شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء "عين"!
(1)
● الوجود.. عين مفقودة! كانت هذه العبارة تبدو كحصاد أخير من حديقة عمره، أو كأنها الزهرة التي غرسها، وسقاها، وشذبها.. منذ نشر الحزن وشاحه الرمادي على حياته عام 1970، عندما خسر جنونه الملهم، أو حبيبته التي أضاءت عمره حباً ووجوداً.. تلك التي كان اسمها ((إلزا))!
يوم ماتت "إلزا".. تحول الوجود في رؤيته إلى: "عين مفقودة"!
أو إن "إلزا" كانت هي عين وجوده التي اختطفها الموت منه.. وإذا هي في عمره المتبقي من بعدها: "الحاضرة الجامدة" التي تركته في هذه الصورة التي صاغها بشعره:
ـ "تركتني من كل الأبواب.. تركتني في كل الصحاري..
تركتني أيتها الحاضرة/ الجامدة..
في كل مكان.. تركتني بعينيك..
بالقلب.. بالأحلام.. كجملة ناقصة"!
ورغم أن "لويس أراجون" صاغ آلاف الجمل المشعة، والمتكاملة، والعبقرية.. لكن انسحاب هذه الأنثى من الحياة كلها، قد جعل الفرح ثلجاً، والضحكة غيمة، والذكرى - وحدها - هي الفردوس الذي يظل عمره من هجير الوحدة والأسى!
ولم يكن موت "أراجون" شيئاً مفزعاً له - بعد موت "إلزا" - ولا اغتصاباً لحياته من الوجود.. لكنه كان يرتقب هذه اللحظة/ الفرح، منذ اثني عشر عاماً!
كان يتكئ على الحصى البيضاء، ويتطلع إلى السماء الزرقاء، ويرقب موعده القادم مع "إلزا" في فجر يوم الجمعة، من نهاية عام 1982!
وكانت العصافير في بدء انطلاقها، ورذاذ المطر يخترق السحب والأمل.. ليبلغ بـ"أراجون" إلى الحلم الأجمل.. نهاية انتظاره للموعد الذي يلقى فيه بجنونه، وبحبه: "إلزا"..
إنها نهاية "ديسمبر": لوحة الخريف التي سقط القلب في ظلالها كورقة جافة.. هي ما تبقّى من هذا الشاعر، والروائي، الناقد، الفنان.
وكعادة الأحياء مع المبدعين الذين أعطوا حشاشة قلبهم، وخلاصة تجاربهم الإنسانية.. تسابقت الصحف والمجلات، تنعى وتؤبن هذا الفقيد، وتسلط أقوى إضاءاتها على أعماله، وعظمته، وإبداعاته!!
(2)
ولكن "أرجوان" مات بعد ذلك سعيداً!
ولعله كان يوسع من خطاه التي غادر بها العالم.. بعد أن يئس من تحقيق أحلام الإنسان فيه..
وبموته.. فقدت دعوة السلام واحداً من أنصارها، ومحاربيها، ودعاتها.. فقد كان واحداً من أعداء الحروب، وتسلط القوة.. مثلما كان محارباً، مشاكساً، متألقاً، قلقاً، حائراً، امتزجت في حسه ومداركه أضداد عديدة.. جعلت منه ذلك الكاتب الواقعي.
وهو - في نفس الوقت - يأتي شاعراً رومنسياًً يستغرق في البوح والإنشاد.. منغماً اسم "إلزا" الذي يشع في صدره إلهاماً، وراحة، وطفولة.
ومات "أراجون"..
وبقي التعريف الأكثر التصاقاً به، وهو: مجنون "إلزا"!
وبقيت الحياة في رؤيته ورؤاه - بعد موت إلزا - عيناً مفقودة!
وقيل عن هذه الأنثى التي استقطبت أجمل سني عمره:
ـ "إنها الأنثى التي دخلت حياته.. فبعثت فيه الحلم والروح"!
وهذا العشق الفريد في مجتمع الغرب.. جعل من "أراجون" ذلك الشاعر المتفرد، والمميز عن سائر الرجال الغربيين - وفي باريس بالذات، وإخلاصه والتصاقه بزوجته "إلزا" كانا بمثابة الظاهرة في مجتمع تغرب كثيراً عن مثل هذا الالتزام في العاطفة لأنثى واحدة.. لا يرى في النساء من تضاهيها، أو تقدر على سرقة عواطفه من "إلزا" إليها.. فأطلقوا عليه صفة "المجنون" كما مجنون ليلى، وقالوا:
ـ لقد تأثر أراجون بالشرق.. حتى في العاطفة!
وتأثره بالشرق ثابت من خلال جولاته التي قام بها إلى هذا العالم المختلف عن طبيعة الغرب..
وقارن بين "مجموعة شعراء الطربادور في فرنسا أثناء القرون الوسطى، والشعراء العرب، وقال: شدتني إلى أشعارهم ما وجدته من قرابة روحية وشبه في المحتوى"!
ولكن هذه اللمحة التاريخية عن الشاعر الراحل، تبدو "تقريرية"..
تتفوق عليها طبيعة النفس والروح في البناء الإنساني للشاعر، وترتفع إلى فلسفة الفن المتاح لتعبير النفس، ولتصوير أعماق هذه النفس المثقلة بهموم العصر، وبضغوط الماديات وبتحديات البقاء والوجود!
(3)
لقد كان " أراجون" في فترة من إدراكه ورؤيته.. أديباً يتخبط في شعارات، ظن أنه بمناصرتها يخوض قضايا المعدمين، والفقراء، والموجوعين.. ثم ما لبث أن اكتشف عدمية تلك الشعارات، وسقوطها في الغوغائية، فقال عباراته التي كتبها عنواناً لواحد من كتبه:
ـ "لابد أن نعرف الأشياء بمسمياتها"
ثم هدأت صولاته في مضمار الفكر السياسي.. ليستقر في سؤاله الذي كان يحاوره عن: الوجود، وعن منطق الحياة.. فتحولت فلسفاته الفكرية إلى رؤى من الشعر الناضج، والأعمق.
عاد ذلك الشاعر المفتون بعطاء الشرق..
وكان منطلق عطائه المتبلور.. ينبع من عيون "إلزا"!
"إلزا": الأنثى التي حفرت أصداء صوتها كل ضلع من ضلوعه.
"إلزا": التي سكنت همساتها كل خفقة من خفقات قلبه.. فكأنه هو ذاك المتيم بموعد اللقاء مع الحبيبة التي تركته في شوارع العمر.. يشاهد الناس وهم يصطادون العصافير، ويحرقون الأشجار، ويسفكون الدماء باسم الحضارة، والحرية، والتاريخ، والمستقبل.
(4)
وبعد موت "إلزا".. فقدت الفراشات ألوانها، واندفعت إلى اللهب المتأجج في العالم لتحترق!
ومع احتراق العصافير والفراشات - في هذا اللهب المندلع - كان "أراجون" يسترخي في لحظة تأملية!
كانت ذكريات الحبيبة تعتاده..
كانت أصداء معاركه، ومشاكساته تتردد في أذنيه..
كانت حصيلة العطاء بالكلمة.. تنفذ به إلى سر الوجود، وطبيعة النفس الإنسانية..
فكأن ما تبقّى من العمر - بعد إلزا - أصبح هو الفراغ، وهو "قبضة الريح"..
ذلك أن ما فقده "أراجون" كان يشكل في عمره قيمة تلك "العين" التي يبصر بها جمال الحياة، ويتأمل عمقها.. فيرى إطلالة الصدق الذي يستخدم الصمت بوحاً يفسر معنى الوجود!
إنها تلك العين المفقودة..
العين التي رحلت عنه.. وأخذته في أعماقها معها تحت الجفن!
أو كأن "أراجون" - في تأمله الأخير - كان يرى العالم من حوله.. هو هذا الوجود الذي فقد عينيه!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :901  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.