شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إضاءة
بقلم: الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسن عواد
قلّ أن يهتم إنسان بإنسان إلا وهناك صلات أو مشابة نفسية تربط بينهما في الحياة العامة أو في الحياة الخاصة.
وقد ألقيت على نفسي السؤال الآتي - عندما فاتحني الأخ رشاد سروجي بأنه جمع ما كتبه الكتّاب عن الشاعر الراحل (محمد عمر عرب) على أثر وفاته، واعتزم إخراجه مع بعض آثار الفقيد، في كتاب يخلد ذكراه وحاول أن يطبع الكتاب عدة مرات فلم يوفق إلى هذا العمل:
ما الذي حفز رشاداً إلى هذه الفكرة، بصورة تركته يصر ويلح ويتحين الفرص لإبرازها، وليس بين رشاد سروجي وعمر عرب صلات عميقة، اللَّهم إِلا صلة الوظيفة التي ربطت بينهما في وزارة الصحة في أواخر حياة الأستاذ الراحل، فهذا رئيس الديوان في هذه الوزارة، وذاك موظف في قسم من أقسامها، وإِلاَّ ماصلة الأدب العامة التي تجمع بينهما في هواية القلم؟..
نعم هما صلتان كافيتان للاهتمام، ولكن ليس رشاد سروجي بالموظف الوحيد في الوزارة التي تجمع الاثنين في مكاتبها.
وليس هو بالأديب الوحيد الذي يشترك والفقيد في رسالة القلم في هذه المملكة العربية السعودية.
ففي وزارة الصحة موظفون آخرون لهم من وشائج الوظيفة مع الشاعر الفقيد ما لا يملك رشاد منه إلا الأقل.
وفي المملكة أدباء لهم من أولوية القيام بتخليد هذا الشاعر بهذه الوسيلة المفضلة ما لا أعرف أن لرشاد منه ما يعادل 10% إذا ملنا إلى التعبير بلغة الأرقام.
أهي المقدرة المالية؟
لا، فالأستاذ رشاد غير معروف بالثراء ولولا عقله وحسن تدبيره واستقامة سلوكه وعفة نفسه لسلك في داخل وظيفته أو خارجها وسائل أخرى غير وسيلة المرتب الضئيل، لكسب المال الذي يقربه من أبسط خطوات الرفاهية حيث ينتقل بعيشه قليلاً عن مستوى الكفاف الذي يعيش فيه ولا يعزيه عن ثقل أعبائه إلا صبره وإيمانه واستقامته وخلقه الشريف.
أم هو حب الشهرة لإشباع نزعة يتطلبها الشباب؟.. لا، ولا هذا أيضاً.
فالأستاذ رشاد رجل واقعي كما عرفته من سنوات لا يرضى أن يحوك حول نفسه شبكة من الخيال يتسلق عليها كما تتسلق العنكبوت على نسيجها الواهي حيث لا يأمن على نفسه أن تنبري له إحدى الحشرات من ذباب الديماجوجية فتعيث فساداً بهذا البيت، لا لتستفيد منه، وإنما لتعرقل عنكبوته إلى حيث تستوي معها في حضيض الأرض.
أم هو النفاق الاجتماعي.. للجلب والدفع؟
لا، وأَلف لا؛ مرة ثالثة.
فالفقيد الراحل قد فارق هذه الحياة الفانية ولم يعد يملك، كما لم يكن يملك في حياته، من أسباب الخفض والرفع ما ينسبه البشر عادة إلى الجاه العريض، وأعتقد أنه حتى لو ملك هذه الأسباب في حياته لما وجد في خلقه الفذ ما يغريه باستعمالها في غير موضعها، وهذا ملموس مشاهد في مسلكه الراقي النظيف فقد كان - رحمه الله - رجل جد وطهارة في أعماله، لا يدس ولا يستهتر، ولا يضع ((الندى في موضع السيف، ولا السيف في موضع الندى)) لأنه يعرف أن كلا هذين مضر بالعلا كما يقول أبو الطيب المتنبي في إحدى دالياته الشهيرات.
إِذن هناك حافز آخر حفز الأستاذ رشاداً إلى إبراز هذا الكتاب. حافز من نوع رفيع لا يتلاءم مع أي نوع من أنواع الحوافز الوصولية التي أومأنا إليها.. حافز يرجع إلى صلة قوية، بين الكاتب والمكتوب عنه، أو يرجع إلى مشابهة نفسية عميقة بينهما لا يخطئ الباحث المثقف المهتدي أن يضع يده عليها إذا لجأ إلى المنطق السليم.
هذه الصلة النفسية فيما عرفته من فطرة الرجلين هي اشتراكهما في حب العمل الصامت.. العمل لوجه العمل.. العمل لوجه الحق، العمل لدفع القلق الأسود الذي يخلقه الاستنكار النفسي لضياع الحقوق الأدبية وضياع النابهين المكافحين من أصحاب الفنون والأقلام بين العبث والحقد والحسد والاستهتار.
عاش ((عمر)) مغموراً نتيجة لانطوائه على نفسه وابتعاده عن الصراع الأدبي المنتج، وإيثاره للسلامة خوفاً من مكايد المنافسين، وفراراً بنفسه عن حرب الأعصاب وحرب المعايش بعد أن قاسى منهما ما قاسى في مطلع شبابه عندما قال لمعلميه في مدرسة الفلاح ما معناه: نحن خير منكم لأننا نجاهر بأفكارنا وبما نعتقد فنحفظ بهذا للتعليم كرامته، ولا نقف من الجمهور موقف النفاق والمداجاة فنتملق عواطفه لنكسب رضاه ونتركه في جهله وغفوته كما تفعلون!! فحوكم وطرد من المدرسة وقوطع هو وإخوانه وسُعيَ به إلى ولاة الأمر ولكن الله نجاه من كيد المعتدين.
وعاش عمر هادئ الطبع مسالماً مساعداً للناس صادفاً عن الغرور والضجيج مكباً على العمل البعيد عن الاشتباك.
ونحن نرى أمثال هذه الطباع السلبية في رشاد، فهو إنسان وديع كالحمل، هادئ كليل الصحراء، فلا غرابة أن تحفزه هذه المشابهة إلى تخليد ذكرى عمر بهذا الكتاب.
والآن فماذا - بعد ذلك - عن عمر الشاعر الأديب الذي يحييه الأخ رشاد سروجي بهذا الكتاب؟
عرفت هذا الشاعر أول ما عرفته شاباً متدفق الحيوية طلق اللسان خفيض الصوت، مشرق الوجه، مرحاً، مترفعاً، لطيف اللقاء، خفيف الظل، ذكياً، مثقفاً، ثائراً على القديم.
كان ذلك في سنة 1338هـ في جدة، في مدرسة الفلاح، عندما أنتدب لها من مكة مدرساً، ومعه زميل من رفاقه المعلمين اسمه ((أحمد جمال بخاري)) يقيم الآن في الهند، كما أظن.
كان ((عمر)) إذ ذاك فيما بين العشرين والخامسة والعشرين من عمره، كما يبدو للمتفرس..
وكنت يومئذ قد قطعت مرحلة في الشعر عرفت فيها المتنبي والمعرّي، والبحتري، وجريراً، والأخطل، كما عرفت فيها شكسبير، وفيكتور هيجو، وفولتير، وبايرون وجوتيه، وأسكيروس، عن طريق ما ترجم عنهم وما ترجم لهم إلى اللغة العربية. وكنت في الرابعة عشرة من سني حياتي أتعلم في هذه المدرسة وألقي دروساً على طلبتها الكبار.
وأعجبت بعمر ورفيقه كما أعجبت بهما بيئة المدرسة كلها طلاباً ومدرسين، فقد أوجدوا في هذا المجتمع روحاً جديداً سرى فيه كما يسري نسيم الربيع في جو أرهقه جفاف الخريف.
وتوطدت بيننا صداقة مبعثها الإحساس المشترك بذلك الجو الخانق والحاجة الموحدة إلى تبديد غيومه الفكرية التي كانت تؤذي أرواح الشبيبة وتدفعها إلى الثورة على كل شيء هناك يتصل بالروح والفكر والقلم.
الثورة على المذهب الديني والتعبد للأشياخ وما قرروه في توجيه طلاب العلم.. وقد كنا نرى الخضوع العقلي للمذاهب الفقهية الأربعة أو لأحدها ولما يسايرها من مذاهب المعتقدات ضرباً من التشبّه والتقليد للمسيحيين في خضوعهم للكاثوليكية أو الأرثوذكسية أو البروتستانتية، وكنا نتألم عندما نقارن بين الإسلام كما يفرضه المذهب الجبري للأشعرية أو الماتريدية، أو الشافعية أو الحنفية الخ، والإسلام كما هو في محجته البيضاء التي تركنا عليها صاحب هذا الدين العظيم.
في الإسلام التقليدي بلادة وتفريق وانحراف.
وفي الإسلام الحقيقي، سمو بالنفس وتوحيد للأمة، واستقامة سوية توصل إلى النور الأبيض الذي تبعثه المحجة البيضاء.
ومن هنا اشتد إعجابنا في تلك السن بمحمد بن عبد الوهاب المجدد الديني في قلب جزيرة العرب، ولكنه إعجاب قل أن نستطيع المجاهرة به في عهد تسيطر عليه حكومة الهاشميين وهي حكومة مقلدة في مسائل الدين وقد صبغت بهذا التقليد كل مرافق الدولة من مدارس ومعاهد ومجتمعات وإدارات وأفراد؟
ولكن الفكر كنفثة الشعاع يستحيل أن تقدر على كبته قوة مسلطة أو تعليم لا يلامس طبيعة العقل.
ووجدنا في عمر عرب ارتياحاً لهذا الاستواء الذي سبق أن شعرنا به وتفاهمنا عليه نحن الثلة الصغيرة التي فهمت الدين من وحي الكتاب وحده لا من وحي الماتريدي والأشعري والشافعي والمالكي.
وكانت هذه الفكرة وحدها كافية لأن ترسل علينا المدرسة ظلالاً قاتمة من صفات الطعن تسميها ((الماسونية)) تارة، والإلحاد تارة أخرى وتحاربنا من طريقها، ونحن تلاميذها المنتسبون لها كما حاربت أختها فلاح مكة عمر عرب ورفاقه هناك.
وفي هذا الجو النفسي كنت أبعث الشعر مقطوعات وقصائد تحمل رسالة الفكر الحر المنطلق، والثورة على الأفكار وهي القصائد والمقطوعات التي نشرتها بعد ذلك في ديواني:
((آماس واطلاس)) و ((بقايا الآماس))
ومنها ((حطرات)) و ((خواطر منتحر))
و ((الفضاء)) و ((القلم المكسور))
وقد جاء في الأولى:
يا بلادي ألم يحن بعد للأحرار فيك انتباه حب الكراسي؟
ومتى تقلعين عن نظرة الجمع إلى الفرد نظرة الاحتراس!
وعن الكيد للصغير بلا جرم سوى جرم فتنة الدساس!
وعن الدس والتدابر حتى أصبح العيش مشبه الديماس!
وعن الذل والتفرق والفوضى وخذل الرقيق وقت التواسي!
إنما الفقر والمخاوف طراً كمّن تحت هذه الآساس
* * *
وجاء في الثانية:
لي قوم وأنت أدرى كرام لا يسيغون للبقاء نزاعا!
ما يزالون بالطعام شباعا، ويظلون للحياة جياعا!
أهملوها على السنين فما يدرون في الكون طيبها الضواعا!
* * *
أيهذا الصغير يرحمك اللَّه أضاعوك واستخفوا الضياعا
قتلوا فكرك الثمين وباهوا أنهم أيدوا بك الإجماعا
علموك الأوهام في صور شتى، خراب الدماغ فيها مراعى
وستدري إذا ((تنبهت)) يوماً أنهم علموك سخفاً مشاعا
وجاء في الثالثة:
فابعثوها ثورة تقلب الأرض سما (1)
تجعل الزارع منكم سيداً محترما
وتنيل الصانع الحي مكاناً مكرما
وتواري الفقر رمساً لا يثير الرحما
وتبث الحب والرفق وتمشي قدما
كونوها باتحاد لا يرى منفصما
* * *
وجاء في الرابعة:
لا كما أبتغي أعيش، ولكن هكذا الوضع، هكذا الإنشاء
خلقت لي - ولست أشعر - نفس في مناها تثور، وهي تساء
ركبت أصعب الطبائع فيها، فهي نزاعة القوى عسراء
لا تسيغ الرتيب، لا تهضم الأعوج، والعيش راحة وعناء
تكثر الفكر والسؤال عن الغائب، والكون ليلة طخياء
وتنادي ولا مجيب، وتستوري ولا ري، والجميع ظماء
أيما موجب لرقة إحساسي إذا ما العذاب فيه غذاء
ولماذا يظل يفتك في نفسي من رؤية المساوئ داء؟
ولماذا كان الثرى لفلان، وفلان له يكون الثراء؟
بينما ذا وذاك سيان في الجهد، وقد يصحب الثرى الخواء!
قال قوم: هو القضاء، فآمنا، ولم يدر عقلنا ما القضاء؟
وتمارى المهوشون، فقالت فئة: ((إنما هي الأنصباء))
وهي خبط الأحياء في العالم المائع، وهو الغموض وهو الغشاء
هو شيء مستغلق الفهم قد ضل به الجاهلون والعقلاء!
قوة مستسرة ذات هول ملؤها السحر طامساً والخفاء!
حكمة، أو تناقص، أو جنون حائر، و حقيقة صماء!
تدع العاقل الأديب قمينا أن ترى فيه حيرة وامتراء!
يمتري في الحياة: هل هي فن ناضج فيه دقة واعتناء!
أو هياط نظامه ومياط، واضطراب؛ وضجة والتواء!
يقصد الدين سائلاً فإذا الدين هو السلب صامتاً، والأباء!
وإلى العلم يلتجي، فإذا العلم ظنون عريضة، وادعاء!
وإلى العقل ينتهي، فإذا العقل وليد مدلل بكاء)!
ثم قالت وفلسفت فئة أخرى مقالاً تزجه الأهواء!
* * *
وغريب في منطقي ذلك المنطق، والناس في النهي غرباء!
أفسدوا واقع الحياة بأوضاع قباح، وبرروا ما أساءوا!
وأحالوا على القضاء شؤوناً عف عن أن يسيغها الأذكياء!
بوركت حكمة الحكيم وجلت، وعلى العقل والظنون العفاء؟
* * *
وأعجب بها عمر أيما إعجاب وقال لي إنه بعد خمس سنوات سيكون منك ((فولتير)) آخر.
ومن هنا عرفت عمر وقارنت بينه وبين كل من عرفت من الأساتذة جميعاً فعرفت أنه أديب مفكر من طراز جديد يتفق تماماً والطراز الذي نفكر به - نحن الثلة الصغيرة وحدها - قبل أن نعرف عمر بثلاث سنوات، وقد أعاد إلينا ذكرى أستاذنا الذي فقدناه منذ سنة واحدة وهو الأديب اللامع الأستاذ إبراهيم ضياء الدين رحمه الله فقد كان شعلة ذكاء وحزم وجرأة وكفاح.
أما الثورات الأخرى التي كان يدفعنا إليها الإحساس بالجو الخانق والحاجة إلى تبديد الغيوم التي تؤذي أرواحنا، كالثورة على سياسة ((الحيز الضيق)) التي أحسسنا بها في أواخر العهد الهاشمي، والكثورة على أدب ((الاكليشهات)) وشعر التخميس والتشطير، وحصر الآثار الشعرية في أدب العاطفة، فلم نحس لها صدى في روح عمر حيث كان رحمه الله ميالاً إلى الاتباعية في هاتين الناحيتين.
* * *
كان في الشعر شوقياً وحافظاً والبارودي على جبران ونعيمة والعقاد ومطران، وكنا على العكس.
* * *
وكان في السياسة يرى في الملك حسين ملكاً مثالياً للعرب، وكنا نخالفه في هذا الرأي ونقول له بصراحة: إن موجهي السياسة العربية المثالية يجب أن يكونوا جماعة لا أفراداً، وأن هذه الجماعة لم تتبلور إلى اليوم، وستتبلور مع التعليم والزمن وارتفاع درجة الوعي السياسي العربي. وأن الأدب هو الذي يجب أن يقوم بدور البطل في مسرح السياسة في العصر الحديث.
ومرت ثلاث سنوات على صداقتنا بدون اجتماع.
فقد كان زمن الاجتماع قصيراً لا يعدو بضعة شهور عاد بعدها عمر إلى مكة.
* * *
وفي سنة 1341هـ تجددت صداقتنا في مكة وقد قدمني في هذه المرة إلى لفيف من أصدقائه الأدباء كانوا يجتمعون في ندوة أدبية في مكان أنيق في محلة ((جرول)) بعد عصر كل يوم، وكانوا قليلي العدد لا يزيدون على أربعة، وهم عمر عرب، ومحمد سرور الصبان، وعبد الوهاب آشي وعبد الله فدا.
وكان كل منهم يتخذ لنفسه اسماً أدبياً مستعاراً، فكان الاسم الأدبي لعمر. ((زهيرا الصغير))، ولمحمد سرور ((أبا فراس)) ولعبد الوهاب ((نعيمة القصير)).
ومن هذه التسمية يستطيع الناقد أن يستشف النزعة الأدبية التي ينزع إليها كل من هؤلاء.
فاختيار عمر لاسم ((زهير)) يدل على ميله نحو الوجدانية والأناقة والصفاء في الشعر وهي الصفات التي يحملها شعر ((زهير)) - (البهاء زهير، لا زهير بن ابي سلمى).
واختيار محمد سرور لاسم ((أبي فراس)) يدل على ميله إلى الأرستقراطية الشخصية والحنين القومي والوطني، كما كان ((أبو فراس الحمداني)).
واختيار الآشي لاسم ((نعيمة القصير)) يدل على إعجابه بـ ((ميخائيل نعيمة)) أحد أدباء المهجر أو السوريين المهجريين كلهم، وقد عبر عبد الوهاب آشي عن هذا الإعجاب بقوله فيما بعد في المقدمة التي كتبها لكتابي ((خواطر مصرحة)): ((وإن هذه الخطة وإن لم ترق لدى المحافظين الرجعيين غير أنها جارية على سنن حياتنا الحاضرة)).
وما أذكر الآن الاسم الأدبي الذي كان يتخذه لنفسه زميلهم الرابع ((عبد الله فدا)) رحمه الله.
لم يتكرر اجتماعي بهم في هذه الفترة التي كان الحديث فيها يدور على الشؤون السهلة من شؤون الأدب وينشد فيها عمر عرب بعض شعره الغزلي.
وعندما عدت إلى جدة دارت بيني وبينهم مكاتبات كنت اكتشف منها الدماثة والوفاء وصفاء الصداقة، وكنت أجد الروح الشعري المنساق يطل من وراء سطور عمر عرب فعرفت أنه شاعر الجماعة.
* * *
وفي سنة 1342 بعثت إليه من جدة بقصيدتي ((مع الورقاء)) فراح يجاريها بقصيدة كان عنوانها: ((قلب المحب)).
* * *
هذه لمحة عما عرفته عن الشاعر المترجم أرجو أن أؤدي بها حق الوفاء لصديق راحل له علي حق الوفاء، وله على الجيل حق الفهم والدرس بوصفه أديباً مرموقاً له في الريادة مكان غير منكور.
* * *
وليس هنا محل دراسة أو نقد لشعر الرجل فخير طريقة لفهمه وإنزاله منزلته المستحقة هو أن يقرأه الدارس مباشرة. وقد أحسن الأخ رشاد واضع هذا الكتاب - بجمع الطائفة التي تيسر جمعها من شعر الشاعر وأفرادها في جانب واحد من جوانب الكتاب لتمكين القارئ من استيعابها بالقراءة، وتمكين الناقد من استيعابها بالدرس.
ولا بد للدراسة من عبرة!
إذ من الخسر أن نخرج من عملنا بدونها.
وإلا لما كان هنا داع للدراسات الأدبية، ومن ثم لم يكن هنا داع لهذه الفصول التي تدعى.. المقدمات.
فما عبرة كل هذا؟
لا جرم أن الجيل كله في حاجة لأن يعتنق القوة الفكرية المكافحة في سبيل الحقيقة التي يحتاجها المعاصرون، فيضطلع بأعبائها أفراد قلائل، بينما يتجاهلها ويتجاهلهم أولئك الذين أوجدتهم الصدف في طريق الناشئين للتوجيه وتفتيح الوعي العام، إما باسم التربية والتعليم، وإما باسم الكتابة والصحافة، وإما باسم الإذاعة، وإما باسم الوعظ والإرشاد.
وإن الجيل كله لفي حاجة لأن يعرف قيمة الشجاعة والصراحة في إعلان هذه الحقيقة للشعب على أيدي هؤلاء القلائل إعلاناً لا تصده التقاليد، ولا يخدره الإغراء، ولا ينطلي عليه التدجيل.
فالحقيقة لا تعيش مع الجبن، والمواربة، والرياء والتغافل بل هي لا تتقدم إلى البروز والحياة والنور مع هذه العوامل التي هي من أقوى جراثيم الانحلال.
وإن الجيل كله لفي حاجة لأن يدرك أن الهمس بهذه الأمور كان في تلك الحقبة من الزمن التي امتدت إلى سنة 1345هـ وما بعدها بقليل - مجرد الهمس بأفكار ومشاعر وحقائق وآراء تقدمية حرة كان جديراً أن يجعل من أصحابه متمردين، أو شذاذاً، أو زنادقة فكيف بالجهر بها صراحة، وفي أسلوب شعري يتهافت عليه الشبان والمثقفون؟ وكيف بهذا الجهر ونشره نظماً ونثراً إذا جاء من شبان صغار لم يبلغ بعضهم الخامسة عشرة بعد؟
هذه اليسارية كانت منتهى الشطط عند الرجعيين المتعصبين ومعظم رجال الحكومة، ومعظم رجال التوجيه، ولكنها كانت منتهى الثقافة والوعي عند التقدميين من أَمثال صاحب الترجمة، لأنها وليدة النفس المتسعة والفكر الجريء والضمير الحر.. وحرية الضمير - على الأخص - لا ترضى أن ترى القيم الفكرية، والقيم الخلقية، والقيم الروحية معرضة للفساد والتلاعب في مجتمعها وتسكت. إنها تعمل وتستمر في العمل لإصلاحها ورفعها حتى تؤدي رسالتها ولا هدف لها إلا التعلية والتقدم.
وكم كان يؤسفنا - ونحن على مقاعد الدرس في مدرسة الفلاح أن نرى بعض رجال التربية الدينية مخدوعين عن أنفسهم، ضعفاء الإحساس بوجودهم الذاتي، شأنهم في ذلك شأن رجال الدين المسيحي الذين القوا بمستقبلهم في ملكوت الله إلى أيدي كهنة خلعوا عن أنفسهم صفة الوكالة عن الرب، وادعوا في صميم سلوكهم مع الشعب - أنهم مفوضون في تقرير مصير الروح وفي تلقي الاعتراف من الفرد الذي لا يملك لنفسه أن يثور في وجوههم قائلاً: لا إن الله لم يجعلكم وكلاء على الضمائر، وليس هو - سبحانه وتعالى - في حاجة لأن يخلق من عباده شهوداً عليه ووزراء ومستشارين يلعبون بإرادته وأوامره، فلا يقبل المنيبين إليه إلا إذا تمسحوا بذيولكم.
كنا نعجب أشد العجب، ونسخر أبلغ السخرية؛ وننكر أروع الإنكار على هذا التشابه البليد، ولا نرى له أيما موجب لأننا كنا نحس بالفطرة وندرك بالاطلاع أن ذلك الخشوع الروحي كان سببه عند متبعي الكهنة أنهم يتعبدون للمسيح تعبدهم لله؛ فلما تورطوا في ذلك أحسوا بأنهم يعبدون بشراً منخفض المستوى عن كمال الإله، فكيف يغطون هذه الثغرة؟
كان الواجب الطبيعي أن تخلق فيهم هذه اليقظة ثورة على هذا التعبد فيرفضون ويخلصون إيمانهم للواحد الأحد الذي لا كفؤ له ولا شبيه، ولكنهم جنحوا إلى طريق أخرى ملتوية، وهي طريق التغطية والترميم وتبرير الورطة الفظيعة بدون داع لتبريرها فحاولت الكنائس أن تسد هذا العجز فأفاضت الطقوس وصنعت الرموز وموهت على الضمائر؛ ومن ثم خرج أمر الدين عندهم من يد الضمير المرتفع، ودخل إلى يد الكهنوت العابث بالدين وبالضمير.
ولا غرابة أن نصل - في تلك السن المبكرة - إلى هذه القمة من الإدارك والتمييز، فقد نشأنا في الجزيرة العربية، وأوتينا من الفهم الحر والطبع السليم ما حرم منه أكثر معلمينا، لأنهم كانوا مستوردين من خارج الجزيرة العربية.
ولا غرابة أن تكون جزيرتنا العربية بهذه المكانة من إلهام الضمير، فهي مهبط الثورة السماوية التي أرسل بها ((محمد)) لحياة الملايين من البشر.. ثم هي بعد هذا مهد الثورة الأرضية التي جدد بها محمد بن عبد الوهاب ديانة محمد بن عبد الله مما علق بها من أوهام وأضاليل جلبها أولئك المستوردون.
فنحن إذن تلاميذ الثورة، ونحن أبناء حوارييها الأولين، سواء ذلك في دعوتنا إلى كفاح الرسل على مبادئ خاتم الرسل وموقظ الجزيرة الأول لتوقظ ما حولها ومن حولها من عوالم الأرض الواسعة، وفي دعوتنا إلى تحرير الفكر والقلم والضمير مما تتطلب حاجة المواطنين. وقد فتح الطريق قبلنا إلى نمط من هذا التحرير رجل من أبناء هذه الجزيرة القائدة.
فثورتنا طبيعية لا زيف فيها ولا تصنع ولا لف ولا دوران.
وها هي ذي الآن تبرهن على نبلها بما وصل إليه كتابها من هذه النتائج المشهودة في أدب الحياة الجديد، هذا الأدب الذي أصبح قائداً بعد الانقياد، وسيداً بعد الاستعباد ومسيراً موجهاً خلاقاً يؤدي رسالته على أحسن وعي، وعلى أرقى سند من التاريخ ومن طبيعة النفس، ومن حاجة الوقت، بعد أن كان إمّعة اتباعياً جامداً لا يدرك غير القوالب ولا يصنع حتى في هذه أكثر مما يصنعه مقلد جاهل فاقد الوعي.
والشاعر الذي يسجل أدبه وذكراه في هذا السفر الصغير ليس هو بالغريب عن هذه الثورة، فهو من ابرز من أحس بها في عام 1338 في مكة، وإن لم تسمح له ظروفه وجرأته المحدودة بالمضي والاستمرار، والدعوة الحارة، وتوسيع أفقها في هذه البيئة.
ويسرنا أن نحيي ذكراه في آخر سطور هذه المقدمة بكلمة قالها ((فولتير)) الذي كان الشاعر معجباً به، وكان يشبه به صاحب هذا القلم في ثلاثة أمور:
1 ـ الوعي الشعري في سن مبكرة.
2 ـ الصراحة والجرأة وحرية الفكر.
3 ـ مهاجمة المنحرفين عن جوهر الدين إلى قشوره.
قال ((فولتير)) في الفصل الخامس من الجزء الثاني من كتابه الفلسفي ((كنديد)) أو التفاؤل:
توحي الفلسفة إلينا أن نحب أمثالنا.
وكذلك أحببنا عمر عرب، وأحبنا عمر عرب.
وأفضل من تحية فولتير هدف أن ندعو محبي حرية الفكر، ومحبي الشاعر إلى الاستمتاع طويلاً بقراءة هذا الكتاب.
جدة 14 شوال 1379
10 إبريل 1960
محمد حسن عواد
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1420  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 37
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج