، واليقين!
البداية عنوان ضخم وغامض.. يحفل بالعديد من علامات الاستفهام والتعجب.. فإذا أنت خِفْت من العنوان.. فقدت القدرة على فهم واستيعاب المحتوى.. وإذا استهنت بالعنوان فقد تفقد غالياً وثميناً لم تكتشفه!
أما إذا أعطيت اهتمامك له .. فستحصل على انطباع، وستعرف قيمة الثمين، وتجرب التعامل مع الرخيص!
البدايات كثيرة.. والناس يهدرون
أغلبها بأعصابهم، أو بجنون القسوة!
وعندما وجدها.. اكتشف فبها قيمة الثمين.. وأحس أنه وحده الذي يفهم هذا العنوان جيداً، ويحسن التعامل معه!
كانت عنواناً مثيراً في حياته.. لبداية مجهولة الخطوات. لكنها مغرية وحافلة بالإضاءة وبالجاذبية، وبالقيمة الكبيرة.
(4)
مع ذلك.. لم تبدأ القصة بعد.. أمام هذه البداية!
سطر واحد.. رسمته الصدفة، على ظهر ليلة عاصفة التأثر.. حكت فيها له عن ملخص مشوارها، أصغى، واستغرق في بوحها ومعاناتها.. وحكى لها فيها عن جنون عمره. أصغت، وشعر أنها تمتزج بدمه عبر نظراتها وإصغائها!
وأخذ ذلك السطر الواحد يملأ ورقة بيضاء، مثبتة تحت أصابع حائرة. تخيل أنه لحظتها، وهي تحكي، قد التقط ورقة، وأخذ يمرر عليها قلمه بخطوط لا معالم لها.. لكنها كانت تعكس معاناة تلك اللحظة!
هكذا.. كانت البداية خطوطاً بلا معالم.. على ورقة بيضاء، مطلوب منهما معاً أن يملآها: حباً، وصدقاً، وبوحاً، وعهداً بينهما لا ينفصم.. مهما كانت الأحداث القادمة..
والتفت نحوها.. كانت تمسح دمعة تفر من عينيها، فقال لها:
ـ قلوبنا ورقة بيضاء.. نملأها نحن بالخطوط الزمنية، وبكلمات الحب والصدق.. نحن لا نعرف زمن حشدها بالمعاني.. لا نستطيع اختيار الكلمات التي تكتب عليها.
ـ أجابته: أحبك الآن أكثر.. أحس أنك نفسي، وأن بدايتنا معاً، هي بداية عمري الحقيقي.. فهل تصدقني؟!
ـ قال لها: إذا صدقت أنني أشعر بنفس هذا الإحساس معك!
قال تلك الكلمة.. في لحظة "منتهى الأمل" وأقوى أمل!!
قالها في البقية من أنفاس التفاؤل.. وأردف بعدها، يقول لها:
ـ هذه الليلة.. لي وحدي!
ـ قالت: بل هي الليلة التي لنا وحدنا.
وانطلق تزغرد جوانحه.. عريضة الآمال في صدره.. عنيف وجيب قلبه.. متفائل حتى الطفو!
كان يحمل ورقته البيضاء ذات السطر الواحد.. ويود لو ملأها هذه الليلة، ويكمل عبارة مازالت ناقصة!!
(5)
وكانت وقفة الانتظار بعد ذلك!
ما أقسى أن تشعر بالوصول إلى نقطة الكسب، ثم تنزلق كل أشيائك فجأة!.. إنها تبدو "كاللحظة الفاصلة ما بين الحياة والموت"!
اكتشفت أنها ترتبط بمشاعر أخرى..لكنها - وهي تؤكد له -
قالت:
ـ ذلك رجل كان قبلك ولم يملأني.. لم يقنعني. كنت أحاول أن أبلوره وأن أصوغه.. حتى جئت أنت فملأتني وأقنعتني.. وجدتك تصوغني إنسانة وأنثى، وعشقاً، ولهفة، وانتظاراً.
ـ قال لها: إذن.. اتركيه، فعندي مبدأ أناني بالغ القسوة.. يحفرني، وأردده دوماً وهو:
"أكون أو لا أكون"
ـ قالت: لا تخيِّرنيِ بينك وبينه.. فأنت الأقوى، وأنت مضموني، ومحتوى مشاعري.
اصطكت السحب، صرخت عاطفتها في وجهه: لن أتركك.. لا تتركني.. أنت عمري.
وأحس كأنه عيي لا يقوى على الكلام.. كانت عاطفته تصرخ في أعماقه، فتخلع ضلوعه، وتشرخها وتقوضها. وقال لها:
ـ أنا الآخر لا أريد أن أتركك، لقد أحببتك حتى الاحتياج الذي لا يُعوَّض بغيرك، أنت البشارة في عمري، ولكني.. أرفض هذه الخزانة الصغيرة في زاوية قلبك.. أرفضها!
ـ قالت: نسيت أنك رددت على مسامعي كلمتك تلك: أنت قدري، وأنا قدرك. تذكر المعنى الذي قاله الشاعر" (وهل يملك النهر تغييراً لمجراه)؟!
ـ قال: أنت تملكين تغيير المجرى.. لابد أن تكوني هذا النهر بمجرى واحد، وليس باثنين!
(6)
أفاق من شروده، وتذكره.
لمس كوب الشاي.. فوجده قد برد. قام إلى المطبخ وأحضر قطعة ثلج من الثلاجة، وضعها في الشاي، وهمس لنفسه:
ـ إذا فاتني أن أشرب الشاي ساخناً.. فلا يفوتني أن أشربه مثلجاً، كما يفعل العالم!
ورن الهاتف في بيته.. قام يركض نحوه. جاءه صوتها شفّافّاً:
ـ ها... ماذا تفعل؟!
ـ قال: أشرب شاياً بالثلج!
ـ قالت: لا تمزح.. أنت "وحشتني".. اشتياقي لك لا يوصف.
ـ قال: كان موعدنا عند منتصف الليل. لقد تجاوز الوقت الموعد، والانتظار، ولم يبق معي سوى القلق عليك.
ـ قالت: أراك بقلقك.. المهم أن تأتي.
ـ قال: الآن لا أصلح.. لأن قطعة الثلج لم تسقط في كوب الشاي كما ظننت، بل سقطت في قلبي!
ـ قالت: أنت مجنون.. لا تطاق.
ـ قال: ربما.. اكتشفت منذ لحظة أنني "مكلف" من قدري.. بأن أكون مجنون وحدتي فقط!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :829  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.