أم بلا حنان |
أخذت أشعة الشمس المخضبة بالشفق القاني تنحدر وراء الجبال الشامخة التي شهدت الكثير من أحداث الحجاز.. وتفسح للنجوم مكاناً تتلألأ فيه.. |
وأخذ الباعة من أصحاب المتاجر الصغيرة، والمتواضعة.. يستعدون لإضاءة متاجرهم (بالأتاريك) قبل أن تعم الكهرباء البيوت والمتاجر.. |
وفرغ عم (باسويد).. - الحضرمي المتخلف - من شحن (الأتريك) بالهواء، وامتدت يده تقبض على السلسلة المدلاة من سقف المتجر وأمسكت يده الأخرى ((بالأتريك)) ترفعه إلى مكانه المعروف الذي يعلق فيه كل ليلة.. وفي اللحظة التي أوشك فيها أن يعيد قدميه إلى الأرض.. زلت قدمه اليسرى فتدحرج كالبالون العائد من الفضاء وبه ثقب. ومع ارتطام جسده بالأرض سمع صوت النحيب المتقطع الخافت الذي ينحدر إلى أذنه كل ليلة من نافذة البيت الذي يقف تحت متجره المتواضع.. وحمل جسده بين قهقهات الكثير، وجزع القليل من المارة والجيران وهو يتمتم: |
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، منذ أن توفي ((حسين)) وامرأته لا تفارق الدموع عينيها، وصوتها يأتيني كل ليلة في أنين مخنوق.. يسبب لي حادثاً شبيهاً بحادث الليلة.. |
واستمر الأنين المخنوق، ثم تطور إلى نحيب متواصل يجرح الرقة المتناهية في صوت الباكية ((زوجة حسين)) التي تركها زوجها في أوج شبابها ونضارتها، وخلفها للحياة وتصرفات الأيام وهي في الخامسة والعشرين.. |
كانت جميلة منذ أول نظرة إليها.. حتى مستقر النظرة وعمقها. لها أنف شامخ في كبرياء، وشفتان رقيقتان ركبتا إطاراً لفم صغير لا يعرف القهقهة.. وإنما يغري بالبسمة التي تطوف حوله..! |
وهي بهذا الجمال الهادئ الذي سوره الحزن الطبيعي.. أنجبت من زوجها أربعة أبناء.. تركهم لها.. للخمسة وعشرين عاماً، لترى الأيام كيف يمكن لهذه المرأة الغضة أن تتصرف..!؟ |
لكن ((فاطمة)) نفسها لم تكن تعلم كيف تتصرف، وما هو المستقبل الذي ينتظرها وكيف يحولها، وما هي معالمه..!؟ |
أفكار كثيرة تنتابها في كل حين.. وعندما ترى أبناءها يقفزون حولها.. وعندما تختنق الشمس في ثمالة النهار ولا تجد ما يخفف عنها ثقل تلك الأفكار.. تندفع دموعها الصيبة وتتساقط بغزارة. |
وقد تمنت في ليلة من لياليها لو أن حظها لم يقذف بها في بيت الرجل الذي رحل وتركها تعول وحدها كمية الأبناء!.. ثم عادت فأسقطت الكثير من دموع الندم على أمنيتها. فهذا حظها.. وعليها أن ترضى بما كتب الله لها في سجل عمرها.. |
لقد كانت تعيش في بيت أبيها عيشة السيد الذي يطلب كل ما يريده ولا يرد له مطلب.. هانئة بحب أمها، وعطف والدها، وأمواله المتدفقة التي لا تنضب.. |
وتقدم إلى أبيها الكثير من طالبي يدها.. يتمنون أن يصل هذا الشيء الثمين بين أيديهم.. غير أن العقلية التي تسكن في رأس والدها أصرت أن يكون الزوج من الذين لا يملكون ثروة طائلة تضيع بين أكداسها حقوق الزوجة، ومن الذين لا يجمعون أكبر عدد من الأهل والأقرباء حولهم.. حتى لا يقصر عمر الزوجة في بيت زوجها!!.. |
واضمحل ذلك الإصرار العتيد عندما تقدم ((حسين)) إلى والدها بكل الشروط ((والمؤهلات)) التي يريدها والتي تنحصر في مهنة ((الدلالة)).. يعيش الزوج على سوقها، وعلى ما تدر عليه بحسب الحظ والطالع، وحركة السوق!.. وهي مهنة شريفة بلا شك.. ومعناها في عقيلة والد ((فاطمة)) أنها تدفع الزوج إلى الكد الطويل وتفصد العرق لينداح من جبهته ويبني به حياته وحياة أبنائه، وبهذا التفكير قال لزوج ابنته: |
ـ لقد اخترتك زوجاً لابنتي من وسط السوق التي تضم الكثير من الأذكياء.. الذين يعرفون كيف يحافظون على قرشهم.. |
وقال الزوج يومها: |
ـ إن السوق يا عم لم تعد تعتمد اليوم على الذكاء والحيل التجارية.. بقدر اعتمادها على المال الغزير.. والناس لم تعد تثق في وجود معنى الإخلاص.. إلا الثقة في وجود المال أمام أعينهم.. أضف إلى أن الاستيراد غير منظم، لأن كل واحد يستورد كل ما يحلو له ويظن فيه نجاح سوقه.. ما جعل الكثير من البضائع تتكدس في ساحة الجمرك تنتظر مستورديها ليدفعوا التخليص وقيمة الشحن، ولكنهم لا يملكون ذلك إلا إذا جاء عن طريق القرض والتسليف.. |
والبضائع نفسها ليست خاضعة لتسعيرة رسمية.. كل يبيع بالسعر الذي فيه الربح الكثير.. ثم لا تنس يا عم.. الأغنياء الذين يحتكرون استيراد بعض البضائع ليزيدوا من ثرواتهم على حسابنا نحن الضعفاء تجار القطاعي والموزعين، وعلى حساب المستهلك.. |
وضحك الرجل الكبير في سنوات عمره وهو يقول لزوج ابنته: |
ـ لا يا ابني.. إن أمامك التجارب لتعرف التجارة على حقيقتها. لأن الذي قلته مليء بالظن.. فلا يفتت العزيمة فيك.. |
ومضت تسع سنوات.. أفحمت ((حسين)) كثيراً وأعطته التجارب القليلة والمال المقتر، والأبناء الكثير، ورحل عن كل هؤلاء منهكاً معدماً تاركاً ظله المديد يحضن الأبناء وأمهم.. |
* * * |
وقررت (فاطمة) بعد هذا الاسترجاع السريع لفترة حلوة من حياتها أن تبدأ الحياة الجديدة بإيمان قوي راسخ، وعليها أن تطلي الخمسة والعشرين عاماً بطلاء قاتم تأخذه من محنتها، ومن قسوة أيامها.. |
وتذكرت والدها ومديد عطفه عليها، وقالت تهمس لنفسها في تلك اللحظة: |
ـ لماذا لا أستعين بوالدي على تربية هؤلاء الصغار.. يساعدني على تنشئتهم بسلوك يرضى عنه المجتمع والمستقبل؟ |
وافترشت هذه الفكرة في رأسها مكاناً كبيراً، ووضعت عباءتها التي بهت سوادها على رأسها، والتقطت يد ابنتها الصغرى.. في طريقها إلى بيت والدها.. وكأنها تسير بقدَمي راقصة الفالس التي انتهت من رقصتها في نشوة كبيرة!.. |
ودخلت الغرفة الكبيرة التي يتصدر في نهايتها والدها وهو يجلس بكامل ملابسه.. عقاله على رأسه، وعباءته السوداء الشفافة ترقد بجانبه على الوسادة، وأصابعه تدحرج حبات المسبحة في حركات رتيبة، وعلى شفته العليا شنب كث ((يرقص عليه الطير!)) ومن عينيه تبرز الصرامة التي لا تختفي حتى عندما يضحك.. وأخذت ((فاطمة)) يده تمرغ وجهها في باطنها بَوَلَهٍ وتقدير، وهو يقول لها: |
هل أنساك التفكير في مستقبل أولادك زيارتنا ورؤيتنا؟!.. |
ـ قالت بألم: إن التفكير يملك كل عقلي، ولكنه لم ينسني أبوي وأهلي، وقد جئت إليك اليوم لأراك، وأشعر بالحنان الذي فقدته مرتين.. مرة عندما فارقت هذا البيت إلى زوجي، والمرة الأخرى عندما فارقني زوجي إلى مثواه الأخير.. |
ومال رأس الوالد إلى صدره وهو يجيبها: |
ـ لم نمنع عنك الحنان، يا ابنتي، ولكنك أردت منعه عن نفسك.. عندما عرضنا عليك العودة إلى هذا البيت فلم توافقي.. |
ـ قالت: .. وذلك لأن عندي أربعة أبناء، ومهما يكن اهتمامكم بهم، فقد يسببون المتاعب إذا انضممنا جميعاً في بيت واحد، لكنني لن أستغني عن عونك، وقد جئت اليوم أطلبه منك.. أتمنى أن تساعدني بقليل من المال.. لبينما تصفى حقوق زوجي من التجار، ومن كان يسعى لهم في تجارتهم، أما الدار الصغيرة ذات الطابق الواحد التي امتلكها زوجي الراحل بعد أبيه.. فإن النزاع عليها لم ينته بعد - كما تعلم - مع من ادعوا أن لهم فيها ((قراريط)).. |
وانطلقت نظرات والدها الصارمة إلى عينيها المتطلعتين في رجاء وقال لها: |
ـ إسمعي ما أقوله لك، وفكري جيداً في هذه الخطوة التي أريدها لمستقبلك، فأنت في شباب ناضج يغري ويغوي، وجمال دفع بالكثير من الرجال إلى تجديد خطوبتهم لك، ورغبتهم في الزواج بك.. ثم أنت إلى جانب هذه الصفات.. الهامة.. تعيشين بلا زوج.. وحيدة أرملة.. تعانين تربية أطفال أربعة، وليس في يديك الثروة التي تدرئين بها خطر الشيطان عنك، وتدفعين بأبنائك إلى طريق المستقبل المضمون.. فالزواج خير لك في هذه الظروف. |
وطفرت دمعتان من حدقتي عينيها، ونظرت في وجه أبيها قائلة: |
ـ عندما مات ((حسين)) يا أبي لم يترك لهؤلاء الأطفال إلا قلباً واحداً يتهافت على حبهم كلهم بلا استثناء.. فهل يتحمل هذا القلب زوجاً جديداً يزاحم أبنائي في الحب..!؟ |
وأنا لا أدري كيف يكون قلب الزوج الجديد بالنسبة إلى أولادي.. فقد كفتهم الأيام إهانة يا أبي.. إنني نذرت نفسي لهم حتى أعدهم كباراً يعرفون طريقهم بدون أن يدلهم إنسان على معالمه.. |
وهاج الأب في وجهها يقول: إن أولادك في أحضاني أنا أصرف عليهم، وأعلمهم وأكسيهم.. إذا رأيت من زوجك ما يدل على بغضه لهم، وقسوته عليهم.. |
وتسللت أصابع (فاطمة) تعبث بنقوش الفراش الذي تجلس عليه، وقد أنهكها إصرار والدها.. وخنق أفكارها وأنفاسها أيضاً. |
وعادت فلوَّحت برأسها يمنة ويسرة.. في إصرار.. لا تريد فكرة والدها.. لا تريد الزواج.. |
وجمدت نظرات الأب.. تحملق في وجه ((فاطمة)) بقسوة، وساد الغرفة خرس وسكون، ثم قال لها: |
ـ لا أستطيع أن أقدم لكم المساعدة، ولأبنائك الضمان من الشرور إلا إذا ضمنت حاضرك أنت ومستقبلك.. |
وما دام العناد يعنكب في رأسك فاعتبري أن أباك لن يدخل بيتك بعد اليوم أبداً، وأريني كيف يمكن أن تعيشي بلا زوج..؟؟ |
* * * |
وخرجت الخطوات التي جاءت بقدمي راقصة فالس.. تتعثر كأن في قدمي صاحبتها شوكة تحد من خطواتها.. |
وقبل أن تصل إلى بيتها.. انعطف بها الطريق إلى متجر الشيخ (سليمان الصائغ) وقد كان يجلس في متجره بلحيته البيضاء الناصعة في وقار.. يزود أبناءه الذين يساعدونه في أعمال الذهب والصياغة بالمشورة وكيفية معاملة الناس، والتفت إلى المرأة الفارعة التي تقف أمامه في خجل، تريد أن تقول حديثاً لا تود أن يسمعه غير الشيخ سليمان، وأعطاها أذنه وهي تقول: |
ـ عندي ابن أود أن تضعه عندك في المتجر يساعدك ويساعد أبناءك ويتعلم البيع والشراء لأحفظ قدمه من الانزلاق في الأخطار.. ويساعدني أيضاً بقرشين تنفع أطفالي.. |
وأومأ الشيخ برأسه وهو يقول: لا أمانع أبداً. ولكن من الأفضل أن تبقيه في المدرسة يكمل تعليمه. |
ـ قالت: لقد قررت أن أجعله يدرس بالليل.. ويعمل بالنهار.. وهو ذكي يقبل على الدروس والمذاكرة.. |
وتسلَّم ابنها عمله الجديد الأول في متجر الشيخ سليمان.. لينال منه في نهاية كل شهر مائة ريال.. وتسلمت - فاطمة - أنواعاً من الأقمشة.. لتحيلها ابنتها الكبرى التي بلغت الثالثة عشرة من عمرها إلى فساتين جاهزة.. لقاء أجرة تساعد على استمرار الحياة في هذا البيت.. أما الابن الثاني فقد بقي في مدرسته يكمل تعليمه وبقيت الابنة الصغرى تذهب كل يوم إلى مدرسة للبنات تشرف عليها امرأة مسنّة لتتلقى الدروس المبدئية في الخياطة والتفصيل والشؤون المنزلية والقراءة والخط.. |
* * * |
ومضت أشهر أربعة على هذا النظام الحياتي الجديد للأسرة المترملة.. لم تر (فاطمة) والدها في أثنائها، ولم يطرق باب بيتها إلا أمها العجوز التي جعدت معالم وجهها أحداث الزمن.. جاءت لتخفف الوحشة التي أناخت في أركان البيت الكبير.. |
وبعد لأربعة أشهر جاءها والدها يجر عصاه في يده وقد لاحت بسمة خفيفة استقرت على شفتيه، وكادت أن تطفر من عينيه دمعة لا يعرف كيف تجمعت.. وقال لابنته: |
ـ لقد أعجبتني شجاعتك يا ابنتي على مواجهة الحياة، وأعجبني تصرفك وكدك لتأمين المستقبل لهؤلاء الصغار.. وقد جئت مهزوماً أحمل إليك الرضا - كل الرضا - وأبارك خطواتك.. فإني أحس بقرب الأجل. وربما انتقلت إلى العالم الآخر.. |
وبكى الجميع لهذا الموقف المؤثر. |
ولم تمض ثلاثة أسابيع حتى انتقل والدها إلى المكان الذي توقع أن يستقر فيه.. |
* * * |
وكبرت الأيام بالأبناء، وتطورت بحياتهم.. |
تزوجت الابنة الكبرى بشاب تخرَّج من الجامعة، واحتضنها وأخذها تعينه على مواصلة نضاله في الحياة، وسافر بها إلى لندن ليرتفع بثقافته هناك.. وعاد الابن الكبير من القاهرة متخرجاً.. يحمل شهادة جامعية في يده.. في الوقت الذي ودعت فيه ((فاطمة)) ابنها الآخر.. ليزداد ثقافة وعلماً وينال الشهادة التي يحلم بها. |
ونظرت ((فاطمة)) حولها.. فلم تجد إلا ابنتها الصغرى تشاركها هذه الوحدة.. وهي الأخرى تسير في طريق الزواج.. بعد أن جاء بيتهم شقيق زوج أختها يطلبها زوجة له. |
ولم يبق لها إلا فلذة كبدها البكر الذي تركت العرق يتفصد كثيراً من أجل هذا اليوم الذي رأته فيه، لكنها ستزوجه.. ستسعده بامرأة تخلق له جنة صغيرة في هذه الدنيا!.. |
ولكن من ستزوجه!؟ |
وقال لها بعد أن عرضت عليه رغبتها: لقد قررت أن أتزوج ابنة الشيخ ((سليمان الصائغ)).. فقد رأيتها - صدفة - ترفل في هالة من الجمال.. وهي إلى جانب هذا الإغراء.. متعلمة.. أخذت شهادة التوجيهية عندما تركها والدها مع والدتها وأخيها الذي يكبرها بسنوات في القاهرة زمناً طويلاً.. |
واعترضت والدته قائلة: لكني لا أحبذ الزواج بها.. فربما قالت لك يوماً.. أنت إنسان كنت تعمل أجيراً عند والدي فلا تتطاول علي، وهي أيضاً تعتز بالشهادة التي في يدها لتصول بها عليك... لأنها من الفتيات القليلات اللاتي حزن على شهادة مثل شهادتها في بلادنا! |
ـ قال ابنها: أما إنها تتطاول.. فلا تستطيع ذلك لأن العمل - مهما كان - فهو كفاح، وثقافتها تمنعها أن تقول. أما الشهادة فلا تصول بها إلا على بنات جنسها.. أما أنا فثقافتي تبعد عن ثقافتها وتعلو بمراحل كثيرة. |
ومرة أخرى قالت له أمه: وإذا لم يوافق والدها؟ |
ـ قال: في هذه الحالة أبحث عن عروس أخرى!.. |
لكن الشيخ سليمان وضع يده في يد الشاب المكافح، وبارك له الزوجة وبدأت أيام الفرح يضج بها بيتان.. ويزغرد بأحلامها قلبان، وحولهما قلوب تمنت ميلاد هذا اليوم.. |
وانتقلت صور الحب من بيت الشيخ سليمان.. إلى البيت الذي شهد كثيراً من صور المآسي والكفاح.. |
لقد كانت الأم سعيدة بزواج ابنها رغم أن الخيفة والحذر يتوجسان في قلبها من معاملة الزوجة لابنها.. بتفكير أم الزوج، وأم الزوجة!. |
* * * |
وزفت الابنة الصغرى بعد سنة من زواج أخيها.. إلى الرجل الذي طاردها حتى حظي بها في عمر الزهور.. |
وبقيت ((فاطمة)) في بيت ابنها تشاركه العيشة الهانئة، وتظلل بحنانها قلبين يزداد فيهما الحب أصالة في كل يوم، لكن طبيعة الاحتكاك - وخصوصاً في مجتمع النساء - أدت إلى الخلاف بين الزوجة وأم الزوج.. |
واشتعل الهدوء فأصبح دخاناً يخنق من في داخله.. |
وبلا حرج.. جاء الابن إلى أمه يحدثها في أمر جلل.. في فكرة هدمت كل ما سنّته الأم في ماضيها، وأهرقت كل الأحلام التي تكوّنت في النفس الباحثة عن الحنان.. |
تسمرت النظرات التي تاهت في البحث عن الحنان.. في وجه الابن.. في قسماته، في طوله الفارع، في مكنبيه العريضين، واستمعت إلى ابنها يقول لها بصراحة عارية.. لا تسترها حتى ورقة توت: |
ـ إن سكنكما معاً - أنت وزوجتي - أصبح أمراً مستحيلاً، ولا أريد أن أدخل نفسي كل يوم في حلقة نكد وشقاق. أنت يا أمي تريدين أن تعيشي بعقلية ما قبل عشر سنوات.. وزوجتي تود أن تعيش هذا العصر، وهي متعلمة، وأنت... |
وقاطعته أمه قائلة: نعم يا أبني، وأنا جاهلة لا أفهم، ولا أحسن التصرف.. أليس كذلك؟ |
وأكمل ابنها: .. ولهذه الأسباب، فمن الخير أن تعيشي في بيت لا يشاركك في مسكنه أحد، وأنتقل أنا وزوجتي إلى سكن خاص، وأتعهد بدفع إيجار هذا البيت.. ومرتب شهري أرى أن يكون في حدود مائة وخمسين ريالاً، وهو مبلغ أظنه يكفيك!.. وقد ارتحت إلى تنفيذ هذه الفكرة لأنني لا أود أن أفقدكما.. أو أفقد إحداكما. |
ومن وراء قطرات الدموع قالت: .. وشقيقك الذي انتهى من دراسته.. ترى هل سيقبل صداقتي وجواري له، أم يرفض هو الآخر؟ |
ـ قال: أما أخي فإنه سيعود.. ليباشر عمله في مدينة الرياض.. لقد جهزت له ذلك بحسب رغبته. |
* * * |
وقامت الأم بخطوات ثقيلة منهكة.. تجمع متاعها وحوائجها، وتفصلهما عن متاع ابنها وزوجته، وهما ما تبقّى لها في هذه الدنيا.. استعداداً لانتقال ابنها إلى الدار الجديدة الخاصة.. |
ومع أشعة الشمس المخضبة بالشفق القاني.. وقد أخذت تنحدر وراء الجبال الشامخة.. أرسلت ((فاطمة)) نظرة عميقة إلى البيت الذي عاصر تلك الأحداث، واصطدمت نظراتها بالمتجر الصغير الذي يقف فوقه بيت الأحلام والكفاح.. وقد مات فيه الحنان.. |
ورأت ((عم باسويد)) وقد أحالته السنوات الطويلة إلى هيكل عظمي متهالك، وهو يجلس أمام ((الأتريك)) يشحنه بالهواء.. وهو لم يقتنع بفائدة الكهرباء.. ثم رأته وقد امتدت يده في إجهاد واضح.. تقبض على السلسلة المدلاة من سقف المتجر، وأمسكت اليد الأخرى بالأتريك.. ترفعه إلى مكانه المعروف الذي يعلق فيه كل ليلة! |
|