سطر...بدفء راحة! |
تقت إلى الإجازة من العمل من التفكير... من التحديق.. من "الكلام" المرهق فوق أرصفة الدنيا، وعبر هواء هذا الكون! |
فكرت أن أسرق نفسي من التزاماتها، وانطلق بها.. كوصف الشاعر المغربي المبدع "عبد الجبار الدوري" وهو يترنم قائلاً: |
"حيرى.. تميسين من حولي، كما نفرت.. يمامة الصيف.. من قوس لصياد"! |
وضحكت!... إذ كيف أشبه النفس بـ"يمامة الصيف"، والشاعر كان يقصد حبيبته؟! |
أريد بالفعل أن أنطلق إلى ميادين العالم.. أنتثر على "ماء النوافير" كما يقول الشاعر "فواز عيد"! |
وسكنت في التأمل لحظة.. فاكتشفت أنني أتذكر أبياتاً، ومقاطع من الشعر.. ربما تعمق معاناتي أكثر، وأنا أرغب في الابتعاد، والركض، وفقدان الذاكرة العربية من رأسي لفترة محدودة. |
ولكن الانسان محكوم بالتعود.. حتى عندما يفكر في "انتزاع" إجازة له.. يهرب فيها من العمل، والالتزام، ومن المعاناة. |
وقبلت بالإجازة في الحلم بالتخيل، ولكن.. حتى الأحلام قد تحولت إلى التزام!! فهل رأيتم مقدار ما بلغه الخوف في النفسية العربية؟! |
وتساءلت: لو أردت أن أدلل نفسي، وآخذها في إجازة، ترى.. إلى أين أذهب بها؟! |
هل أذهب بها إلى دولة عربية فقدت ذاكرتها؟ |
أم أذهب بها إلى دولة أوروبية فقدت أمانها، وتكره "العربي" وتتلمظ على فلوسه، وتخدعه، وتسحقه في زحامها؟! |
أم أذهب إلى دولة ثالثة تعاني من فقدان التنمية والتطور؟! |
* * * |
إن الأسئلة التي تتوالد في أذهاننا. لابد أن تكون لكل الأعمال التي نقوم بها، والتي (نرتكبها) في يومنا، والتي نتمناها، والتي لا نستطيع الابتعاد عنها.. حتى لا يجهلنا اليوم الذي عشناه، ويتحول إلى "بصمة " فوق أعمارنا، وأعمالنا |
وتساءلت - مستطرداً - كما يفعل أي إنسان طبيعي! - لماذا أدع نفسي، وتفكيري نهباً لتلك الأسئلة؟!أليس في مقدور الإنسان أن يحيا الأيام بالطول وبالعرض.. كما بقية التائهين في خديعة الوهم الكبير التي اسمها: الحياة؟! |
ألا يمكنني أن اعتقد بأنني هذا الإنسان الذي يقدر على القهقهة متى أراد، ويقدر على الانتصار متى أراد، ويقدر على تجسيد أحلامه؟! |
لكن هذا الإنسان نفسه يعجز عن الابتسامة أحياناً، عندما يحتاجها.. فكيف أجيب إذن؟! |
بل هي أسئلة تطرح يومياً على جميع الناس، وعلى جميع الشعوب، وعلى قادة هذا العالم المتفجر، وحتى على العشاق!.. |
وغالباً ما تأتي الأجوبة عن الأسئلة البسيطة بكثافة من الأسئلة المرهقة! |
إننا من أجل الابتعاد عن ركود النفس، ومللها، وملوحتها: نجري، ونفترق، ونغترب، ونضيع في الزحام، وننشغل بالبسمة العابرة، ونرفض أن نقلد العجائز في النوم المبكر، ولا نحتمل صبر النفس على الاستلقاء التأمل! |
* * * |
وحاولت أن أستغرق في حلم من أحلام اليقظة! |
لكني ما لبثت أن "فزيت" هلعاً من حكاية استقرت في ذاكرتي، وكانت عن فتاة فلسطينية في "الخليل".. أخذت تستعد لفرح عمرها في زحام آلام وقهر أمتها ثم - فجأة - جاءها الناعي بخبر موت خطيبها الذي سقط صريعاً برصاص اليهود! |
وجففت دموعها، ورحلت لتنضم إلى "الهلال الأحمر" وتحولت إلى فدائية! |
وذات ليلة.. جلست تبكي كل رجل فلسطيني أخذته لعبة الانشقاق والخلافات، وشعرت أن ما تبقى من أحلامها قد تلاشى! |
وتذكرت هذه الحكاية القصيرة جداً، وكان لابد لي أن أتساءل ثانية: |
ـ ترى.. ما هي أخبار المقاومة الفلسطينية، وأخبار القمة العربية، والتضامن، والوحدة، والاجتماعات الدائمة؟! |
ـ أجبت نفسي: لا أعلم.. وكل أولئك لا يعلمون! |
وتخيلت شكل المقاهي العربية، وتساءلت: |
ـ هل مازال العرب يشربون القهوة سكر زيادة، أم قهوة مرة؟! |
بقيت - وحدي - هنا.. أحدق في سقف الغرفة، ولا أريد أن أدري! |
ووجدت في جمجمتي عبارة قالها الروائي الفرنسي "جورج سمتون" عن عشق الكتابة: |
ـ "إذا كتبت لا أتوقف، وإذا توقفت يومين فترت حرارتي، وإذا لم أكتب فإنني أمرض.. فعلاجي في الكتابة، ولذلك.. فأنا المريض والطبيب معاً"! |
ولكن.. ما الذي يمكن أن نكتبه بعد؟! |
لم يضع أول الخيط.. بل أكثر الخيوط ضاعت، ومازالت الحياة هي هذه الرواية المستمرة! |
ـ قلت: لماذا لا أضع شريطاً لموسيقى هادئة.. لعل هذا الصخب في أعماقي يهدأ! |
فعلت ذلك بسرعة، لأرتاح.. وحينما كنت أصغي للموسيقى، تذكرت حكاية أخرى عن صبي هولندي كان عمره اثني عشر عاماً، ويعمل على أحد المسارح الكبرى.. وغنى، وذاع صيته، وحققت أسطواناته التي بلغت (25) أرقاماً قياسية في التوزيع.. فرفعته إلى مستوى المليونيرات! |
وأطرف ما كان في حياة ذلك الصبي.. أنه يحصل على مصروفه اليومي من والده، ولا يزيد على (12) شلناً.. ينفقها على شراء الحلوى! |
ولابد أن أعلق على الحكاية، قائلاً: |
ـ هذا الصبي.. شعب أمموه بدون قانون! |
* * * |
إن تقدير الماديات في مطالب الحياة وظروفها - تطورها وانحطاط أفكارها - هو تقدير يقوم على دافع واحد: البحث عن النجاح، والانتصار والرفاه! |
ولكن.. كيف؟! |
ستمتلئ أمعائي بالطعام الذي أشتهي في أي وقت، وربما غيري يكتفي أن يملأ معدته بأي طعام.. المهم أن يشبع! |
وسأضيء الغرف في بيتي، وسأضيء بوابة البيت.. لا يردعني هذا الفعل "الاعتيادي" سوى انقطاع التيار الكهربائي، وحتى هذا الانقطاع يبدو أحياناً محاولة للتقشف، أو الأخشوشان، حتى لا نتعود على الترف، وحتى لا ننسى الظلام في العالم، وحتى نتذكر كيف ومتى نرفع رؤوسنا إلى السماء.. نناجي الله في جلاله وعلاه، ونفتش عن ضوء القمر! |
* * * |
وتنبهت.. تعبت من الأحلام، ومن الأفكار ومن التأمل، وأريد أن أفعل كما العجائز، فأستلقي على السرير، وأغمض عيني، وأحلم بدون يقظة! |
وأغمضت عيني ثانية، لكن "التعود" ينتابني.. يزحف إلى صدري وعقلي.. يتقافز فوق أصابع يدي اليمنى، وقلت: |
ـ لماذا لا أتحرك، وأكتب الآن؟! أين هي رغبتي في الإجازة والصمت، والهروب من العالم كله؟! |
لقد تعرض الشاعر " محمد الفيتوري" للضجر، وحمل شفتيه فوق أهدابه، وحمل صدره جرحاً فوق شفتيه.. ولم تكن أحماله أثقل من مسببات ترحاله، فرحل بحثاً عن الضجيج، وفراراً من الهدوء والتأمل.. فتحول - كما قال - إلى هذه الصورة: |
ـ "حدقت بلا وجه.. ورقصت بلا ساق.. |
عشقي يفني عشقي.. وغنائي استغراق". |
هكذا كان مستغرقاً وراكضاً في آن وهو يسير درويشاً متجولاً.. بين شفتيه معزوفة، أراد أن يواري الكلمات فترة ليتفرج فقط، ويندس في الزحام، ويضيع! |
وأبصر الناس يجرون.. وكأنه يقارن بين مشهدهم، ومشهد "فليباس.. الفينيقي الذي ابتلعه اليم في الأرض الخراب"! |
* * * |
ولم تزل جمجمتي مليئة بالقرع العنيف! |
قرأت "الفيتوري" الذي كان يبحث عن إجازة تأخذه إلى اللامبالاة حيناً، وإلى التعمق حيناً آخر.. يصل به إلى درجة التصوف، وإلى سأم من السأم ويصمت بعد ذلك طويلاً، مستغرقاً في أصداء إنشاده القديم. |
ـ "فأنا جسد.. حجر.. شيء عبر الشارع.. |
جزر غرقي في قاع البحر.. حريق في الزمن الضائع"! |
وأحاول أن أخرج لساني - بمزاج - لجمجمتي الملأى بالقرع، وشيء يغري.. صداه في نفسي يناديني قائلاً: أنا.. أنا!! |
فما هو ذلك الشيء؟! |
أغنية حياة قصيرة.. نترنم بها عندما تنفرج شفاهنا، لحظتها نغني، وقد تناسينا ضجر "الفيتوري"، وتناسينا تعود "سمتون" وورق السيلولوز، ونهاية "فليباس"! |
فقط نغني حتى نتعب.. وعندما نقتنع أننا تعبنا حقاً، نرتاح!!؟ |
|