تَقْدِمَـة |
|
بقلم سعادة الأستاذ المربي الكبير عبد الله محمد الزيد |
|
المدير العام للتعليم بالمنطقة الغربية |
تمثل مهنة التربية والتعليم إحدى أقدم المهن في المجتمع العربي بدءاً بكتاتيب الفترة الجاهلة المبسطة قبل الإسلام.. ومروراً بعصر الازدهار التربوي في منتصف القرن الخامس الهجري عندما انتشرت المدارس الكبرى في كل حواضر المعرفة والثقافة العربية الإسلامية منطلقة من تجربة المدرسة النظامية في بغداد (455هـ) وانتهاء بالنظم التربوية المعقدة السائدة الآن في كل مكان.. والمعلم العربي المسلم عبر كل أطوارنا التاريخية لم يكن يتلقى إعداداً مهنياً مقصوداً بذاته يندرج في خطة خاصة لإعداد المعلمين كما نفعل الآن لكنّ المعلمين كانوا يبرزون من بين العلماء الكُثْر الذين تخرجوا من المدارس والمساجد والجامعات العربية الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان والأندلس والحرمين الشريفين وجامع الدرعية الكبير والجامع الكبير بالرياض وغيرها من مراكز العلم والثقافة... ذلك لأن قاعدة من علِمَ علّم هي السائدة في غالب الأمر.. |
ولعل أبرز تجربة في هذا السياق هي تجربة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي علم أصحابه تعليماً مباشراً كل علم رباني تلقاه من السماء. فكان أبرز من علَّم وأجود من ربّى... حتى تسنمت أمته أعلى مراتب المجد في فترة زمنية قصيرة... وقد سار على نهجه أئمة السلف من علماء علَّمُوا أجيال الأمة الحديث وعلوم القرآن الكريم والنحو وعلوم اللغة وعلوم الكلام والطب والفلك والحساب وغير ذلك من أمثال طبقات المحدثين وفي مقدمتهم أميرهم الإمام البخاري وأبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي.. وعلماء مدرستي اللغة من الكوفيين والبصريين والغزالي وأئمة المذاهب الأربعة وابن سيناء وابن رشد والغزالي وابن تيمية وابن خلدون والمتنبي والمعري وشوقي وغيرهم... وغيرهم من عشرات العلماء المعلمين البارزين في تاريخنا والذين علموا الأمة كل في مجاله ما لم تكن تعلم.. وأهدت إلى الإنسانية علمنا الذي شارك بشكل مباشر وغير مباشر في الانبعاث والصحوة العلمية المعاصرة. |
لقد تميز علماؤنا الصفوة بغزارة العلم وبشمولية الإطلاع وبالتمكن فيما يطرقون من أبواب المعرفة.. فالغزالي القاضي والفيلسوف وعالم الدين هو مدير المدرسة النظامية في بغداد الذي وضع لها نظاماً سارت على منهاجه كل مدارس مدن الدولة الإسلامية وانتقل إلى أوروبا ثم عاد إلينا فيما يسمى بنظام التعليم المعاصر.. وهو صاحب الرسالة التربوية المعروفة أيها الولد.. |
وابن سيناء الطبيب الفيلسوف السياسي هو المُنَظِّر التربوي الذي بسط في أعماله فكراً تربوياً ناضجاً في شرحه لشروط المعلمين والمتعلمين. |
وابن خلدون المُنَظِّر الاجتماعي المعروف لم يفت عليه التنويه بأهمية مهنة التربية والتعليم في تكوين وتماسك البنية الاجتماعية للمجتمع وتطرق في مناقشاته إلى عرض أفكاره التربوية الخاصة ورأيه في المتعلمين والمعلمين.. تماماً كما فعل ابن سيناء وغيره من علمائنا الأجلاء عبر التاريخ. |
واليوم.. يأتي الأستاذ الأديب الشاعر إبراهيم أمين فودة يغذ الخطى على درب أسلافه من العلماء أهل المكنة يعمل عملهم.. يتحدث عن التعليم ويشارك أهله في همومهم من منظور المثقف الواعي الذي جمع بين ثقافة الأمس والمعاصرة.. وهو بما عرفت منه فقد ملك جماع اللغة العربية التي مكنته من التعامل مع كثير من المعارف في الدين والأدب والاجتماع وغير ذلك.. ولأن اللغة مطواعة بين بنانه وجنانه.. فقد عرفت عنه أيضاً قدرة فائقة على الارتجال والخطابة يستعمل الكلمة المشرقة والمُعَبِّرة بالضبط عما يريد قوله في منطقية وثقة وتوازن قَلَّ أن توجد في طبقة المتعلمين المحدثين.. حتى ولو حصلوا على أعلى الشهادات، ولعل بيئة والده الشيخ أمين فودة العلمية وتعهده لنفسه بالقراءة والإطلاع واختياره الحذر لأصدقائه ومعارفه من بين المثقفين والعلماء والشعراء في داخل بلاده وخارجها.. لعل لكل ذلك الأثر الأكبر في تكوين شخصيته ونُصْح رؤيته وأدائه الفكري ثم جرأته على استعمال كل ذلك في محاوراته السياسية والاجتماعية والثقافية. |
إن إبراهيم فودة، كما عرفته يمثل مدرسة مجهولة للأجيال الجديدة، ذلك لأنه لم يظهر للناس بشكل مباشر إلا في السنوات الأخيرة عندما نشر دواوينه وبعض كتبه النثرية التي تحتاج إلى الكثير من التتبع والدراسة من الجميع حتى يتضح منهجه وفكره الفلسفي والسياسي والاجتماعي. |
على أن ما تبين لي من دراسة كتابه حديث إلى المعلمين يقنعني من وجهة نظر تربوية متخصصة بسعة إطلاع وعمق فكر الرجل.. فأنت تقرأ فيه أرسطا طاليس وفلاسفة الإغريق الذين تصدوا لتعليم الناس الحكمة في حوارهم معهم وتجد فكر الغزالي وابن سيناء وغيرهما من المنظرين التربويين المسلمين عندما يتحدث عن أهمية التعليم في سن باكرة وأخذ المتعلمين بالقدوة الحسنة والكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة والذوق الرفيع وسعة الصدر وإخلاص المعلم لعمله وعدم شحه به وكفاية المعلم لأداء الدور الكبير المنوط به.. ثم دعوته للمتعلم بأن يتأدب بأدب المتعلمين بحسن الاستماع وحثهم على الجرأة في التلقي والسؤال وحب الاستطلاع.. |
ونرى في فكره الفيلسوف التربوي المعاصر جون ديوي حينما يطرح أهمية تدريب المتعلم على التجريب عند اكتساب العلم والاستعانة بالوسائل المعينة.. |
بل وتلمح لديه إحاطة ومعرفة بكل الأفكار والنظريات التربوية المعاصرة عندما تتأمل لمحاته في مواضيع محو الأمية والمنح الدراسية والحرية الأكاديمية والتقويم والقياس والإشراف العلمي والتعليم المستمر... الخ. |
إن القارئ لإبراهيم فودة في هذا الكتاب لا يجب أن يجهد نفسه ليكتشف أنه المثقف الواعي وحسب ولكن يجد فيه العالم الذكي الذي يستعمل فقهه باللغة العربية في تتبع نصوص القرآن الكريم والسنَّة المطهرة ليستخرج منهما الأمثولة الأحسن والرأي الأصوب والحل الأمثل لحياة وطموحات الناس أفراداً ومجتمعاً.. |
فهو مثلاً عند حديثه عن العلماء يورد الحديث النبوي الشريف فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر يُصَلُّون على معلم الناس الخير ويعلق بأن المفهوم طبعاً أن المقارنة تعني العالم المؤمن المؤدي حق إيمانه. لأن العالم ذو فضل مُتَعَدٍ إلى غيره والعابد فضله يلزمه والإيجابية الخيرة فوق السلبية الخيرة حتى المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم وبهذه الفلسفة تكون القوة الخيرة خيراً من الضعف الخير المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف بل إننا نجد أن العلم في أي المجالات كان يتكشف له وبه ما هو أعظم مقومات الإيمان.. ونحن نجد أن معظم كبار العلماء العالميين حتى الماديين منهم أبعد عن الإلحاد وأقربهم إلى الإيمان مهما كانت أحوال مجتمعاتهم المنحرفة ولا تجد أغلب الملحدين إلا من عامة المجتمعات المنحرفة أو أنصاف المتعلمين.. ويقول.. وهذه من الأمور التي نظر إليها الرسول الأعظم بعين بصيرته الملهمة.. ولذلك وفي مقابلة هذا التفضيل للعالم كان زيغ العلماء والأدباء والفنانين أشد النكرات في الدين تجريماً وعقوبة لأن ذلك أضرُّ الأشياء على المجتمع حين يكون العلم سلاحاً للفساد فهو حين ذاك فساد مُعَلَّم.. وهو أنكى إساءة وأبلغ إغراء من الفساد الجاهل... وما كان ذلك ليغيب عن فطنة نبي العلم حين سئل أي الناس شر؟؟ فقال.. العلماء إذا فسدوا بل إن فساد العلماء في بعض المجتمعات كان من أشد أسباب الرِّدة في بعض أفرادها... |
ولهذا كانت مسئولية رجال التعليم والفكر وكلهم مُعَلِّمُون عظيمة عند الله وعند الناس وعليهم أن يكونوا حرباً على الزيغ والضلال والفتنة لا بألسنتهم دون أفعالهم. |
والعلم عند الأستاذ إبراهيم فودة غاية وهواية ورواية ودراية وهداية وأمانة وكرامة وفضيلة وسلوك حياة ورسالة يشرح كل ذلك في براعة تكشف عمق وبُعْدَ نظره وكأنه يقول بأن من تتقاصر همته وقدراته عن فهم هذه المعاني فإن عليه أن يتنحى جانباً ويسوق حديثه بكل قوة إلى كل مثقف ومعلم وعالم إلى أن يُصوِّبوا كل هممهم وجهدهم لصناعة الرجال لأن الثقافة لا تعرف حدوداً قد تقف بحامل شهادة الدكتوراه حتى ينتهي إلى الخلف.. لأن من لم يتقدم يتأخر.. لأن العالم والعلم لا ينتظرانه ولا يقفان حيث تركاه.. وقد تصعد الثقافة بحامل شهادة الابتدائية إلى ما فوق الدكتوراه ثم يقول وأمثلة ذلك رأيناه من قبل وستطالعنا في كثير من بعد.. |
هذا الكلام قاله الأستاذ فودة يخاطب به جيل الأمس من طبقة العلماء والمتعلمين ممن أتوا قبلنا فماذا عساه أن يقول لجيل اليوم؟ إنني أشعر بأن مقولته أصدق على واقع علماء اليوم تماماً كما تنبأ.. فلقد كثرت الشهادات خاصة ما يسمى بالماجستير والدكتوراه ووقف كثير ممن تحايل على الحصول عليها على فرحة التسمية بها ولم يشرف نفسه حقاً بالدخول في دائرة العلماء المتخصصين الذين يَتَحَلَّوْن بكل المواصفات الجميلة التي ساقها الأستاذ الفودة في ثنايا حديثه للمعلمين... |
إن الوقفة المتأنية على كل ما ورد في حديث الأستاذ إبراهيم متعذرة لأنها تعني أن تنقلب المقدمة إلى كتاب آخر.. وما أردت أن أنطلق مع سجيتي المعجبة بفكره الناضج سلفاً والذي تأملته وسمعته منه شخصياً في جلسات متعددة.. لكني مع متعة التتبع أريد أن أنبه إلى أن فهم تأملاته تكبر في عين القارئ لها إذا ما أدرك بأن صاحبها يأخذ على نفسه سلوكاً ذاتياً أقرب إلى الحَرْفِيّة فيما يعتقد ويقتنع به.. فهو عندما يدعو المعلمين إلى غرس معاني الكرامة والعفة والاعتزاز في سلوك الناشئين فهذا ما وجدته فيه فهو الغني والسخي حتى مع الحاجة.. وهو الحذر من أن يضع نفسه في موضع لا يليق به وهو الشجاع في الإفصاح عن مشاعره من غير تشنج أو إسفاف وهو المخلص من غير ذِلَّة.. وهو العالم من غير تَعَالٍ أو غرور.. ولا يعني هذا أنه الكامل أبداً وحسب والواحد منا أن يبذل جهده في نشدان الكمال وكفى. |
إن حديث المعلمين حديث لا يُمَلّ، لأهمية وخطورة دورهم في حياة الناس.. كل الناس.. وأن المعلمين والمثقفين والمتعلمين والمتخصصين في أمور التربية والتعليم لمدعوون إلى قراءته وهم وإن لم يتفقوا جَدَلاً على كل ما فيه فيكفي أنه سيثير في الجميع الاهتمام بالمهنة وهمومها.. عَلَّهم يساهمون مع الأستاذ الفودة في وضع حلول ناجعة لمشكلاتنا المعاصرة التي نبني عليها حتماً مستقبلنا.. كل مستقبلنا.. |
والله المستعان .... |
|
|