الكتبُ الجديدة ديوان مطلع الفجر |
شعر الأستاذ إبراهيم أمين فودة |
كنت فخوراً وسعيداً جداً إذ قدمت لحضرات المستمعين الكرام في برنامج (الكتب الجديدة) قبل أسابيع ديوان الشاعر الحجازي الأستاذ إبراهيم هاشم فلالي (الحاني) وأنا الآن فخور وسعيد أيضاً إذ أتحدث إلى المستمعين الأماجد عن ديوان آخر لشاعر حجازي آخر في زمن ليس بالبعيد.. هذا الديوان هو ديوان (مطلع الفجر) لبادعه الشاعر الصديق الأستاذ إبراهيم أمين فودة. ومبعث فرحتي الجديدة هو تسابق شعرائنا المجيدين إلى المطبعة معلنين عن نهضة الأدب في بلادهم التي تتطلع الآن بفضل جهود العاملين من أبنائها إلى عالم الفنون بهمة ونشاط. ونظرة يشوبها الجد والإخلاص لسمعة بلادهم في ميادين الأدب والثقافة. |
يسرني أن أتحدث عن ديوان (مطلع الفجر) وإن لم تتلقفه بعد أيدي القراء إذ ما زال على وشك الصدور وإن كان قد انتهى طبعه أو كاد. ولا أجد غضاضة في تعجل الفرحة بهذا الديوان لأنني أراه جديراً لما حواه من مادة قيمة ولما حشده له صاحبه من جهود وأرخصه من مال ووقت - أن يلقى من القراء والمستمعين ما هو قمين به من تقدير وإعجاب. والأستاذ إبراهيم فودة إنسان وديع النفس كريم الأخلاق وشاب في مقتبل حياته وإذا حدثك حدثك همساً وهو شاعر منطو على نفسه بعض الانطواء إلاَّ فيما يختص بالصفوة من أصدقائه الخلص. وفيما عدا مداعباته لعرائس الشعر فإنني أعتقد أنه مفرط في مداعبتها مستهام بها صب ولا أدل على تعلقه بالشعر وكلفه به من ديوانه هذا (مطلع الفجر) فقد كنت أشرت في ثنايا حديثي عن ديوان (الحاني) للأستاذ الفلالي أنه أضخم الدواوين الحجازية التي نشرت حجماً فإذا بديوان الأستاذ الفوده ينازعه هذه المكانة. ويحتل من حيث توافر مادته وأناقة طبعه مكان الصدارة ويغتصب الأولوية.. وبحسبك أن تعلم أن عدد صفحاته حوالي أربعين وثلاثمائة صفحة لتعرف مدى ما سيزخر به من ألوان الشعر. وكما أن الشاعر الفودة - أيها السادة - منطو على نفسه فإنه منطو على شاعريته فهو لم ينشر من أشعاره فيما يبدو إلاّ النزر القليل ولم يمتع القراء إلاّ بالوشل الضئيل منها - ولو دأب على إذاعة أشعاره ونشرها لكان له من الشهرة الأدبية في عالم الشعر ما هو جدير بشاعريته الحسنة وفنه الرشيق. |
ولكن ها هو ذا قد اقتحم الميدان بموهبته الشعرية المتألقة ليلقى ما يستحقه من التقدير لفنه ويستهدف كغيره لنقاش النقد. |
ويضم ديوان (مطلع الفجر) من شعر شاعرنا كل ما نظمه الشاعر تقريباً أو في الحقيقة كل ما أراد له الشاعر البروز إلى عالم الطباعة من قريضه القديم والحديث وإن كان الشاعر قدمني - مع الأسف الشديد عام ألف وثلاثمائة وخمسة وستين بخسارة أدبية عظمى هي فقدان ما جمعه من أشعاره ليطبعه آنذاك - مع بعض آثار أدبية قيمة. فعاد وهو بصدد إخراج ديوانه هذا يجمع من جديد مسودات أشعاره المفقودة فكان ما عثر عليه منها إنما هو ما وجده بعدما تبدد كثير منها حينما كان يشعر أنه قد استغنى عنها بعد تبييضها. وقد أهدى الأستاذ الفودة ديوانه إلى والده العلامة الكبير فضيلة الشيخ محمد أمين فودة يرحمه الله إهداء يمثل حنو الأبوة وبر البنوة.. ولا غرو في ذلك فقد اتخذ شاعرنا من والده الحدب الهمام مثلاً أعلى وكان هذا الوالد العالم الأديب أستاذاً له ومرشداً وموجهاً فلم يتخذ شاعرنا الفودة سوى والده في عالم الأدب وفي فجر حياته الأدبية أستاذاً مربياً وهو يقول أنه لم يحاول أن يقدم أشعاره إلى أديب ليقوم معوجها. تاركاً لمر الزمن. وصنع الحياة بتجاربها وحوادثها. وللاطلاع والشغف والاستمرار أن يقوم كل ذلك من معوج أدبه ما لم يقو على تعديله. |
على أن الأستاذ الفودة قد تتبع بالدراسة آثار الكثيرين من الشعراء القدامى والمحدثين كلما سمحت له الفرص وتهيأت له أوقات الفراغ فكان لذلك أثره في انطباعه على مثل القريض وفي صقل ملكته الشعرية. |
فليس شاعرنا ممن يؤخذ ببهرج القول لأنه ممن ينعي على من يخلطون بين الشعر والنظم ولا يميزون بينهما فيعرف لنا الشعر بقوله: |
الشعر من وحي الشعو |
ر وليس منظوم الكلام |
الشعر ما روّى النفو |
س كما سقى الروض الغمام |
|
وهو تعريف للشعر العبقري طريف. |
وبالرغم من ضخامة ديوان (مطلع الفجر) وكبر حجمه فإنه سيظهر آية من آيات الطباعة الحديثة وتحفة من التحف الأدبية المغرية زركشة وورقاً وتلويناً ورسوماً رمزية بارعة تشخص معاني قصائده وتنبئ عما وراء السطور وصوراً فوتوغرافية على ورق صقيل وهذا يعود في الغالب - لا إلى تعمد الترف الطباعي - وإنما إلى ذوق الشاعر الأنيق ومبلغ ما يكنه لبنات أفكاره من حب وإعجاب. |
وقد قسم الشاعر ديوانه وبوبه تبويباً رائعاً فجعله ثمانية أبواب هي على التوالي (في معترك الحياة) ويضم أصداء الحوادث الاجتماعية والقضايا السياسية وغيرها التي انفعلت لها نفس الشاعر كقضية فلسطين وتحية الإذاعة والجامعة المصرية والأهرام ويلي هذا الباب (حياة قلب) وفيه تسجيل لغراميات الشاعر وحياته الوجدانية الخالصة وهو من أمتع أبواب الديوان إن لم يكن أمتعها وأعظمها ثم (من نشيد الحياة) وفيه ألوان من الشعر التأملي والوصفي فهو باب الطبيعة في ديوانه ويليه (صدى النفس) وقد جمع في هذا الباب طاقة من الشعر الأخواني وشعر الوفاء وغيره ثم وضع (منظاره الأسود) ليفيض علينا أنواعاً من شعر اليأس والتشاؤم والأفكار السود التي تساور دائماً نفس الشاعر الحساسة وتجثم على خواطره فينفس عن كرباته النفسية بشعره الحي ناعياً على الأيام جهامتها وعلى الزمان عدوانه وعلى الناس حمقهم وسفاهتهم وطيش حلومهم ثم (شعر معقول) وأغلبه مقطوعات في شتى الخواطر والسوانح الشعرية ويليه (مع الرفيق الأعلى) وقد ضمنه مراثيه لوالده، ولصديقه الأستاذ علي جعفر يرحمهما الله وجعل (مسك الختام) في الديوان قصائد في موضوعات نبوية يمدح فيها صفوة الخلق وخاتم الرسل ومقطوعات ابتهال وقد تضمن هذا الباب تمثيلية شعرية صغيرة عنوانها (في غار حراء). |
ولا ريب يا سادتي أن تبويب هذا الديوان جاء تبويباً حسناً وزاد في انسجامه أن الشاعر لم يجعل الفوارق بين أغلب هذه الأبواب فوارق حاسمة تحرسها قوانين صارمة فأنت تستطيع أن تسلك بعض قصائد الديوان في بعض الأبواب الأخرى غير التي اختارها لها الشاعر دون حرج كبير فهي إذاً مفتوحة للقارئ وليست موصودة تماماً أو محكمة الإغلاق إذ لا بد أنه واجد بين مختلف قصائد الديوان نسباً وصلة لأن معينها واحد هو نفس الشاعر المحسة بما يضطرب فيها من آمال وآلام. وما يصطخب فيها من شتى العوامل والمؤثرات التي تدعوه إلى القول فيقول. وليس في دنيا الشعر ما يدعو إلى التزمت الشديد وإقامة الحدود الفاصلة والحواجز الشائكة. |
وشاعرنا الفودة قد انتسب إلى غير مدرسة واحدة من مدارس الشعر الحديثة كالكلاسيكية أي المذهب الاتباعي الذي يعنى بإشراق الديباجة وجزالة التعبير واستيحاء القديم لفظاً ومعنىً وترسم خطاه والرياليزية أي المذهب الواقعي الذي يبحث في شتى ملابسات الحياة الواقعية ومشاكلها. والرومانتيكية أي الاتجاه الخيالي الابتداعي الذي يبحث في تهويمات الفرد وأحواله وتجاربه الشخصية وانعكاسات صور الخيال في ذهنه ونفسه الخ. فقد ولج أبواب هذه المدارس جميعها بقدر ما أتيح له من أساليب الشعور وطرائق الخيال والفن وبقدر ما أوتيه من قوة البيان وعمقه وأنت واجد في نماذج أشعاره وأصداء أفكاره التي سنورد منها في حديثنا القادم شيئاً. ما يؤكد هذا كل التأكيد. وأسلوب الأستاذ الفودة ساحر رشيق فيه طلاوة وجدة وموسيقاه ورشاقته الشعرية رقيقة ناعمة وتخيله عذب ممتع وعلى الرغم من أنه يدعو إلى الخروج قليلاً من سيطرة القافية وريقتها وفي بعض قوافيه ما يؤيد هذا فإن أكثر هذه القوافي محكمة رصينة جيدة السبك كما أن الأستاذ الفودة قد طرق أغلب موضوعات الشعر العربي. |
وختاماً فإنني لا أغالي ولا أجوز الحقيقة ولا أدفع بالشاعر إلى غير مجاله حينما أصف شاعريته بأنها شاعرية خصبة فياضة وأنه بإصداره ديوانه هذا الرائع قد أضاف إلى الشعر الحديث ثروة نفيسة وفناً خلاباً سامياً. |
لقد كنت أرجو أيها السادة أن يتسع مجال القول إلى إمتاعكم ببعض أشعار هذا الديوان الحديث ولكني أترك هذا لفرصة آتية أعرض عليكم فيها بعض الأمثلة والنماذج منه فإلى اللقاء
(1)
. |
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،، |
|
* * * |
ربطتني بالأستاذ الشاعر السيد إبراهيم هاشم فلالي صداقة توطدت عراها أثناء اجتماعنا لسنوات في القاهرة قامت النية بيني وبينه على أن أطلعه على دواويني الشعرية ويكتب عنها دراسة فقد كان ينشر دراساته لبعض الشعراء ولكنه اطلع على هذا الديوان الأول فقط ولم يسعفنا الزمن والظروف على مطالعته لبقية دواويني وقد وجدت من واجبي احتراماً لذكراه ووفاء بصداقته أن أضم هذه الكلمة تعليقاً على هذا الديوان. |
|