شذوذ..!؟ |
حمل ((عم أمين)) صينية الشاي الأثرية.. بعد أن وضع عليها ((الفناجيل)) بكل حرص وأناة، وسار ناحية غرفة مدير المدرسة.. يتصنع المشية المؤدبة، وبعد أن مسح مكتب المدير بمنشفته الغارقة في الوساخة.. وضع ((فنجال)) الشاي وهو ينحني انحناءة احترام وأدب تقليدي.. ثم تراجع خطوات إلى الوراء، وعاد إلى غرفته الصغيرة التي يعدُّ بها الشاي الخاص لأساتذة المدرسة. |
وانطلقت صفارة مراقب المدرسة تعلن ابتداء ((الفسحة)) الكبيرة للطلبة، ومع صوت الصفارة.. كان ((عم أمين)) يصلح من وضع ((عمامته)) على رأسه بفنية!.. ثم أعدَّ ((براداً)) خاصاً من الشاي.. واتكأ على باب الغرفة.. يجول بعينيه في وجوه الطلبة المنطلقين إلى فناء المدرسة!.. وبعد دقائق.. كانت الغرفة الصغيرة تكتظ بعدد من الطلبة.. مخصوصين، جعلوا من غرفة ((عم أمين)) مستراحاً لهم في الفسحة.. بعيداً عن الضوضاء الكثيرة في ((الفناء)).. ثم بدأوا المداعبة مع ((عم أمين)).. وهي مداعبة معهودة منهم له.. ومقبولة عنده منهم..!! |
كان يبتسم لكل كلمة يسمعها منهم - على عرض فمه المتوسط الحجم، وهو سعيد بادي الانشراح، وعند انتهاء ((الفسحة)) الكبيرة.. يكون براد الشاي الذي أعدّ.. قد انتهى إلى الحثالة!.. |
ويهدأ ((عم أمين)) من جلبة الحركة فقط.. ويأخذ في تنظيف الأواني التي أمامه.. والتي خلَّفها له أصدقاء ((الفسحة)) وينهمك في توضيب الغرفة مرة ثانية!.. |
وهكذا.. تمضي الأيام ((بعمِّ أمين)).. راضياً بخيرها.. عاشقاً لها.. بكل شعوره.. لا يشغله شاغل عن المدرسة، حتى في أوقات ((العصر)).. كان يعود إلى المدرسة بعد أخذ راحته الجسمية في البيت، ويستقبل طلاب الجمعيات المؤلفة في المدرسة يقفز مجموعة من درجات المدرسة.. ليقدِّم شاياً حاراً لجمعية الصحافة مثلاً.. ثم شاياً - لجمعية التمثيل.. وبعد الساعة الواحدة - عندما يخرج مدير المدرسة.. يتجمع عنده نفر من الطلبة.. يتسامرون في غرفته الصغيرة حتى الساعة الثالثة ليلاً.. |
وفي هذا الوقت.. يخرج ((عم أمين)) من المدرسة.. طارحاً عمامته.. مسدلة على كتفيه، وبين يديه دفتر كبير فيه أسماء الطلبة المتأخرين والغائبين يومهم عن المدرسة.. وساعتها يحلو له طرق أبواب بيوت التلاميذ ليأخذ إمضاءات أولياء أمورهم - مع عذر تافه ترسمه حروف تقليدية (معذور!) ومن هذه الزيارات الليلية.. اتخذ ((عم أمين)) أصدقاء له من الطلبة قام الودّ بينهم.. يقضي عند هذا ((ليلة الجمعة)) لسماع حفلة ((أم كلثوم!)) ويقضي عند ذلك ليلة الاثنين.. يتفانى في خدمة ضيوف تلك الليلة، ثم يعود إلى بيته وقد شارفت الساعة السادسة أو الثامنة ليلاً.. |
وفي البيت يجد امرأته تطلق ((شخيراً)) عالياً.. لا تحس به، وأبناءه الخمسة يتقلبون.. مع أحلام ونوم، ويرفع ((الناموسية)) بحذر - ليلقي برأسه الخائف، ويستغرق في نوم عميق!.. |
وذات صباح.. وهو يقف بين المجموعة المعروفة من أصدقائه الطلبة.. يوزع عليهم الشاي والابتسامات.. رأى مدير المدرسة.. يقف معه بين مجموعة الطلبة.. بوجهه الأسمر الصارم.. ونظراته الملتهبة تكاد تحرق كيان ((عم أمين..)) وارتعد.. ووضع صينية الشاي على الصندوق الخشبي المستَّر بقطعة من النايلون المنقوش.. وألقى برأسه وسط صدره الناحل، ولم يرفعه.. حتى قال له المدير: |
ـ ما هذا يا ((عم أمين))، أليس للطلبة فناء يجدون فيه الشاي، والأكل؟ |
وارتجَّ ((عم أمين)) وقال بارتعاش: |
ـ والله.. والله أنا لم أدعهم، ولكنهم من أنفسهم يجلسون!. |
قال له المدير: غرفتك ليست ((غرزة)) لطلاب مخصوصين.. أتسمع؟.. |
وارتعد ((عم أمين)) ثانية، وأعاد رأسه إلى صدره وسكت طويلاً.. حتى ذهب المدير إلى غرفته، ثم نظر حوله.. خوف أن يجد الطلبة يسمعون تهزيئه، ولكنه كان وحيداً في غرفته ولم يعد الطلبة إلا في اليوم الثاني.. فراداً كاللصوص، وقصَّ عليهم بقية حديث المدير، ثم علَّق قائلاً: |
ـ أما مدير؟.. يحشر نفسه فيما لا دخل له فيه!!.. |
وأخذ مدير المدرسة.. يراقبه، ويشدِّد عليه أوامره، غير أن الطريقة التي اتَّبعها مع ((عم أمين)) لم تنجح.. بل كان يشعر في كل مرة بلسان ((عم أمين)) يمتد خلفه كلما تكلم معه!.. |
وبحث له المدير عن وظيفة في مدرسة أخرى.. ليبعده، ثم أبلغه بأمر نقله إلى وظيفته الجديدة، وودَّعه بنظرات فيها راحة واطمئنان. |
ومرَّ يومان.. |
وفي اليوم الثالث.. كان ((عم أمين)) يقف أمام مكتب مدير المدرسة التي كان بها.. بانحناءة احترام وأدب تقليدي.. ثم قدَّم له ورقة صغيرة من الجهة العليا ((المسؤولة)) كتب فيها: ((يعاد الفرّاش أمين إلى عمله الأول))! |
|