شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الكارثة.. شيء بسيط!!
ما زالت نبرات صوته تحيا في ذاتي، وفي مسامعي..
نبرات شحنت بطاقة هائلة من الألم، والحسرة، والتأوه الطويل..
وسحنة وجهه.. لم تفارق تصوري منذ ذلك اليوم الذي جاءني فيه.. كأنه يسير على قدم واحدة.. يكاد كيانه ذلك المطوح في فراغ حوله يتهاوى بين لحظة وأخرى!.
وجلس بجانبي..
ورأيته بعيني.. كحرف ((الألف)) الذي يكتبه طفل مبتدئ في تعلم الكتابة!
واستهلك من وقتي دقائق.. خلتها - في صمته العجيب - فترة طويلة جداً..
ولم يتكلم أيضاً!.
وضاقت أنفاسي.
وتكلمت أنا.. أسأله:
ـ ما بك.. مصيبة.. كارثة؟!
وارتسمت على شفتيه الغليظتين ابتسامة صفراء افتقدت كل المعاني.. لكنه تكلم، وفي صوته موسيقى تصويرية اسمها: الألم!
قال:
ـ المصيبة لا تعمر طويلاً.. إنها تأتي اليوم، ويعمل الغد على إنهائها، والكارثة واقع يحل، وقد يحول الحياة.. غير أن التحول لا يستمر، ولن يكون هو الحياة كلها!
ـ إذن.. ما بك؟!
ـ إنه قدري.. مصيري، والمصير هو الحياة.. العمر!.. إن المصير إذ كان على غير الأمل الذي كنا نتمنى غرسه في نفوسنا.. يفوق في فاعليته الكارثة، والمصيبة!
ـ وهل عتمت الحياة في وجهك.. فلم تعد تر صورة مصيرك!
ـ كلا.. إن مشكلتي تمسكها من أول هذا الخيط.. فالحياة لم تتحول في نظري إلى فيلم لم ((يحمض)) بعد.. إنها أمامي تشع بالنور، ويعمها الضوء.. لكن ((قدري)).. مصيري أصبح كالفيلم الذي احتشد فيه كثير من الصور الحلوة الباسمة.. صور الربيع، والزهور، والطبيعة، والجمال.. ثم سقطت به ((الكاميرا)) وتعرض للضوء السريع.. فافترشه اللون الأحمر.. ولم تعد فيه صورة واحدة صالحة!..
قلت: أما أنك مجنون.. وسأقوم بواجب العزاء لنفسي فيك.. أو أنك قد أبللت من مرض كنت فيه دائم ((الهلوسة))!..
ـ قال: لا شيء من هذا.. اطمئن!
ـ لن أطمئن حتى تتكلم بوضوح..
ـ سأتكلم.. لكني لن أقبل تعليقاً منك حتى أقص عليك أسطورة ((قدري)).
ـ سأصغي إليك.. شرط أن لا تظلم ((قدرك)) ومصيرك، ونفسك!
وتحرك في مقعده بعصبية.. وتحول حرف ((الألف)) المتعرج إلى ما يشبه ((ثقالة الورق)) البلورية!.. وسرى صوته في أذني ساخناً.. كأنه ((يلسع)) كل مشاعري:
ـ قال: قبل عام ونصف - على وجه التقريب - تحصلت على شهادة التوجيهية وكان الفرح يزغرد في كل جوانحي وهيأت نفسي لخوض معركة جديدة في دنيا العلم. والاستفادة الكبيرة من المعرفة.. كنت أعرف أن المرحلة التي سأسير فيها لكي أتخرج جامعياً، يحمل في يده مؤهلاً معترفاً به في أوساط المثقفين، وفي ظروف العمل، ومنطق الحياة.. هي مرحلة طويلة صعبة.. ستكلفني عرقاً ساخناً.
وحدث الشيء..
هل تعرفه؟!
شيء غريب.. غريب يحيل الرؤية إلى سواد حالك في عيني!.
أمسك والدي بيدي.. وكل ذرة في عصبه ترتعش، وقال:
ـ إنك ولد مسرف في اللهو.. وقد سمعت عن مغامراتك القصص المثيرة، وتهمني صحتك ووقتك، ولهذه الأسباب سأزوجك!
وسقطت كل الأماني والآمال - لحظتها - تحت قدمي. كدت أتحسسها بأصابع قدمي قطعاً متناثرة!
ولأول مرة.. ناقشت أبي جادلته.. احتجيت على قراره!
ولكن بدون جدوى.. ذلك قرار، ولا يمكن أن أَرفضه، أو حتى أتأفف منه!.
قلت لأبي: إن المستقبل للعلم.. وإذا تخطانا موكبه خسرنا كل شيء.. أما الزواج فهو شيء نملكه.. نقرره متى نشاء، وأنا شاب.. ومن حقي أن ألهو بساعات من أيامي.. لكني سأكون مجرماً لو تطاولت، ولهوت بسنوات هي كل عمري!
وفشلت محاولتي.. إن استئناف الحكم مرفوض!
وسيق بي إلى ((عش)) الزوجية كما تقولون! وحاولت أن أواصل تعليمي.. وأذاكر، وأؤدي امتحاناً كل عام..
لكنني زوج..
أنا مسؤول عن إنسانة.. لي اسم عندها.. وعنوانه الكبير: بعلها (!!)
ورسبت في نهاية العام..
ونجحت زوجتي في نهاية العام الأول من زواجنا.. نجحت في امتحان الزواج، وأنجبت لي طفلاً صغيراً!.
وعند هذا الفاصل من حياتي.. ستقول لي: قف.. إنك تستطيع بالكفاح.. والعزيمة.. والإصرار أن تنال النجاح في الدراسة!..
وسيجيبك أسفي العميق.. ذلك أن الكفاح والعزيمة، والإِصرار تعبيرات رائعة تلتقطها أقلامكم - أيها الكتّاب - لتخدروا مصيرنا بها!
لقد كافحت، وصممت، وناضلت.. وأتيت بكل تعابيركم هذه كتصرفات في واقعي.. فخرجت بنتيجة جديدة..
أهملت زوجتي، وطفلنا، والبيت، ومستقبلها كله!.
أصبحت أفكر في هذه التعابير.. وللمرة الثانية - رسبت - لكن.. في البيت!.
وشيء آخر..
إنني أطلب منك أن تتطلع إلى وجهي - بغير الكآبة التي يتشح بها - وأجبني: ألا زلت شاباً صغيراً؟. هل تلمح شبح تجربة واحدة على وجهي.. دون هذه القصة؟ هل اكتمل نصاب الرجولة في سنوات عمري الغضة حتى الآن؟! فلماذا أتحمل مسؤوليتين.. ألا تكفيني مسؤولية واحدة تضطلع بصناعة مستقبلي أولاً، وتستطلع خطاي في طريق الحياة القادمة - ثانياً -؟
وسكت..
وطال سكوته..
ـ وسألته: وهل طلقتها؟
ـ وأجاب: لن يكون هذا خلقي.. فمن حقها أن تتزوج، وتنام في حضن يدثرها بالحنان.
ـ قلت: وأنت.. ألم تفتقد الحنان قبل زواجك؟
قال ضاحكاً: كنت أتغذى به في خيالي.. وبكل الأمل الذي كنت أزخر به!
ـ قلت: والخيال.. ليس هو الحقيقة!
ـ قال: اسمع.. لاتجادلني - بطريقة أبي قبل عام ونصف - أنا أجد الحنان - لو لم أتزوج - عند أمي.. وأبي.. وصورة حبيبتي التي أحلم بها بعد أن استقر بخطى مستقبلي!. أما إذا فقدت المستقبل.
ـ قلت: لست أعترض على واقعك بأنه أليم، ومرهق!
ـ قال: أنت مخطئ.. فلقد ابتعد واقعي عن منطقة الإرهاق، والألم.. إنه يعيش بي في ((تابوت)).. أنا في داخل ((التابوت)) شيء محنط.. كل أجزائه سليمة، لم يفتتها الدود والتراب.. لكنه محنط.. هامد النبض، وكل حركات عيني متوقفة.. جامدة.. مركزة على مشهد واحد.. واحد فقط كان هو حياتي قبل عام ونصف!..
وخرج..
ومرت لحظات.. أحسست أن نظراتي كانت في أثنائها تائهة في مشهد واحد.. واحد فقط!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :761  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج