شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المهمَة الصَعْبَة (1)
تحية من عند الله مباركة طيبة. ألقاها على عباده المؤمنين وأوصاهم أن يفشوها، إفشاء للسلام وإعلاء لكلمته ورفعاً لشعاره، وتعبيراً عن امتلاء أفئدتهم منه، وجَمْعاً لقلوبهم عليه، وتطهيراً لألسنتهم به، وإشاعة الطمأنينة والأمان فيهم، وتعريفاً بقدر الكلمة الطيبة تنداح بين الأرض والسماء، فتلهم العمل الصالح وترفعه. وفي ذلك سر الرحمة والبركة، أهليّة للاستحقاق وأهليّة للإنفاق، وعطاء تتدفق به خزائن الله في السماء والأرض وتتدفق به نفوسهم، رحماء بينهم تتواصل جوارحهم وتتصل جوانحهم. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد، فإذا نظرنا إلى الحقيقة في صميم جوهرها وكريم معانيها وما ينبغي لها أن تكون عليه، مع الاحترام كله والتقدير لما هو كائن عملاً وأشخاصاً، فإنه لشرف عظيم للإنسان أن يعطي الكلمة يقولها من فوق منبر رابطة للعالم الإسلامي ترتكز دعائمه على أرض أم القرى.
وإن الأرض كلها لله، خلقه وصنعه، فلا أفضلية للتراب ولكن التراب يتفاضل بما ينسكب عليه من المعاني، والله الذي خلق الإنسان من تراب يعلم "بسر الصنعة"، حنينه إلى التراب، بل لقد أودع فيه من "جاذبية الأرض" ما يتداعى له بالطبع مهما تشامخ أنفه في الهواء.. وبسر الحياة الكامن في التراب تتلاقى المخلوقات، حيواناً ونباتاً وجماداً بما يعمر هذا الكوكب.
ولذا فإن المخلوقات من غير التراب لا تتراءى بطبيعة الفطرة لأهل التراب، ولكنها قد تتراءى حين تتحول إلى نسيج منه، ولسنا هنا في مجال كيف؟ وبماذا؟.. لذلك أراد الله للمعاني التي حددها للإنسان طريقاً إلى الخير أن تتجسد فاتخذ للناس رسلاً من أنفسهم يرشدونهم إليها، ويعيشون صورتها فيهم. لأن المثل يعطي المعاني روعتها وصلاحيتها للتنفيذ ثم يتوارثها خلفاء من الناس يكررون الصورة على نحو أو آخر متتالين أو متناوبين. وجعل للناس مساجد يجتمعون فيها على هذه المعاني، وتتحد بها قدراتهم المادية والروحية. وشرع لهم من العبادات ما تأتلف به أفئدتهم جماعات ووحداناً. وسن من النظم ما يحمي هذه المعاني أن تتفسخ أو تتبلد.
وأقام لهم من قبل ومن بعد بيتاً تسكنه هذه المعاني وتشع منه، وأطلع إليهم من ركن فيه رمزاً ليمين تمتد، تراها قلوبهم ويتخيلونها بأعينهم يبايعون الله عندها ويقبلون بفم الحب معاني البيت. حالة للعشق يعلمها الله في طبائعهم فأراد أن يتجسد بها العشق الإلهي في إيمانهم. فإذا صحت القيادات في الأرض التمست عند هذا البيت ري السماء، وإن خلت الأرض من القيادات كان رمز القيادة وَعَلَم التوحيد كما كان يوماً في الجاهلية. وهو للناس كافة مجمع القلوب ومجتمع الأجساد ومهبط الرحمات. وقام البيت على هذه الأرض حرماً آمناً حمى للرمز وتكريماً للعَلَم حرِّم القتال فيه، وتوعد من يرد فيه بإلحاد بظلم، بعذاب أليم، وألزم الناس بلزوم ما لا يلزم زهداً في الحلال قرباناً للاستئذان عليه، وتخير لزيارته من شهور العام أشهراً معلومات، لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال. فكرم به المكان والزمان والإنسان تخليصاً للنفوس من الشوائب وتجريداً تتهيأ به للاستقبال والتلقي، وتشريفاً لهذه المعاني، وتقديساً لربها وتسليماً.
فإذا صدرت الدعوة إلى هذه المعاني من عند البيت المحرم وعلى أرض الحرم طاب شذاها بشذى البيت العتيق فتطامنت لها الأرض كل الأرض، فغمرت سهلاً وأخصبت نجداً ونخ لها بساط الريح فسرت شرقاً وغرباً، وصعدت إلى الشمال وتغلغلت في الجنوب وتفتحت القلوب تستقبل نفحات القبلة وتستلهم معاني الكعبة، لا تَند أرض، ولا تتطاول عنق ولا تغلق دونها منافذ الصدور والعيون. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً (البقرة: 26) إننا لنستشعر أهمية الموقع الذي نقف عليه لا استعلاء في الأرض ولا غروراً، وإنما لنقدر بكل الاهتمام والإدراك والعمق قسطنا من المسئولية، التي إن وجبت على كل المسلمين وجبت علينا ضعفين، بما نشاركهم فيه من العقيدة، وبما جعل الله بيننا لهذه العقيدة من كيان وما تفضل به علينا من جيرة بيته وسكن حرمه ووفادة ضيوفه وسدانة شعائره وما جعل في العرب من رسالة. فإذا كان القرآن والنبوة حجة الله على العالمين فإنهما على العرب حجتان: حجة تشملهم وغيرهم بما منح من هبة العقل، وحجة عليهم من لغتهم وأنفسهم. ولقد تختلف المسئولية باختلاف الهبة المسبغة، وتتوحد معايير المثوبة بمقدار حجم العمل أهمية ونتيجة. نظرية أوجدها بما حَمَّل العرب من رسالة هذا الدين وفاضل بين المسلمين بالتقوى. فلا أقول كما قال بعض الأخيار من أسلافنا فضل العرب على سائر الشعوب ولكن أقول مسئولية العرب عن سائر الشعوب وكرامتهم بهذه المسئولية حين يؤدونها تصديقاً لقوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً (الرعد: 13).
فمسئولية المثقف نحو مجتمعه، ومسئولية الفرد العادي، هل تستويان مثلاً؟ بل إنها تتفاوت أيضاً بتفاوت القدرات في القسم الأول. أما المثوبة فعلى مقدار ما يؤدي كل إلى هذا المجتمع. أي أن المفاضلة بين الناس تقوم على نسبة ما يعطون لا على نسبة ما يأخذون. على هذا النحو فهم أسلافنا العرب المسلمون رسالتهم. وفهم كافة المسلمين عنهم يومئذ هذا الشعور بالمسئولية فيهم. فلم ينافسوهم عليه وإنما تنافس الأكابر منهم فيه مع العرب.. وبالرغم مما فينا وفي العرب كافة من بُعْدٍ اليوم عن هذا الفهم وتصديقه تفكيراً والتزاماً.. فلا أجلّ ولا أكرم ولا أحب إلى المسلمين في كل مكان وزمان من هذه الدعوة تنطلق بين رحاب البيت العتيق. يبذلون لها نفوسهم وينسون عندها عنعناتهم. ويهبون لها كل إمكاناتهم حتى ليجدوا فيها كرامتهم وحقيقة قيمتهم وقيمة تاريخهم ومُثُلَ حياتهم. فإذا الأوطان تلتئم في الوطن الأم وإذا البيوت تتلاحم من حول البيت العتيق العمير، وإذا القوميات تستحم في زمزم، تغتسل من عصبياتها فتنبعث خلقاً جديداً، فيه قوة الذاتية وسر الاتحاد وبذرة العالمية.
وإذا كان الزمان كل الزمان – صالحاً لهذه الدعوة وظرفاً لها فإننا نعيش الآن من الزمان في أزمة تستلزم هذه الدعوة وتستوجبها بالقدر الذي تستجيب لها وتستلهمها. زمان: يعيش فيه المسلمون بين عشوة السحر وطلعة الفجر، بَعُد فيه البَوْنُ بين حياتهم ومعانيهم، وبين حاضرهم وماضيهم. وأصيب فكر الإنسان المسلم بالإنفصال، إما إلى الماضي انقطاعاً عن الحاضر إن لم يكن تبلداً أو تشويهاً وإما إلى الحاضر انقطاعاً عن الماضي إن لم يكن قطيعة.
ولكن العبء ثقل على كواهلهم، والظلم أثخن جراحهم، والاستعمار والصهيونية يجثمان على صدورهم في صورة احتلال أو صورة اختلال، فإذا بصحوة تفتح عيونهم وتوقظ مشاعرهم، فهم يتلمسون القوة وينتظرون الفرج.
وهناك أجزاء من العالم تعيش حياة الموت وموت الحياة. لم تنعم براحة الأمل المستقرة ولا راحة اليأس القانط، ولا ترى الغد المشرق وإن رأت اليوم العبوس، فهي تتطلع إلى راحة تستقبل بها الموت في رضى الشهداء، والحياة في طمأنينة الزاهدين. وضعف الإنسان عن ممارسة القوة الذاتية فاستطاع أن يستعيضها في مادياته. ركب الطائرة والسيارة بدلاً من الخيل والأقدام، واستعمل الصاروخ والقنابل بدلاً من السيف والرمح، واستعان بالمكبر والمذياع على ضعف الحنجرة، وتمتع بالصنعة عن جمال الطبيعة، واستبدل وسائل الترف بعزم الشظف ووسائل الاتصال بقدرة الاحتمال، ووسائل الطب بقوة الجسد، حتى النظارة والعين، والسماعة والأذن، والأطراف والجوارح والكلى والقلوب محاولة أخيرة، وربما الرؤوس مستقبلاً...
كل هذا جميل ولست من خصومه، بل أحد المستفيدين به والحامدين لكثيره، وإن كانت مصائب الإنسان تبدأ دائماً منذ يعيش بعين غير عين الفطرة، أو أذن غير أذن الفطرة أو قلب غير قلب الفطرة أو رأس غير رأس الفطرة، وقد حاول الإنسان أن يستبدل لنفسه كل ذلك قبل أن يعينه الطب. فإذا تضافرت صناعة الآلة مع صناعة الإنسان على التبديل في الإنسان فنسأل الله السلامة.
ولكن الإنسان لم يستطع أن يستعيض قوته الذاتية في المعنويات فطفرت فلسفة الضعف فيه تطارد فلسفة القوة، فتلد فلسفة الفوضى، لتطارد فلسفة التقنين وتلد فلسفة الواقع، لتطارد فلسفة الحق وتلد فلسفة الانطلاق لتطارد فلسفة المسئولية. فإذا اللغة تهريج، والفن بلا التزام، والعلم تجارة والأخلاق نفاق والدين رياء والتعامل أنانية والسياسة خديعة والحياة حيرة أو بهيمية. وليس كل هذا فساداً في الطبع، بقدر ما هو في داخل الأنفس وخارجها ضياع، يحتاج إلى الوجود الصحيح، وفراغ لا بد له من امتلاء. وتمذهب الضياع، والتقى الضعف بالفراغ فانبثقت من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية مذاهب داعبت القلوب المرضى والأفكار الحيرى، فإذا هي نظريات كالخيال وصور من الحياة كالعدم، وعدم ليس له من مقومات الحياة إلا حيوانيتها. ويتضخم الضياع في عقول متضخمة، فتنقلب المفاهيم في رؤى المسائل رأساً على عقب، وتهدر حصيلة الإنسان على مدى تاريخه الطويل في الوحل، ويُحَطِّم بثورة إقدامه حضارة فكره فإذا الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة. وتلك أعمق دَرْك البركان الذي يمزق بشظى تفجره تراث الإنسان وهذه حكمة تفريق التشريع بين تارك الفريضة كسلاً وتاركها جحوداً لها، وبين فاعل المعصية معترفاً بذنبه وفاعلها محلاً لها الأول يزاول الرذيلة ممارسة لبشريته، والثاني يهدم إنسانيته. والأول يعمل الخطيئة، والثاني يشيعها. والأول مؤمن بالقيم الصحيحة للمجتمع، والثاني حرب عليها. فالأول يرجى له حسن المآب ويرجى منه حسن التصرف العام، ما ظلت مفاهيمه عن الخير والشر صحيحة وإن انحرف سلوكاً، وذلك ما كان يختم رذالة الماضي بحسن الختام. لصلته بالله في نفسه أو جمعه بينها وبين بشريته من الذين وصفهم الله بقوله: خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ (التوبة: 102)، أما الثاني فإذا لم يبق في مفاهيمه إلا سلوكه المنحرف، لم يبق منه إلا جسده، ومن ثَمَّ مات فيه الإنسان. إن الجسد إذ اتسخ يمكن أن يتطهر، ولكن الروح إذا خرجت من الجسد فلن تعود إلا يوم الحساب، إلا ما شاء الله خرقاً للعادة وحجة للبعث.
وستظل البشرية بخير ما دامت موازينها -أي مفاهيمها- سليمة، وإن اختلت منها التصرفات لأنها مرد الحساب في النهاية. ومن ثَمَّ فهي مأرز الإنسانية من الاضمحلال. فإن اختلت الموازين فلا حساب ولا تاريخ ولا إنسانية. إن الإنسان لم يفضل الحيوان إلا بتاريخه، تاريخ منجزاته الفكرية، حتى المنجزات العلمية التي يفاخر بها العلمانيون على حق، لم تشرف أصحابها باعتبارها منجزات مادية، ولكن بمقدار خدمتها للإِنسانية سلماً وحرباً. إن الطائرة في الجو والباخرة وأنواعها في البحر، والسيارة ومشتقاتها في الأرض، والدبابة وأخواتها في الحرب، والكهرباء ومولداتها وبناتها في الحياة، لو وضعت في متحف لما شعرت البشرية لها بقيمة ولا للذين اخترعوها.
وموجودات المتحف، إنما تكمن قيمتها في الدور الذي أدَّتْه في حلقات من هذا التاريخ ولو ظلت عملية الرحلات إلى القمر استعراضاً لعضلات القوى المادية لضحك منها الناس وملها المستعرضون. ولكن الرجاء فيما يمكن أن تَؤَدِّيَه نتائجُها للإنسان -كما يعتقدون- هو معيار قيمتها.
هذا هو الإِنسان يشرفه تاريخ منجزاته الفكرية، وتهوي به نظرية دارون أمام الأسد والنمر والحصان.. وقد سُمِّيت نظرية وهي لم تستكمل أسبابها العلمية باعتراف صاحبها ولكنهم أرادوا بها أن يحطموا الإِنسان وأن يهدروا كرامته التي كرمه بها الله فنفخ فيه من روح وجعله خليفة في الأرض لأنه بهذا الشعور تختلف مسئوليته وتصرفاته واستقباله للأشياء والآراء وبالشعور المادي الذي يضفونه عليه تسهل عليهم حين ينسى قدر ذاته مهمة توجيههم إياه وإرسالهم إليه وإذا كانت نظريتهم لم تستكمل باعترافهم مؤهلاتها العلمية فإننا نستطيع بإيماننا وسندنا من القرآن أن نرد القرد إلى مسخه من الإِنسان مستمدين من نظرياتهم التي لم تكتمل السند المادي لما كمل عندنا سنده الروحي، كل هذه القوة المادية التي بلغها البشر، وهذا الضعف المعنوي الذي تردى فيه، لأن القوة المادية تنمو بنمو متطلبات الحياة، وهي في تمادٍ دائم يتبع نمو الحيوان في الإِنسان.
أما القوة المعنوية فتنمو بنمو الهدف. وذلك ما تلاشى في النفوس أو كاد حين فقد الدين سلطانه وتأثيره كوازع ودافع بالعقيدة، لأنه افتقر إلى القدوة الحسنة والقلب السليم والعقل السليم. وفقد الحكم سلطانه وتأثيره كرادع بالهيبة ودافع بالتقدير لأنه افتقر إلى كل ذلك. وفقد القانون سلطانه وتأثيره كوازع بالفعل ورادع بالقوة، لأن المذاهب الاجتماعية والاقتصادية قد افتقرت هي الأخرى إلى القدوة الحسنة وروح العدل وحماية الحق. فإذا الناس يدارون سلطان الدين بالرياء، ويدارون سلطان الحكم بالنفاق، ويدارون سلطان القانون بالزندقة. أما القوة وحدها فإن سيطرت على الأجساد فلن تسيطر على الأرواح. وهذا الذي نقوله ليس حديث اليوم ولا حديث البارحة، ولكنه حديث تاريخ طويل من عمر الإِنسان. منذ انفصلت الحياة عن الدين، جهراً من أقوام وسراً عند آخرين، وواقعاً في حياة الجميع. وحين يتحدث الباحث مثل هذا الحديث فإنه يصدر حكمه بنسبة الأغلبية في الزمان والمكان والمجتمعات والأفراد، ولا قياس فيه بالأقلية من ذلك كله. أما الإنصاف للأقلية والتفسيل في الأكثرية فمكانه التاريخ.
ولكن كان وما يزال، من حسن حظ البشرية جميعاً، أنها بالرغم من انفصالها عن الدين واقعاً وتنفيذاً وسلوكاً وعقيدة، فإنها ظلت تتدرج تشريعاً وتنظيماً في كل أنحاء الأرض بحكم العقل اجتهاداً أو اتفاقاً، نحو الكثير من مبادئه العملية حتى وصلت في بعضها إلى حد الالتقاء به نظرياً. وتخلفت في البعض ليس تخلفاً ناجماً من قصور العقل بقدر ما نجم عن سلطان الهوى في المجتمع والإِدارة وهذه صورة رائعة لتقبل المجتمع العالمي كأغلبية لمعاني الإسلام منهجاً للحياة حين يتحقق له أن يلد المثل الصحيح لها.
ذلك أن الله منذ خلق الإِنسان ألهمه النجدين فهو مهما عمل ومهما فلسف يتيقن الخير والشر ولا يجهل في دخيلة نفسه أحدهما وأودع فيه إحساسه بالقوة المدبرة للكون مهما اختلف في تسميتها ثم واتاه بالرسالات ليعرفه عليها وليؤكد له البعث والحساب والجنة والنار ليقنن بذلك أفعاله ومنحه من قبل العقل فكلما نماه كان أقدر على الاستجابة وإن خالفها بالعمل.
هذه هي الإيجابيات والسلبيات في حياة الإِنسان اليوم وأفكاره. ومن خلالها نراه في كل مكان، يقف على ربوة يجري فيها بين المشرق والمغرب كما جرت هاجر بين الصفا والمروة تتطلع إلى الرِّيِّ وتستشرف. وإذا كانت السماء قد أمدتها بطلبتها فهذا أوان مدد السماء أن يبدد حيرة الإنسان ويسبغ عليه طمأنينة وهداية ونوراً يسعى بين يديه. فلا أجدر ولا أجدى من هذا الظرف أواناً لهذه الدعوة تنطلق من هذه الرحاب.
بهذه التطلعات إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وبهذا الشعور من المسئولية، تلقيت التوجه الكريم الذي توجه به إليّ معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، حين أعطاني شرف الحديث وأعتقد أن كل إخواني الذين شاركوا والذين سيشاركون في هذا الشرف يحملون العبء نفسه. وبهذه التطلعات والمشاعر تلمست موضوع حديثي ووجدتني أمام سؤال كبير:
ما هو الدور الذي يمكن أن تؤديه هذه الرابطة إزاء كل الظروف وفي مجال الأحوال التي تحيط بالعالم كافة وبالمسلمين خاصة؟.
ووجدت الجواب لا يقتصر على رابطة العالم الإسلامي بمكة. ولكنه مجال عمل لكل الهيئات والأحزاب الإسلامية في العالم. بل هو مجال عمل لكل المشتغلين بالدراسات الإسلامية بل لكل العاملين في ميادين الثقافة والتعليم والتوعية والإِعلام. ومن ثم فهو مطروح للبحث علانية، وموضوع الدرس والمداولة يتخذ عنواناً غير التساؤل هو:
ما يحتاج إليه المسلمون:
وعلى قصور في العلم، وجهل بالعالم وبُعْدٍ عن مسرح الأحداث، وانطوائية في الطبع، أعالج الموضوع على قدر ما يتهيأ لي من معالم الرؤية فيه. وما أتبين على الطريق من صُوى لأضع محاولة من تصوري للمسألة وبذلك أسهم بجهد متواضع في الجواب على السؤال الكبير.
وأقدم السبب في اختياري الطبيعي لمعالجة هذا الموضوع فاتحة لما قد يكون من أحاديث.
إن الجواب الذي يقفز من كل لسان مسلم عما يحتاج إليه المسلمون اليوم وفي كل يوم هو: الاتحاد "جنة الدنيا"، التي يحلم بها المسلمون في كل مكان. وكلما نزلت بهم طامّة حاولوا أن يلملموا شملهم ويدخلوا هذه الجنة فإذا هم يقفون على عتباتها، لأن الشهادة التي يحملونها تجيز لهم الدخول، ولكنها لا تزيد بحال من أحوالهم عن درجة القبول، التي لا تعدو بهم أدنى درجات السلم، ولا تؤهلهم للمسئوليات العليا، فإذا بهم يجدون الجنة قد حُفَّت بالمكاره ويقفلون راجعين وعلى شفاههم ابتسامات لطاف يردون بها شماتة الشامتين ويرضون بها عيون المحبين، وبين جوانحهم حسرة مهما اختلفت نسبتها في نفوسهم، باختلاف درجات الصدق في النفوس، فهي حسرة. ولكننا بعد ذلك لا نناقش الأسباب العميقة وإن ناقشنا الأسباب الطافية على السطح، ومن ثَمَّ لا نكون قد عرفنا حقيقة الداء. وحتى حين نحاول له دواء فإنه سيكون نوعاً من المراهم الخارجية قد تعالج الأطراف والجلد والحساسيات، ولكنها لن تعالج الأمراض الباطنية المستعصية. وكلما تجددت الأحداث وجدنا الأمراض الباطنية تثور من جديد، كنوبات الكلى والمصارين الأعور منها والغلاظ – بمغص تتلوى له أمعاؤنا من الداخل وتدور به رؤوسنا من أعلى، فتنطلق الآهات. تلو الآهات. تلو الآهات إمّا أنّه العاجزين عن حمل المسئولية والصبر على تناول الدواء. وإمّا عذر العابثين بالمسئولية الذين لا يبحثون عن الدواء إلا في لحظات نوبات الألم، فقد يكون مسكناً ولا يكون شفاء. في تصوري أن المشكلة سهلة صعبة معاً صغيرة كبيرة معاً، بسيطة معقدة معاً. وأهم أخطاء الأطباء أنهم يتعجلون الشفاء في محاولات عاطفية تحت تأثير أنات المريض، ويحاولون أن يحقنوه بوسائل سريعة. إن الطبيب الحكيم من يتعمق في تشخيص الداء ويعالج مصادره في الباطن. والمريض العاقل يصبر على العلاج الطويل الأمد وما يكون فيه من جهد ومرارة. فأهم ما يعوق الجادين في وضع الحلول ومعالجة المشكلة أنهم يأتون إليها من عَلٍ، يتناولونها من جوانبها الظاهرة -ولكنها هي الكبيرة والصعبة والمعقدة- فإذا هي تكاد تستعصي على الحل لأنها مشدودة إلى الأعماق. ولو جاؤوها من أسفل وتناولوها من جوانبها الباطنية -ولكنها الصغيرة والسهلة والبسيطة- لَوُفِّقوا وَلَوْ بعد حين.
فالمسلمون يحاولون أن يعالجوا مشكلة اتحادهم على مستوى القمة ومستوى الدول ومستوى الحكومات ومستوى السياسة، وهم بذلك كالذي يحاول أن يبني البيت من أعلى طبقة في المخطط.
ولو حاولوا أن يبنوا البيت من القواعد على مستوى الأفراد ومستوى الشعوب ومستوى العقيدة ومستوى الثقافة، لأفلحوا ولوضعوا الأساس السليم للبناء، ولا ضَيْرَ عليهم بعد ذلك أن تقوم مع الزمن بقية الطبقات. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (البقرة: 127) ولعلها إشارة إلى أن امتداد البيت أكثر مما نراه وأن ما نراه ليس أكثر من القواعد أما الامتداد الحقيقي له فربما كان متصلاً بالبيت المعمور و أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ (البقرة: 125) فالقواعد مادية ومعنوية بناء وطهارة ثم هي تمتد بعد ذلك إلى البيت المعمور في السماء ففيها مبنى نراه ومعنى نحسه.
لا أريد بهذا أن أفصل بين القمة وبين الأفراد. ولا بين الدولة والحكومة وبين الشعب، ولا بين السياسة وبين العقيدة والثقافة، بل على العكس أريد أن يلتحم كل أولئك التحاماً طبيعياً بطريقة النمو لا بطريقة التلزيق.
من هو القمة في كل مكان؟..
مع الاحترام للذات والمقام: فرد من الأمة.
ما هي الحكومة؟..
مجموعة من أفراد الأمة.
ما هي الدولة؟..
هي كل الأجهزة التي تزخر بحشود من أفراد الأمة يعملون بها.
ما هي السياسة..؟
هي المزيج المركب في عقلية المجموعة من العقيدة والثقافة، فكما تكونوا يُوَلَّ عليكم. ليس بمعنى الخير ولا بمعنى الشر فحسب، وإنما بمعنى أن "الولاية" في كل درجاتها وتسلسلها: الوليد الطبيعي للأمة الأم في مجموعها. فهذا أصل من أصول علم الاجتماع ومنطلق من منطلقات النظام الجماعي في الإِسلام، وليس قُفْلاً من أقفال اليأس، كما فهم عامة المسلمين من أنفسهم ومن واقعهم، بل مفتاح من مفاتيح الرجاء في الأنفس والواقع.
هذا من الجانب الإِيجابي في المشكلة، جانبنا نحن المسلمين أصحاب القضية.
ومثله في الجانب الآخر جانب الخصوم وجانب الشهود. القمة والدولة والحكومة ومن ثَمَّ السياسة الوليد الطبيعي لأممهم كل في مجموعها. فالذين يطلبون من القمة والدولة والحكومة والسياسة، في العالم الإِسلامي اليوم، أن تحقق أحلامهم يغطَّون في نوم عميق. لا لأنهم يطالبون بغير الحق، ولكن لأنهم لا يتيقظون للمسؤولية وإنما يريدون أن تمطر عليهم السماء أمانيَّهم. يقفون موقف المتفرج لا يدركون العوائق ولا يشاركون في العبء، مثلهم مثل الأطفال الذين يظنون أن آباءهم الكبار على كل شيء مقتدرون.
والذين يطلبون من القمة والدولة والحكومة والسياسة في العالم الآخر أن تنتصر لهم وتؤيد حقوقهم وتُؤَمِّن مصالحهم يتمتعون بنعمة النسيان. لا لأن قضاياهم غير عادلة، ولا لأن حقوقهم غير صحيحة، ولا لأن مصالحهم غير مشروعة، ولكن لأنهم ينسون حقائق الأمور وطبائع الأحوال وجاريات الحوادث، وتسلسل التاريخ، مثلهم مثل العجائز اللواتي طالت عليهن السنون فلا يدركن الواقع ولا يحفظن التواريخ وإنما ترسب في مخيلاتهن ذكريات الصبا، فلا تفتر عنها ألسنتهم يتبسطن بها وينبسطن. ولقد يصحو الغارقون في المنام ويتذكر الناعمون بالنسيان بخفقة قلب أو طرقة يد، فيهتف هؤلاء ويصرخ هؤلاء ويصيح هؤلاء ويطالب هؤلاء ويتظاهر هؤلاء ويضرب هؤلاء، وتمشي الجموع وتمتلئ الميادين وتحتشد القاعات وتنعقد الاجتماعات، وتنفعل القمة والدولة والحكومة والسياسة في الداخل مع نداء جماهيرها، وتتحرك القمة والدولة والحكومة والسياسة في الخارج بطبيعة ظروفها، ويصطدم الداخل بالخارج، والواقع بالمطالب، والجمهور بالمسئولية. وتتعارك السحب المتجمعة من فوق بالغبار المتصاعد من تحت، وتتساقط الحلول رذاذاً يجمع كل طرف منه ما يَؤَمِّن السلامة للداخل، والمصلحة للخارج، والكرامة للمشاعر.
وتنتهي الرواية وينطوي النهار ويعود الليل، فيسيطر النوم على أجفان الغاضبين، ويسكن النسيان قلوب الغافلين، ويتحكم الواقع في القمة والدولة والحكومة والسياسة ولها.
وهكذا يرسل كلا الفريقين مطالبه على الموجات القصيرة، تقفز قفزاً في مستوى الهواء قد تبلغ بعيداً في وقت ولكنها لا تفترش أرضاً صلبة ممتدة. فما أحوجنا إلى أن نرسي محطات نرسل منها مطالبنا على الموجات الطويلة تمشي هوناً على وجه الأرض وفي خط مستقيم، على مستوى القاعدة من الأفراد والشعوب والعقيدة والثقافة. من هذه المحطات ننطلق في الاتجاهين: اتجاه الداخل الذي نبني منه الكيان العظيم الكامل المتكامل، واتجاه الخارج الذي نحاول أن نحيله إلى حكم محايد أو شاهد عدل أو خصم معتدل.
بذلك ندخل جنة الدنيا التي يحلم بها المسلمون، لا ندخلها هرباً من واقع فجأ حياتنا الدنيا كما نفعل الآن في بعض الظروف ثم لا نلبث أن نرتد إلى الأرض قبل أن نمضي فيها يوماً أو بعض يوم.. بل ندخلها لنعيش فيها حياة الأبد، تمتد بنا من جنة الدنيا إلى جنة الآخرة، هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأعراف: 32).
ولكن ... كيف؟.
إن الذين يتزاحمون على جنة الدنيا أكثر من المتزاحمين على جنة الآخرة. وإن الخلق كلهم عيال الله، هم جميعاً عالة عليه وعمال في هذا الكون لديه. وقد منحهم الحياة فأوجبت عدالته أن يمنحهم حق الحياة. وحق الحياة أن لا يحرم عاملاً ثمرة جهده في مجال عمله. مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (هود: 15) ومن ثَمَّ كانت جنة الدنيا مشاعة بين الناس بقدر ما يريدون منها وبقدر أعمالهم فيها.
هذه هي نظرية (تساوي الفرص) التي يتشدق بها المتشدقون يحسبون أنها من نتاج عقولهم وابتكاراتها. ولم يفرضها الله على الناس فيما بينهم فحسب بل أعطاها قوة تشريع أكبر حين فرضها على نفسه. وليس كذلك فحسب بل أعطاها للمؤمنين به وللكافرين على سواء. أين هذا من الذين يريدونها لأنفسهم ولا يعطونها لغيرهم بل يريدونها لهم ولأوليائهم ولا يسمحون بها لمعارضيهم في أوطانهم؟.
وأحب أن أؤكد أنني حين ألفت الكلام مثل هذه اللفتات، لا أعني بلداً ولا أمسُّ جهة، فقد شاعت الأفكار بكل أنواعها حتى أصبحت لغات عالمية. وفي الوقت نفسه فهذا ليس نقداً للنظريات ونحن نقررها بالقرآن، وإنما مطالبة للنظريات بالتطبيق الصحيح لأنه ميزان عدالتها. ولكن من مصائبنا نحن المسلمين اليوم أنه ما تكلم متكلم إلا قلنا ماذا أراد بهذا مثلاً.. ؟ وليس هذا من أخلاق الإِسلام وإنما ذلك مما نقمه على غير أهله. يريد لنا أن نُجَرِّد أنفسنا من أغراضها، وأفكارنا من أهوائها، ونتجه دائماً لنقاش المسائل نقاش الذين يريدون أن يهديهم الله إلى الحق فيما اختلفوا فيه، ولا يتبعون أهواءهم ولا يبتغون الفتنة التي يثيرها التساؤل عن النيات حين يُقَلِّبُون عليه الأمور، بل يريدون أن يجمع الله بينهم ثم يفتح بالحق. ولو علم أهل كل بلد في العالم بما في بلادهم من الأخطاء مما ينبغي أن يشغلها ويشغلهم كل الوقت وكل التفكير، لشغلهم ذلك عن تلمس عورات الآخرين. إننا حين نناقش الأفكار والمسائل، موضوعات مجردة عن البلاد التي قد تسكنها، وعن أشخاص الدعاة إليها من عدو أو صديق. بل ربما نناقشها وجوداً بيننا، ندخل إليها بقلوب صافية وألسنة صادقة، نستطيع أن نتبين بها وجه الحق. إن وجه الحق يعرف القلوب المكدَّرة فلا يدخلها، والألسنة المغرضة فلا يتجلى عليها، مهما أوتيت تلك من علم وملكت هذه من قدرة الصنعة.
إن القلوب الصافية هي التي تستطيع أن تتلقى الحق وتشع به. والألسنة الطاهرة هي التي تستطيع أن تلعق حلاوته وتلقمها الآخرين. ولنعد إلى الجنة إن شاء الله. إذا كان لجنة الآخرة ثمانية أبواب، فإن لجنة الدنيا مثلها. ولهذه الأبواب وتلك مفاتيح ثمانية هي مفاتيح الدنيا والآخرة لأن مُقَوِّمات النجاح سُنَّة واحدة. وهذه المفاتيح هي الإيمان، العلم، الخِبْرة، السلوك، المعاملة، التخطيط، العمل، الصبر.
وبعد:
فعلى رسلكم لا تتعجلوا فتظنوا أني سألبس عباءة الوعاظ، ولست في مقامهم أتحدث عن أخلاقية هذه المعاني، ولكني سأثبت العقال فوق رأسي لألتزم سمت رجال الأعمال أوضح أمامكم خطة عمل. إن كل خطة عمل للدنيا أو للآخرة لا تكون إلا على هذه الأسس.
(1) الإيمان، وسموه العقيدة أو الفكرة أو الغاية أو ما شئتم من الأسماء ترفعونها ببعضها ليعطي معنى روحياً، أو تخفضونه لِيُفَسَّر تصرفاً مادياً.
(2) العلم، وسموه الفقه أو المعرفة أو الثقافة أو ما شئتم من الأسماء ترفعونه ببعضها ليعطي معنى روحياً، أو تخفضونه ببعضها ليكون دلالة على حصيلة غير ذلك.
(3) الخبرة، وسموها الممارسة أو الدراسة العلمية أو الأقدمية، فهي كل ذلك.
(4) السلوك، وسموه الأخلاق أو الشخصية أو الأسلوب وهو كل ذلك.
(5) المعاملة، وسموها النظام أو الإدارة أو الوسيلة.
وهي كل ذلك.
(6) التخطيط، وسموه السنة أو المنهج أو الموازنة.
وهو كل ذلك.
(7) العمل، وسموه الجهد أو البذل أو الإعلان.
وهو كل ذلك.
(8) الصبر، وسموه الدأب أو الاحتمال أو الحلم.
وهو كل ذلك.
سموا هذه المعاني ما شئتم من الأسماء، تصدرون في هذه التسميات وتلك عن إحساساتكم بمادية الحالة أو معنوياتها، بدنيويتها أو دينيتها، بجسديتها أو روحانيتها. أو تحددون بها جزءاً من كل. فإن كل مجموعة من الأسماء ما ذكرت منها على كل خط وما لم أذكر سترتد إلى معنى واحد من هؤلاء الثمانية، وكل أسماء الأفعال والأفكار والنيات بما يتعلق بالدنيا أو الآخرة لن تخرج عن معاني هذه الأسماء الثمانية فإذا أردنا أن ندخل "جنة الدنيا" جماعات مسلمة لَبِنَاتٍ في الاتحاد، ثم جماعة مسلمة في اتحاد، وجب علينا أن نعبئ أنفسنا بما نملك به هذه المفاتيح:
أولاً: الإيمان بحقنا فيه ليس فقط باعتباره حق الحياة كما هو لنا ولغيرنا، بل إننا مدعوون إليها، بل للتحدي فيها، ليس امتيازاً للذات وإنما للعمل الأمثل قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ (الأنعام: 135).
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (هود: 121). ونحن، بعد، موعودون بها. لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ (النحل: 30).
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (النحل: 41).
ليس ذلك فحسب في حدود الضرورة ومقتضيات الحياة وإنما رفاهية فيها من زينة الله لا زينة الشيطان، ومن الطيبات لا من الخبائث.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأعراف: 32).
بل لقد أمدنا الله بسند كبير حيث قال:
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (فصلت: 31).
وذلك كان فهم الصفوة منا ودعوتهم رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً (البقرة: 201).
ولست أقول هذا لأن المسلمين كبشر ينتظرون من يفتي لهم بشرعية السعي في الدنيا فهذا ما يسعى إليه البشر بالفطرة لا ينتظرون فيه فتوى، وهو ما ردده علماء الدين -على غير هذا النحو- دون أن يَرِدَهم فيه سؤال، إنما أقول لأؤكد أحقيتنا فيه كجماعة ومسئوليتنا عنه كجماعة. لا كمن يسعى إلى ما يخصه من هذه الدنيا -كفرد- سعياً يعجز عنه الكفار، ثم يحاول أن يتخلى عن مسئوليته في الاشتراك بمثل هذا السعي للجماعة بترديد أكذوبة كبرى من سلسلة الحرب النفسية، التي أطلقها العدو بيننا من قديم فالتقفها العجز فينا ذريعة له وهي: "الدنيا لهم والآخرة لنا" وإلى مثل هؤلاء من قبل يتحدث الله فيرد اتهامهم بدحره في نحورهم فيقول قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ (الزمر: 10).
وأقوله أيضاً لأؤكد للذين يسعون للدنيا في معزل عن العقيدة أنها جزء من إسلامنا. ليس انتصاراً للذات كما هو طبيعة الصراع البشري بقدر ما هو انتصار للرسالة، وليكون قوة دفع لهذا السعي. وسُمّواً به دعماً للمجتمع المثالي للإنسان "المجتمع المسلم" ليكون في محل العزة وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: 8).
والإيمان بأنفسنا كشعوب. فالشعوب المسلمة اليوم هي الشعوب التي صنعت حضارة الفرس وحضارة الهند والدولة العلية العثمانية، وحضارة الفراعنة والبابليين والأشوريين والكلدانيين والفينيقيين والكنعانيين والساميين وعاد وثمود وقوم تُبَّع وقوم صالح، وحضارة الإسلام، فليس في طبيعة شعوبنا نقص يحول دون أن تأخذ بزمام الحضارة من جديد.
فإذا كانت عصامية أوروبا وأمريكا قد أهَّلتاهما لما تتبوآنه في دورة الزمان من مقعد عظيم في المجتمع البشري اليوم، فجدير بعصاميتنا أن تكون قوة دفع بنا إلى مقعد قديم في (مجتمع مثالي) لا أن تظل دعوى نتطاول بها على التاريخ، وقد تنازلنا عن حقوق الميراث، ولا سلوى لمركب النقص.
والإِيمان -أولاً وأخيراً- بعقيدتنا مَصْنَعَاً يُشَكِّلُ من مثالية المادة مثالية الإِنسان هدفاً لنا في ذات أنفسنا ورسالة نحققها للبشرية جمعاء. بهذا الفهم كله دون ريب، نتلقى مدد الله لنا بالإيمان بأنفسنا في قوله الكريم كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 110).
على أساسين من العقيدة والسلوك تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (آل عمران: 110) وهما إكسير هذه المفاتيح.
ثانياً: العلم: بكل فنونه وضروبه ونواحيه، مؤهلاً لهذا الحق، والتعريف به لا داع للكلام فيه، فلم تكن البشرية يوماً بحاجة إلى برهان حاجتِها إليه كاليوم، وقد أصبح حجة عليها لا تنفلت منه ولا تعيش بدونه. دعا إليه الدين والعقل ودعت إليه الحياة نفسها وإنه لمنتهى الجهل زيادة الإشارة إليه بأكثر من هذا القدر. إلا أن أقول إن الله تعالى احتج به على ملائكته في تكريم آدم بعد أن عَلّمه.
ثالثاً: الخبرة بوضع الإيمان والعلم موضع التطبيق لا بتحويل الإِيمان إلى فلسفات للرياضة الفكرية حتى يكون توحيد الله (علم الكلام)، ولا اتخاذ العلم ترفاً تحلى بأوراقه مكاتبنا ومكتباتنا ونتزايد به في مجالسنا، ولا تعطيلاً نجعل به دراستنا حبراً على ورق، ولا حلية نجمل بألقابها أسماءنا.
رابعاً: السلوك نتيجة حتمية في الذات (فرداً وجماعة وكياناً) لوضع الإِيمان والعلم والخبرة واقعاً نعيشه.
خامساً: المعاملة مظهر تلقائي لكل ذلك في علاقة الذات (فرداً وجماعة وكياناً) بغيرها من الذات فرداً وجماعة وكياناً. (والدين المعاملة).
سادساً: التخطيط منهجاً منبعه الإِيمان والعلم، ومجراه الخبرة والسلوك والمعاملة إلى مصبه في العمل، وهذا التخطيط هو الذي سماه الله سنة سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب: 62).
وسميت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله سنة لأنها التخطيط في الحياة لمبادئ الكتاب. وهذا التخطيط أيضاً هو الذي سمى الله سيئه مكراً إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا (الأعراف: 123). وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا (الأنعام: 123)، وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (يوسف: 102)، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (الأنفال: 30). قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ (النحل: 26) ولكن وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
سابعاً: العمل جماعٌ لكل ما سلف، استحقاقاً للحق من أنفسنا وحجة لنا على غيرنا وبراءة إلى الله نستأهل بها وعده فيما شرح من أحقية البقاء للأصلح، سنة في خلقه قبل أن تكون نظرية لمن خيل إليه أنه اكتشفها إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ (الأنعام: 135). وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ (النور: 55). وهكذا جعل البقاء للأصلح في كل شيء، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (الرعد: 17)، حتى في الكلمة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (إبراهيم 24 ـ 26). وتلتقي أحقية البقاء للأصلح بسنة تساوي الفرص كحق في الحياة للبناء في البداية، وكاستحقاق للفناء في النهاية وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود: 117). إلا إذا اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراًً (الإسراء: 16). حتى الجهاد ما شرعه الله إلا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بَيِّنة إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ (الأنفال: 42).
ثامناً: الصبر الذي أوصى به الله وذكره حميداً في ثمانية وثمانين موضعاً من كتابه العزيز، خلقاً للإيمان وطبيعة للعلم وامتداداً للخبرة وفلسفة للسلوك ومعنى للمعاملة وتنفيذاً للتخطيط ووقاية للعمل.
ولقد تتشابك المفاتيح وتختلف تنظيماً وتبويباً وتأخيراً ولكنها هي المفاتيح.. ولم أرد الدلالة بفقه الدين على سلامة هذه المفاتيح فإن الدليلة (2) ، لا تحتاج إلى دليل. والاستدلال على ما لا يحتاج إلى دليل مضيعة للوقت وسفاهة في الرأي. بل إن الحياة نفسها تقدم لنا دليل الخلف (3) . كل يوم. وحين أشرت إلى شيء من ذلك عند الحديث عن الإيمان والتخطيط والعمل، فإنما قصدت إلى لفتات ذهنية معينة.
وإن من تمام صنعة الله في الإِنسان أن أمده بالفطرة - بملكات أو غرائز هي المواد الخام لهذه المفاتيح.. فحب الحياة فيه والإيمان بقدرة عليا خفية يتجلى في المواقف الصعبة، هي المادة الخام لمفتاح الإيمان بالحياة وربها، وحب الاستطلاع والفضول هو مادة العلم، والحواس هي مادة الخبرة. والحب مادة المعاملة، وحب التفوق مادة السلوك. والعقل مادة التخطيط والحاجة إلى متطلبات الحياة مادة العمل. والخوف والشعور بقيمة الحياة وعظمة الكون هو مادة الصبر. ولم أرد بهذه الإِشارة أن أعمق البحث فيها فأخرج عن الموضوع، وإنما أردت مجرد الملاحظة التي لا تخفى للفت الذهن إليها، لأقول إن هذه المفاتيح ليست من صنع أحد ولكنها صنع الفطرة وكانت رسالات السماء هي (البوتقة) التي صهرت هذه الملكات والغرائز لتطويرها وتطور حياة الإِنسان. فمفاتيح الحياة ليست جديدة على الإنسان وإنما كامنة فيه. ولكن المهم في شأنها هو تنميتها وحسن استعمالها. وذلك ما جاءت الشرائع من أجله، وما حاوله الإِنسان في تاريخه الطويل وما يحاوله اليوم في كل مكان. وما أضافت إليه الشرائع لحسن استعمالها على الوجهين: الدنيا والآخرة.
بل إن الشهوة والعقل هما الطاقتان سالباً وموجباً اللتان تولدان في الإِنسان قدرته على صناعة هذه المفاتيح والشهوة ولست أعني بها الجانب الجنسي فهذا القدر فقط هو الفائض الذي تستغني عنه طاقة لتولد طاقة أخرى أما أصل الشهوة فهي الطاقة التي تُمَوِّن كل الغرائز في الإِنسان من ذاتية وملكية وتطور وتفوق ونمو وإنتاج وتأتي مهمة الطاقة المقابلة (العقل) لموازنة هذه الطاقة الشخصية بمصالح المجتمع والآخرين فالشهوة هي الطاقة الدافعة والعقل هو الطاقة المنظمة ولكن الناس قد قصروا الشهوة على جانب في النظر إلى المسألة مع أن في هذه الطاقة جانباً يجب أن يلتفت إليه النظر بعناية فكل طاقة مولدة للعمل من صنع البشر لها عادم ولكن كل طاقة مولدة للعمل من صنع الله لها إفراز يخلق طاقة جديدة ذلك في الإنسان وفي الحيوان وفي النبات.
ومع ذلك فليست هذه الأمور هي موضوع البحث وإنما المدخل إليه لأنها في ذاتها ليست مجال خلاف مهما اختلفت أشكالها والسؤال الآن: كيف نحول الصورة التي نريدها لأنفسنا إلى حقيقة نعيشها؟ أو كيف نستطيع أن نستعمل هذه المفاتيح؟ وبصيغة أخرى للسؤال: ما هي كلمة السر للمفاتيح (الثمانية)؟ التي تمثلناها لأبواب "جنة الدنيا" ولأبواب "جنة الآخرة".
في القرآن الكريم نجد كلمات السر للمفاتيح.
وفي هذه الزحمة الفكرية أود أن نعيش بعض الوقت في ظلال القرآن. أحب لو رجعنا إلى تاريخ الإِنسان منذ البدء، في البدء خلق الله الأرض وما عليها ثم قال للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (البقر: 30) لا ليكون ممثل الله في الأرض جل الله عن ذلك، ولكن ليكون القوّام على إدارة خلقه، هذا في حدود نواميس الطبيعة، والخلق كلهم -حيواناً ونباتاً وجماداً وغير ذلك- عباد الله فمن حق الخالق أن يَؤَمِّر على عباده من يشاء منهم. واقتضت حكمة الخالق أن يكون الإِنسان بما سَوّى فيه من مؤهلات بالنسبة إلى غيره ذلك الأمير، أمير من نوع آخر في هذا الخلق، وذلك ما جعل الملائكة يتساءلون في أدب قياساً على ما سلف أو بالنظر إلى طبيعة الحيوانات الأخرى أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة: 30) أم هي مجرد نبوءة لمعرفتهم طبيعة هذا المخلوق وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (الحجر: 28). فأعلم الله الملائكة مسبقاً بما سيفعله ورضي أن يسمح لهم بالسؤال والبحث. وفي ذلك تسلية لنبيه كما يقول العلامة القاسمي في تفسيره: تسلية عن تكذيب الناس ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثِّلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين. ولم يعتبر الله التساؤل وطلب البرهان مخالفاً للإِيمان ولا نافياً للولاء. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا (البقرة: 31) لست أدري حقيقة تلك الأسماء ولكن المؤكد أنها أسماء تتعلق بهذا الكون الأرضي الذي أراد لآدم الخلافة فيه ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة: 31 ـ 33) فاحتج بالعلم مؤهلاً للولاية ووضع الحجة والإِقناع ميزاناً للحق وكرَّم الله آدم وقال للملائكة أن يسجدوا له فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (الكهف:50) أبى واستكبر وكفر فلم يكن من الساجدين وهذا يعني أن الأمر بالسجود كان للجن أيضاً ولكن الله ذكر توجيه أمره للأعلى اكتفاء بذلك على أساس استعمال معنى التغليب المعروف لُغَةً قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ . قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (الأعراف: 12 ـ 13) فقرر الله بذلك مبدأ أن لا حكم دون محاكمة وهو الحكم المطلق عدلاً وقدرة، هذا من الناحية الإيجابية في حكمة المسألة. أما من الناحية السلبية فإن إبليس أراد الاستكبار بغير الحق فكانت عقوبته الصغار عقوبة من جنس العمل ومع ذلك قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (الأعراف: 14 ـ 15) فلم يمنعه الله مع ذلك من حق رأفته مع ضخامة الذنب قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ . قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (الأعراف: 16 ـ 18). فحكم الله على إبليس بالذنب الحاضر وهو الاستكبار على أمره بجزائه، وهو الخروج من دائرة التكريم التي كان يعيش فيها مع الملائكة ليعيش حياة الجن التي يستحقها. وهي حياة لها كل مقتضيات الحياة بما يتفق وطبيعة هذا الجنس من المخلوقات، وذلك لأن إبليس كان يعرف لله ربوبيته حيث يقول (خلقتني) ويعلم بالبعث حيث يقول (أنظرني إلى يوم يبعثون) ويعلم أن صراط الله هو الصراط المستقيم حيث يقول لله عزّ وَجَل (صراطك المستقيم) يعلم أن حق الله على عباده الشكر حيث يجعل مهمته (ولا تجد أكثرهم شاكرين) ولم يصدر عليه حكماً نافذاً في الحال بمقتضى النية والتهديد، بإرساله إلى جهنم فلذلك يومه الموعود وإنما أصدر عليه حكماً معلقاً بالفعل يستحق العقوبة عليه بعد الفعل. وحذر الله آدم منه فقال: يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ (طه: 117) ثم قال الله لآدم: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا، وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ . وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ؟ قَالاَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (الأعراف: 19 ـ 25). فآدم وحواء في ذلك على سواء فلا يظلمن الرجال حواء في ذلك فوضع الله إيمان آدم وعلمه موضع الخبرة فكان السلوك الذي قال عنه: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طه: 115) تجاه إغراء إبليس بأن يدله عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (طه: 120) فطلب الخلد والملك الذي لا يبلى مهلك البشرية منذ أبيها آدم. وكذلك الأمل فيما ليس من حق الإنسان (أن تكونا مَلَكيْن) وفي النهاية فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة: 37) وظلت عبرتها يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (الأعراف: 27). هذه القصة الرائعة التي تتكرر في أكثر من مكان من كتاب الله العزيز وبعبارات لا تكاد تتفاوت إلا قليلاً تأكيداً لما في الأذهان والتي تكاد تجمع عليها الكتب السماوية الأخرى من بقية ما حفظته بعد التحريف. نكاد جميعاً نمر عليها مروراً سريعاً لا نحاول أن نتفقه فيها وإنما نضعها في المغيبات التي نتقبلها بالتسليم اللافكري أو الإهمال الفكري، وهي من أعظم الصور التي ينبغي أن نقف عندها وقفة تأمل طويل وإمعان فقيه.
إن الله أراد لآدم أن يكون خليفة في الأرض. فأعده لذلك وزوده بالمفاتيح الثمانية لهذه الولاية. خلقه وقال عنه: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (ص: 75) ولم يقل مثلها لشيء من خلقه، ونفخ فيه من روحه ولم يقلها في غير عيسى من بعد لأن مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (آل عمران: 59) وكرمه بسجود الملائكة له فأمده بكل معاني الإيمان بالله ثم بنفسه ثم بأرض خلافته. وعلمه من شئون هذه الأرض ما احتج به على ملائكته مؤهلاً للولاية. ثم وضع إيمانه وعلمه موضع الخبرة مع إبليس الذي سماه له عدواً ثم احتج عليه بسلوكه حين نهج وخط له أن يسكن الجنة هو وزوجته ويأكلا منها حيث شاءا ولا يقربا تلك الشجرة وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (طه: 121) عن المنهج المخطط له وضعف عزمه عملاً وصبراً، عملاً بالأمر وصبراً عن النهي. وفي خلال ذلك كله أرشده إلى أحسن المعاملة بما كان من الله مع ملائكته ومع إبليس ومع آدم نفسه، وإلى سيء المعاملة بما كان من إبليس معه. وألهمه على مشهد من فعل الله تبارك وتعالى - عنصري المعاملة لأنهما مظهر الولاية وسلطانها وهما: الدولة في الرأي والحكومة في التنفيذ... وأهم من كل ذلك، لماذا أسكنه الجنة ثم أخرجه منها، وهو من أراده خليفة في الأرض منذ خلقه؟ تلك أبرز نقطة في قصة البشرية، قصة آدم. إنها قصة تكوين الهدف، لقد أراد الله الجنة لآدم هدفاً في الأرض يحاول أن يصنعها على ما يتيسر له من نحو صورة تلك الجنة، وهدفاً له بعد الأرض يحلم بالعودة إليها. تلك كانت تربية الله للإِنسان الأول. وظل الله يكرر للإنسانية معانيها وتصويرها بتكرار الأنبياء والرسل إليهم على ألسنتهم، وفي الكتب المنزلة معهم، كلما بعد عهد البشرية بها فنسوها، وكلما ظلموا أنفسهم فضلوا عنها. وهكذا جاءت الأديان كلها تصور هذا الهدف مثالاً للإنسانية في هذه الأرض. وتصور هذا "الهدف" مثالاً للإِنسانية بعد هذه الأرض في "اليوم الآخر". وتعيد على البشرية حكاية الإِنسان الأول مثالاً تطبيقياً. وكان الإيمان باليوم الآخر، لأنه التأكيد الدائم للهدف والتجسيد له، شرط الأديان جميعاً. ورسمت الأديان كلها صورة الجنة وصورة النار، صورة للمثوبة وصورة للعقاب. لأن الإِيمان بالربوبية فطري ومادي والإِيمان بالألوهية عقلي ولكن الإِيمان باليوم الآخر إيمان عملي يدفع صاحبه إلى حسن العمل رجاء التوبة ويمنع عن سيء العمل خوف العقوبة ولولاه لما أحجم عن شر ولذلك فإن الإيمان بالله والإِيمان باليوم الآخر دائماً يَصِلانه بالخير في الدنيا عملاً ونوالاً ويبلغان به إلى نوال خير الآخرة ويبدو أن البشرية فيما قبل المسيح عليه السلام قد تردت إلى هاوية بعدت بها عن قصة آدم ومعانيها. فأراد الله أن يهزها هزة عنيفة تعيد إليها صورة "حية" من قصة الإِنسان الأول، فكان ميلاد المسيح رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ (النساء: 171) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ (آل عمران: 46). وإذا لم تكن على تلك شهود من جنس الإِنسان فقد أشهدهم في هذه على أنفسهم. وجاء المسيح وعلى لسانه وفي الكتاب المنزل إليه صورة "الهدف"، صورة الجنة والنار، صورة المثوبة، والعقاب مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (المائدة: 48). وتقبلت الإِنسانية -كلها- نظرية المثوبة والعقاب مبدأ في الحياة الأولى كما هي مبدأ في الحياة الموعودة. مبدأ تقرر عليه القوانين والأنظمة وتتحدد به علاقة الإِنسان بالإِنسان. وتتطور النظرية في كل تصرفات الإِنسان المادية حتى تأخذ صورة "الشرط الجزائي" في العقود، فلا يكاد يعتبر أي عقد صحيحاً أو نافعاً للمقاضاة وضمان الحق إذا خلا منه، وتأخذ صورة المعاملة بالمثل "مادياً ومعنوياً" كل هذا مقرر مهما اختلفت جوانب النظرية إلى المثوبة والعقاب التي جاءت بها الأديان. وتقبلت الإِنسانية كلها هذه النظرية مصدراً لتصرفات الإِنسان مهما كان تصوره لها وتحريفه فيها. والنظر كذلك إلى أسلوب الله في تهيئة "الإِنسان المثال"، تهيئة تمكنه من أداء رسالته. ونتجاوز قصص الكثير منهم الواردة في القرآن وما بقي من الإِنجيل والتوراة، إلى قصة تعطينا المعنى الذي نريد استخلاصه من حياة أروع صورة من هذه الصور هي حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم... إن تَحَنُّثه في غار حراء وهو الذي لا يتلو كتاباً ولا يَخُطُّه بيمينه إنما كان سعياً وراء "هدف".. ويصف الله عبء هذا "الهدف" على نفس الرسول العظيم فيقول له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (الشرح: 1 ـ 3). ثم يصف الله طبيعة الرسول الهادفة وهو يَمُنُّ بها على المسلمين لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة: 128). وتتجلى قوة الهدف حين يقول الرسول العظيم وهو يبكي: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته والنفس العظيمة تشقى برحمتها للآخرين وإن لم تُظْلَمْ أو تُضَمْ.
وتتجلى صلابة الهدف وهو يقول صلى الله عليه وسلم: اللهم إليك أشكو ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم إن لم يكن بك سخط عَليّ فلا أبالي، وتتجلى سماحة الهادف المطمئن إلى هدفه رغم كل الألم في قوله الكريم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وترتبط قمة الإِنسانية ببدايتها وتكون قصة الإِسراء والمعراج التي ينظر إليها الناس كمعجزة ولا أراها كذلك، إن المعجزة هي الدلالة التي يحتج النبي بها على قومه بصورة تسقط الحجة في أيديهم، وما كان الإِسراء والمعراج كذلك إنما كان فتنة للناس لم يؤد مفعول المعجزة وإنما عكسها، ولم تكن حجة المؤمنين بها إلا التصديق به صلى الله عليه وسلم وهي حجة الصديق أبي بكر حين قيل له: أسمعت ما قال صاحبك اليوم؟ قال: ماذا؟ قيل له: إنه يقول كيت وكيت. قال: أهو قالها؟ إن كان قالها فقد صدق.
لم يكن في القصة المعجزة إلا حكاية العير التي كانت لقريش في طريق الشام ونحوها من وصف الأماكن مما يقوم معجزة على الإِسراء لا على المعراج والقول بأنها ليست معجزة ليس نكراناً لما له صلى الله عليه وسلم من معجزات أبسط في معناها ولكنها تؤدي مفعول الإعجاز للمناظرة.
إن "الإِسراء والمعراج" لم يكن معجزة ولكنه كان أكبر من معجزة كان عملية تثبيت "للهدف" في ذات الرسول العظيم وفي أحلك أيام رسالته، وكان عملية تثبيت "للهدف" في ضمير البشرية صلة بين بدايتها وقمتها. وكان نافذة للعقل البشري على عالم المجهول وما وراء الطبيعة.
ويتجلى الإِصرار على "الهدف" من هذه القصة في إصرار الرسول العظيم، وهو الحكيم العارف بالظروف من حوله، على روايتها للناس وهو يعلم أنها فتنة لهم لا تقوم مقام الإِعجاز في المجادلة، وينصح بعد الإِفضاءِ بها إلى الناس فيصر أنها الحقيقة التي ليس له منها إلا البلاغ. وهكذا لَقّن الرسول العظيم أصحابه "الهدف" الذي تجلى على لسان الصديق أبي بكر من بعده، وفي أسوأ الظروف حين قال: ما كنت لأحُلَّ لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين قال في مثلها: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، والأمثلة على ذلك من حياته صلى الله عليه وسلم وحياة الكثير من أصحابه فضلاً عن القلة أكثر من الحصر وأوسع من مجال الإِشارة، ولذلك كانت منزلة الشهداء حين وصفها الله أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران: 169) لأنهم يبذلون أغلى ما يبذله الإِنسان في سبيل "الهدف". إن الاستشهاد ليس تخلياً عن الحياة، فالتخلي عن الحياة لا يكون مواجهة للموت وإنما يكون غيلة يغتال الإِنسان فيها نفسه هرباً من الحياة في أرذل حالات الضعف، ذلك هو الانتحار بكل صوره، ولذلك كان في رأي الإِسلام كفراً لأنه يكون في لحظة يتخلى فيها الإِنسان عن إيمانه، ولكن الاستشهاد عملية بناء تصطدم بعملية مقابلة يتقدم إليها البطل ليدرأ العملية المقابلة ويحطمها أو يكون روحه فداء هذه المسيرة، فهي عملية اتجاه نحو "الهدف"، إن "الهدف" هو كلمة السر، إن الإِنسان الهادف في المجتمع الهادف هو الذي يملك القدرة على حسن استعمال المفاتيح الثمانية لأبواب الدنيا والآخرة فعلينا إذا أردنا أن نملك هذه المفاتيح بتربية الإِنسان الهادف الذي يتكون منه المجتمع الهادف. إن الإِنسان الهادف هو الذي يجعل لحياته معنى يجري وراءه.
وأحب أن أصحح فليس الهدف أي غرض يجري وراءه إنسان، إن كل حيوان يهيم على وجهه في الأرض له مثل هذا الغرض، فإذا كبر حجم الغرض "بنمو الحيوان" في الإِنسان فلا تُحَوِّلُه ضخامة حجمه إلى هدف، إن الهدف هو السير وراء معنى كريم، معنى ينمو بنمو الإِنسان في الإِنسان، وينمي الإِنسانية في كيانها العام، وبعبارة أكثر وضوحاً إن الهدف ليس فقط المعنى الكريم لأن المعنى الكريم الذي يراد بالنفس وللنفس ليس مشكلة الإِنسان، وليس هناك إنسان يريد لنفسه أو بنفسه غرضاً غير كريم، وعلى العكس فإنه حين يضع نفسه في الموقف غير الكريم فإنما يلبي بذلك غرضاً لغيره إذْ كانت هذه الاستجابة وسيلة لتحقيق غرض لنفسه. فهو في هذه الحال ينسى أمام قوة غرضه لنفسه فداحة العوض الذي يقدمه عنه، وحين يريد الإِنسان لنفسه غرضاً غير كريم فإنه لا يتصوره على هذا النحو، إن الإِنسان الخاطئ يجد اللذة أو يظنها غرضاً كريماً، لكنه بالتأكيد لا يريدها لنفسه شراً بها أو إضراراً بها، وهو حين يُحسُّ بالضرر لا يحسه إلا بعد انتهاء مفعول اللذة في النفس، وحين تنتهي الرغبة كحاكم وتصبح العادة هي السلطان، فيحكمه الشيء، ولا يحكم هو ذلك الشيء. إن الإِنسان –حتى كحيوان- لا يريد الشر بنفسه ولا الإِساءة إليها ولكنه حين يقع فيه نتيجة أي سوء فهم فإنما يكون موقفه كأي حيوان يقع في المصيدة أو الفخ، إما بعمل الصياد ومكره وإما لمحاولة الحصول على ما في الشباك من طعم. وبالرغم من أن هذه الحالات لها علاجات لسنا بصددها الآن فإن تربية (الهدف) في الإِنسان عامل أساسي في هذه العلاجات لأنها تهذب من رغباته التافهة وتفقد الصياد كثيراً من مهارته في التسلط عليه.
فما هو "الهدف" إذاً؟
هنا نجد لغتنا "الحية" ليس بالتداول فحسب، كما هو المقصود بإضافة هذا التعريف إلى اللغات اليوم، وإنما الحية بذاتها النابضة الحس والحياة، تجيب على السؤال:
الهدف: كل شيء مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل، ومنه سمي الغرض الذي يرمي إليه "هدفاً".
الهدف: الرجل العظيم، والهدف أيضاً من أسماء الأضداد: الثقيل النؤوم والوخيم الذي لا خير فيه، الهادفة والهدفة وجمع – الجميع هدف: الجماعة من الناس، واستهدف له الشيء: ارتفع وانتصب، ومنه قولهم: من أَلَّفَ فقد استهدف. ويقال استهدف وأهدف إليه: ألجأه. وبلا استرسال في هذه الشواهد اللغوية نستطيع أن ندرك أن "الهدف" هو مرمى الجماعة. فالرجل العظيم مرمى مديح الناس، والرجل الثقيل النؤوم الوخيم الذي لا خير فيه مرمى ذمهم، والمُرْتَفَع مرمى الأنظار واستهدف المؤلف: انتصب ليكون مرمى الأفكار، ومن ثم: فالهدف هو الشيء العظيم، والهدف في مطالب الإِنسان ما كان كذلك، فما هو أعظم شيء يسمو به الإِنسان مطلباً؟.
هو إرادته الغرض الكريم للآخرين، وأعلى درجات هذا الغرض الكريم أشمله لأكبر مجموعة، هذا هو الهدف، وذلك هو الإِنسان الصالح الذي استثناه من الخسران في قوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر: 1 ـ 3). ولذلك كانت الصورة المثالية للإِنسان المثالي الهادف وصفه الله بأعظم الأوصاف التي تصور علاقته بجماعته لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة: 128) ومن ثم ندرك أن تربية "الإِنسان الهادف" الذي يتكون منه "الجيل الهادف" هي وسيلتنا إلى وجود "المجتمع الهادف" المجتمع المثالي، فإذا كنت قد تحدثت في أول الحديث عن المسئولية والعبء فإن الجيل الهادف هو الذي يستطيع أن يدرك المسئولية ويتحمل العبء. وإذا كنت قد تحدثت عن الانفصال في الفكر الإِنساني إما إلى الماضي انقطاعاً عن الحاضر وإما إلى الحاضر انقطاعاً عن الماضي، فإن "الجيل الهادف" هو الذي سيصل الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي وتلتئم الفكرة فيه عمقاً وإدراكاً وتماسكاً ووضوح رؤية، وإذا كنت تحدثت عن الظلم والاستعمار والصهيونية فإن "الجيل الهادف" هو الذي يستطيع التحرر من نير كل هذه الأثقال، وإذا كنت تحدثت عن اليأس والقلق فإن "الجيل الهادف" هو الذي يجد الأمل ويصنعه، وإذا تحدثت عن القوة المادية والضعف المعنوي فإن "الجيل الهادف" هو الذي يسخر القوة المادية ويسمو بها ويجعلها قوة لمعنوياته وأداة لخدمتها. وإذا تحدثت عن فلسفة الضعف فإن "الجيل الهادف" هو الذي يطرد فلسفات الضعف بما يكون في نفسه من مؤهلات القوة وفلسفتها: يطرد فلسفة الفوضى بفلسفة التنظيم، ويطرد فلسفة الواقع بفلسفة الحق، ويطرد فلسفة الانطلاق بفلسفة المسئولية، وإذا تحدثت عن الضياع فإن "الجيل الهادف" لا يضيع ولا تصيبه عوارض الضياع بما فيه من قوة اليقين وثبات العزيمة وقدرة المسئولية، وإذا تحدثت عن الفراغ فإن "الجيل الهادف" لا يجد الفراغ في نفسه فإن يجده في وقته وهو ضرورة من ضرورات الحياة وجد من معانيه ما يملؤه، وإذا تحدثت عن اختلال الموازين فإن "الجيل الهادف" لن تختل له موازين لأن هدفه هو لسان الميزان، وإذا تحدثت عن السلبيات والإِيجابيات فإن "الجيل الهادف" سيمحو السلبيات من حياته ومن حوله ويستعمل الإيجابيات، ويزيدها وجوداً ونمواً، فحين يوجد "الجيل الهادف" تتجسد معاني الخير فيه وبه لأن "الجيل الهادف" يعيش بعين الفطرة وأذن الفطرة وقلب الفطرة ورأس الفطرة ولا يستبدلها بالعيون والآذان والكلى والرءوس المصطنعة، وبذلك تتحقق له رؤية الأشياء رؤية صحيحة وسليمة وصافية. إن الهدف هو "الإكسير" الذي نضيفه إلى أية مادة أساسية في بناء الفكر الإِنساني لتتحول إلى مفتاح ضخم من مفاتيح الحياة، فإذا تمثلنا المواد الأساسية في بناء الفكر الإِنساني المعاصر في مواد ثمان كما تمثلنا المفاتيح، لكانت:
1 - الدين .
2 - التعليم.
3 - التربية.
4 - الرياضة بنواحيها ومعانيها المختلفة.
5 - الاقتصاد.
6 - الأدب.
7 - الفن.
8 - الإعلام.
فإننا لعمل مقارنة تقريبية.
حين نضيف إكسير الهدف إلى التوجيه الديني يصبح مفتاح الإِيمان.
حين نضيف إكسير الهدف إلى المناهج يصبح مفتاح العلم.
حين نضيف إكسير الهدف إلى أساليب الرياضة تصبح مفتاح الخبرة.
حين نضيف إكسير الهدف إلى الأدب يصبح مفتاح السلوك.
حين نضيف إكسير الهدف إلى الفن يصبح مفتاح المعاملة.
وحين نضيفه إلى الاقتصاد يصبح مفتاح التخطيط.
وإلى الإعلام يصبح مفتاح العمل.
وإلى التربية تصبح مفتاح الصبر.
ومن الطبيعي أن تتداخل العلوم والفنون والآداب وكافة مواد البناء الأساسية للفكر الإِنساني لأن مصادرها وملتقاها العقل والقلب والحس معاً، وهذه الحالة في الإِنسان هي الفؤاد. ولذلك ربط الله كثيراً بينها وبهذا الرباط حملها المسئولية إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء: 36) ولذلك فكل مادة أساسية صالحة لتكوين المفتاح المقابل لها كعنصر أساسي ولتكوين المفاتيح الأخرى كعناصر إضافية، بل لتتداخل المواد الأساسية إلى درجة عدم إمكان الجزم بالمادة المقابلة لكل مفتاح، وهذا طبيعي كما قلت، لتداخل المصادر والمجاري والموارد والمصبات في الفؤاد وهنا نصل إلى سؤال جديد:
ما هو هدف المسلم؟ ومرة أخرى نعود لنتفيأ ظلال القرآن:
إذا كانت "الجنة" هي "الحياة المثل" التي أطلع الله آدم عليها ليعمر الأرض على نحو منها، فإن حديث الله عن "الجنة" للأجيال من بعده ليس تعويضاً للإِنسانية عن الفشل في الدنيا بقدر ما هو حافز بناء بالمثل والمثوبة، وإذا كانت "الجنة" هي "الحياة الرغد" للذين يستحقون المثوبة، فإذا صرفنا النظر عن كل النعم المادية التي يسرت فيها لأهلها بما ليس بعده طمع لطامع مما (تشتهيه الأنفس وتلذَّ الأعينُ) فلننظر ما هي السمة المعنوية التي اتسمت بها الحياة في الجنة وما هي النعمة التي أنعم الله بها على أهلها فوق كل هذه النعم المادية؟.
يقول الله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (الحجر: 45 ـ 47) هذه هي سمة الحياة والأحياء في الجنة تتكرر بألفاظ السلام والأمن ونزع ما في الصدور من غل في مواضع كثيرة، وحين تتغير الألفاظ فلا تكون إلا هذه المعاني نفسها: لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (الأعراف: 49) لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (الأنفال: 4) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (الحج: 24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (الواقعة: 25 ـ 26) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (الغاشية: 8 ـ 9) وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (الإنسان: 11) وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ (التوبة: 72).
ومن إكمال السلام لهم أنهم بالنسبة لجهنم لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ (الأنبياء: 102 ـ 103) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (القمر: 55)، حتى حين قال الله عنهم: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً (الطور: 23) بالمعنى اللغوي للفظ يتنازعون الشيء يتجاذبون والكأس يتعاطونها لم يدعها مطلقة دون أن يلحقها بقوله لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (الطور: 23) وحتى حين يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (الصافات 45 ـ 46) استدرك فقال لَا فِيهَا غَوْلٌ (الصافات: 47) يغتال رءوسهم بالصداع أو الدوار والغيبوية، وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (الصافات: 47) من بطونهم أو أجسادهم بالقيء والعرق لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (الواقعة: 19) ليؤكد السلام في حياتهم ونفوسهم وأبدانهم..
إذاً:
فالسلام هو السمة السائدة للحياة في الجنة وهي السمة الشاملة للأحياء فيها. بل أكثر من ذلك سماها الله دار السلام حيث قال: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ (الأنعام: 127) وحين رتب الله هذه النهاية للإِنسان قال: وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً (الأعراف: 52) والعلم هو النور، والهدى هو الحق، والرحمة أعلى درجات العدل. فالحق والنور والعدل مقومات السلام. وهي معان متداخلة. فإن قلت الحق هو النور وهو العدل، وإن قلت النور هو الحق وهو العدل، وإن قلت العدل هو الحق وهو النور، صدقت في كل ذلك. وهي في مجموعها "السلام" وهو في مفرداتها كذلك. فإن قلت الحق هو السلام، والنور هو السلام، والعدل هو السلام، لم تخطئ لأنه لا سلام بلا حق ولا سلام بلا نور ولا سلام بلا عدل. فهي جزء من كل وكل في جزء.
ولنرفع بأنظارنا إلى السماء. إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة. ونفسِّر ألفاظ الفقهاء وإن لم نخرج عن معانيها: بأن من تمثل بها عملاً فيما يملك العمل فيه، وسلم لله منها بما لا يشاركه أحد فيه دخل الجنة. ولو تدبرنا أسماء الله الحسنى في النَّص الوارد بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لوجدناها كلها اسم فاعل أو اسم صفة، ولكن أربعة منها فقط سمى الله بها نفسه باسم المصدر أو اسم المعنى، هي السلام، الحق، النور، العدل. كأنه جل شأنه كرم معانيها فاعتبرها جزءاً من ذاته وكأنه جلت حكمته اعتبر الإِيمان بها إيماناً به والعمل بها عملاً له. ومن هنا نعرف لماذا كانت ساعة عدل خيراً من عبادة سبعين سنة، ونعرف لماذا كان الإمام العادل أول من يُظلهم الله يوم لا ظلّ إلا ظله، ومن مات وهو غاش لرعيته حَرّم الله عليه الجنة. ولماذا كان قاض في الجنة وقاضيان في النار. ولماذا كان وزر اليمين الغموس وشاهد الزور والخصم الزائف. ولماذا كان فضل كلمة حق أمام سلطان جائر وجُرْم الساكت على الحق كالشيطان الأخرس.. لكل من هؤلاء وغيرهم مثوبة وعقوبة بحسب أهميته وعلاقته بميزان العدل لأن العدل هو لُبُّ الحق ووجه النور وبساط السلام. وكل معاني الخير في الحياة عدل: فالوفاء -بكل ظروفه ومعانيه- عدل لأنه أداء لألتزام -والإحسان بكل ظروفه ومعانيه- عدل لأنه أخذ للغير وعمل بالحق من النفس. والتعليم -بكل صوره- عدل لأنه أداء لحق الآخرين من علم العالم. والانتصار لحق النفس عدل لأنه منع للظلم. وحتى حين يكون بالعفو فهو عدل لأنه رحمة القوة بالضعيف. الانتصار لحق الغير من الغير عدل لأنه حق الضعف من القوة أو حق الفرد من الجماعة، وهكذا.. بلا مزيد من التمثيل، وهذه المعاني كلها نور وحق وسلام. ولو رجعنا إلى القرآن وإلى ما لم يمسه تحريف من الإنجيل والنور لوجدناها جميعاً تدعو إلى أحسن الخلق وتنهى عن أرذله. ذلك أن أحسن الخلق طريق الإِنسانية إلى السلام ومقوماته وعوامله متدرجاً من القاعدة إلى القمة. وأرذل الخلق طريق البشرية إلى الحرب بمقوماتها وعواملها من القاعدة إلى القمة. وشرعت العبادات محطات تموين على الطريق تزيد الذين اهتدوا هدى وتعبئ الذين فرغت قلوبهم من جديد. وصورت اليوم الآخر والجنة والنار نهايتين للطريقين. وجاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم متمماً لمكارم الأخلاق ومصدقاً لما بين يديه من الكتاب. ومؤكداً للصحيح الذي حَرَّفه أهل الكتاب، بتوحيد الله، حقاً لله ومصدراً للقوة في الحياة، قوة الإِنسان في وجه الطبيعة، وقوة للحق في وجه البغي.. والقرآن ليس إلا الاستشهاد بالطبيعة وما وراءها لتأكيد توحيد الله، والاستشهاد بتاريخ البشرية على استحقاق الأصلح للبقاء واستحقاق الظالمين للفناء. والدعوة إلى حسن الخلق صورة للصلاح، والنهي عن سيء الخلق صورة للفساد، بذلك كان مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (المائدة: 48) بما زاد فيه مما يتناسب مع تطوير الإِنسان ومشكلاته. فدعا إلى العلم -بكل شكوله النافعة- نوراً للصلاح في الأرض والمثوبة بعدها، ووضع أسس العلاقة التجارية سبيلاً لتحسين علاقة المجتمع أفراداً وجماعات وهيئات ومجتمعات متقابلة في حالة السلم وحالة الحرب بساطاً للسلام. ولو تَمَعَّنَّا فيما وضع من أسس التجارة والنظام الاجتماعي لوجدناه أعفاها من كثير من التفاصيل القابلة للتطوير والاختلاف ولكنه حرص فيهما على معنيين: أولهما: آداب المعاملة التي تهذب النفس وتقيم موازين العدل في داخلها. وثانيهما: القواعد الأصيلة التي لا تتغير لضمان الحق.
إذاً فالسلام بعناصره الثلاثة: النور والحق والعدل، هو هدف المسلم. إن السلام هو هدف الإِسلام. هدف للفرد في ذاته وحياته الخاصة والعامة. هدف للفرد في علاقته بالفرد والجماعة والكيان العام. هدف للجماعة. في علاقتها بالفرد وبالكيان العام وفي كيانها الذاتي. هدف للكيان العام في ذاته وفي علاقاته بالأفراد والجماعات والكيانات المتعاملة معه. هدف للإِنسانية.
ولكن هل تفرد الإِسلام والإِنسان المسلم بالدعوة إلى هذه المعاني؟
إن من حَظّ البشرية الحسن، أن الذي خلقها قد غرس فيها بذور المعاني الكريمة كأحلام وآمال ومطالب ومعان خيِّرة. ومن حسن حظ البشرية أنه أمد هذه البذور بالري. فجاءت الأديان كلها لتنمي هذه الغراس أشجاراً طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. لذلك لم يجرأ فرد ولا جماعة على مدى التاريخ بالدعوة إلى عكس هذه المعاني الكريمة، وحين تكون هناك مبادئ، يريد أصحابها لأنفسهم ما لا يصلح أو يصح الجهر به تقوم : "المذاهب الباطنية" و "البروتوكولات السرية". ولقد سعى الإِنسان في محاولات فردية وجماعية إلى أن يضع هذه المعاني الكريمة موضع التنفيذ في حياة الإِنسانية. وليس قيام "هيئة الأمم المتحدة" إلا تعبيراً أخيراً عن هذه المحاولات.
ولكن الفرق بين سعي الإِنسانية بعيداً عن الدين وبين عمل الإِسلام، أن صنع الله لهذه المعاني ووسائل تحقيقها يدخل إلى أعماق النفس كما يخامر تفكيرها وأن صنع الله قد اتجه إلى القواعد بين الأمم والشعوب: إلى صناعة الأمة بأفرادها. وأن صنع الله قد منح الإِنسانية كلها "كلمة السر" كهدف حتى لا يساء استغلاله ومفهومه وصنع سر السر في القلوب المؤمنة، لا يمكن أن يستعمله إلا من لا يسيء استغلاله، فكان "المعيار الصحيح" للعمل من أجل السلام و "المعيار الصحيح" للمثوبة علـى العمـل و "المعيـار الصحيح" للتفاضل بين العاملين إنه "التقوى"! هذه الكلمة الجامعة التي عبر بها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم معياراً للتفاضل بين المسلمين. فالإِيمان بصرف النظر عن الإصلاح العقائدي له يقابل الكفر، وهما عمل الباطن في الإِنسان. والحسنات والصلاح مقابل السيئات والفساد، وهما عمل الظاهر في الإِنسان. والخطأ هو سلامة الباطن مع خطأ الظاهر والرياء. هو سوء الباطن وسلامة الظاهر والذنب هو خبث متعمد مع افتراض حسن النية، يقابل الفسوق وهو خبث متعمد بقصد من سوء النية والعمل. أما التقوى فهي سلامة الباطن والظاهر في أسمى حالات الخير: العمل الصالح بالنية الصالحة وهي تقابل الفجور وهو سوء الباطن والظاهر في أسوأ حالات الشر: عمل السيء بالنية السيئة. ولقد عرف الله "التقوى" فقال وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (الزمر: 33).
وحيث أورد الله في كتابه العزيز كلمة "المتقين" و "كان تقياً" و "الذين اتقوا" لم تكن بحاجة إلى أن يصحبها بوصف آخر لأنها شاملة في الدلالة على المطلوب، أما حين أورد أي تعبير آخر كان يردفه بأكثر من لفظ ليؤدي المعنى نفسه لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (ق: 32 ـ 33). الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا (فصلت: 30). وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (الرحمن: 46). وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ (الطور: 21). الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (الزخر: 69). إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (الصافات: 40) وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ (البقرة: 25) أما عندما يرد الوصف بالمتقين فإنه الوصف الشامل الكامل للعمل الصالح بالنية الصالحة، تلك هي "التقوى" "سر السر" في قلوب المؤمنين.
وسر السر في التقوى هو اتجاه القلوب إلى الله والتعامل معه في كل تصرفاتها له ولذاتها وللناس.
أما ما هو الشيء الذي يحطم "التقوى" في القلوب؟ فهو ما نفاه الله عن أهل الجنة وحياة الجنة: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً (الواقعة: 25) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (النبأ: 35) فاللغو هو الكلام الذي لا يقدر المسئولية ولا يحملها والذي يصدر من غير رؤية ولا تفكير، لما يترتب عليه من ضرر بالنفس والغير والجماعة. والكذب هو الذي ينافي المسئولية ويسيء استعمال التفكير بقصد فهو لغو خبيث. فهما معولا الهدم في كيان "التقوى" من الإِنسان والمجتمع. ولذلك كان الكذب الشيء الوحيد الذي نفى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم أن يفعله المسلم. إن التقوى هي سر السر في المسلم لتحقيق الهدف المسلم وبها يتعامل المسلمون. وحيث يكون العمل الصالح بالنية الصالحة هو نهج المسلم منهج الجماعة المسلمة فأي مجتمع مثالي خيّر رائع يستطيع أن يحققه المسلمون على وجه الأرض؟ إنه فعلاً -يومئذ- يكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً قوة وصلابة، ويكون كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، صلة ورحمى. ومن ثم يكون التحام القمة بالقاعدة التحام الرأس بالجسد، والتحام الحكومة بالشعب التحام الأعضاء فيه، والتحام السياسة بالعقيدة والثقافة التحام القلب منه به، وتكون الدولة هي كل هذا الكائن المتماسك البنيان المتفرع الأعضاء، النابض بالحياة وحين يتدرج الجيل الهادف المسلم بالتقوى إلى مقاعد الحياة فإنه يضع التشريع المسلم بالقلب المسلم والعقل المسلم.. ويستعيد سلطان الدين والحكم والقانون بالقدوة الحسنة والتقوى. وهو الذي يستطيع أن يتحد، وأن يحقق رسالة الإِسلام وأن يبشر بالسلام. لأنه يبني الداخل بالتصاعد. ويضع الصورة الصحيحة السامية على مرآة الواقع أمام الآخرين، يبني بها علاقة الداخل مع الخارج. فحين يرانا العدو في الموقف الكريم لا بد له من أن يكبرنا فيستحيل إلى خصم معتدل، وحين يرانا أنصاره في الموقف الكريم يستحيلون إلى "حكم محايد"، وحين يرانا الآخرون في الموقف الكريم يستحيلون إلى "شاهد عدل".
وعندئذٍ يكون هذا نفسه خير صورة للمجتمع المسلم يُحَوِّل أغلبية العالم إلى الدخول فيه وهذا كان يوماً من الأيام ولهذا حديث.
ولكن من المؤسف جداً وحقاً أن المسلمين قد بدّلوا مفهوم مصطلحاتهم ومحتوياتها السامية حتى جمدوا أفعالهم بتجميد مفهوم المصطلحات الكريمة في الأصل والمحتوى، حين حكروا الإِحسان -مثلاً- على الصدقات وما في مدارها من معاني البر، مع أنه لغة وشرعاً: التجويد والإِجادة في كل عمل. حتى سمى الله الذين لا يجدون ما ينفقون وهم متقون محسنين ما عليهم في عجزهم هذا من سبيل فحولها المراءون مبرراً للأغنياء إذا قصروا وحين حكروا التقوى على أنها العمل الصالح في العبادات. مع أنها لغة وشرعاً: كل عمل صالح من أعمال الدنيا والآخرة بالنية الصالحة. وحكروا الكثير من أمثال هذه الألفاظ الكبيرة والواسعة والكريمة في المعنى والعمل، وحجروها على مجالات ضيقة وصغيرة تقلصت بها الأهداف وانْجَزَرَتْ بها المعاني في نفوسهم وعقولهم، ومن ثَمَّ تقلصت بها أعمالهم وانجزرت حدودهم من الدنيا بل ومن الآخرة كذلك، إن العمل الصالح بالنية الصالحة يشمل الدنيا والآخرة مجالاً وغاية وعملاً. حتى الصعود إلى القمر حين يكون محاولة لفتح علمي مفيد للبشرية ومسعد لها ومضيف إلى خيرات الأرض خيرات فإنه عمل صالح في حساب البشرية وربها. وحين يكون محاولة لفرض القوة وحرب القوى فدمار الدنيا وخسارة الآخرة. إن التقوى هي (المهمة الصعبة) في حياة الإِنسان والجماعات، وإن صناعة التقوى في النفوس هي (المهمة الصعبة) في رسالة الفكر والعلم وفي أعناق الكبار في كل مجال من مجالات الأمة. وإن صناعة التقوى في النفوس ينبغي أن تكون صناعة (المُنَظَّمات الإِسلامية) في كل بلد مسلم قبل أي شيء آخر لتصنع القواعد من الأمة الإسلامية التي تريد أن تتحد وتريد أن تأخذ مكانها وتؤدي دورها من المجتمع العالمي الكبير. أما كيف ذلك، فحديث مستقل. ولكن الهدف إذا اتضح اتضحت معه الأسباب والوسائل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1237  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 1258 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج